تمتد علاقات مصر بالقارة الأفريقية من أزمنة تاريخية طويلة، لكننا هنا لابد أن نبدأ بحضور مصر كدولة حديثة فترة نشوء الدول القومية في العقود الأخيرة. من هنا نرى أننا بالضرورة أمام دولة “محمد علي” التي أعقبت نظم العثمانية والمماليك. حيث بدأت مصر تشكل رقمًا ذا ثقل في شمال أفريقيا وبقية القارة. ورغم تطلع مصر محمد علي إلى النفوذ شرقي المتوسط، بل والحضور بقوة في البحر الأبيض المتوسط نفسه، إلا أنه كان يدرك أهمية إبراز مصر كدولة زراعية يعرف أن النيل عمادها، ولذا حرص على فرض نوع من الحضور على امتداد النيل، وواصل جهده في هذا الصدد أولاده وأحفاده من الخديويين والسلاطين والملوك.

لقد شعرت كثير من الدول الأفريقية بإمكان تأثير التطورات السياسية أو التنموية على مصائر دول مثل المشاطئة للمحيط الهندى والأطلنطي، حين تم حفر قناة السويس في ستينيات القرن التاسع عشر، بل أن الثورات الاجتماعية والسياسية المتتالية في حياة مصر الحديثة، كان لها صداها الكبير في أنحاء القارة، من ثورة عرابي ودعم أدوار الجيوش الوطنية إلى ثورة 1919 ودور الشعوب والقيادات الوطنية التي تصيغ حالة استقرار بدساتير ذات توجه ديمقراطي مدني حديث مثل دستور 1923، وكان لذلك صداه في مختلف المراحل، في السودان وتونس والصومال وليبيا، فضلاً عن أثر الدعم المصري للثورة الجزائرية بزعامات كاريزمية مثل “بن بلة”، ومع استمرار دور الجزائر الفعال في أنحاء القارة عقب ذلك.

ولا يعنى ذلك أن مسيرة مصر في أفريقيا لم تكن تواجه عشرات من الأخطاء التي ترتكب هنا وهنالك. فلم تكن أحداث زنجبار أو ما عرف عن “الثورة الدموية” وعدم قدرة مصر على حماية شعبها من المذابح التي وقعت هناك لم تكن أمرًا هينًا بل وأن معالجة العلاقة بـ”الثورة اللومومبية” لم تكن خالية من الخطأ. لكن “كاريزما” جمال عبدالناصر ومشاهد دعم الملايين له ومسيرته لم يستطع المناوئيون له حيًا أو غائبًا أن يؤثروا فيها ومن ثم في مكانة مصر.

وقد أثر على كل هذا الميراث سلوك نظام أنور السادات وادعائه أسلمة الدولة المصرية رغم سمعتها المدنية الديمقراطية، ولكن ذلك جعل كل مشاكل “الإسلام السياسي” والإخوان المسلمين تنال من اسم مصر المدني. وكان يبدو أن حكم مبارك العسكري الوطني قد يفيد هذه الصورة. إلا أنه ولثلاثين عامًا لم يضع علاقة مصر بأفريقيا موضع اهتمامه بها، بل يرصد له الباحثون الكثير من مصادر التجاهل للعمل المصري الأفريقي نتيجة اعتبارات عديدة خاصة بشخصيته وثقافته.

لا شك أن ثورة 2011 قد لفتت نظر كافة القوى من عسكريين ومدنيين إلى أن مصر تؤسس لعهد جديد يحقق مكانة بارزة جديدة. ولا بد أن حكومات ما بعد الثورة أخذت المسائل الأفريقية بجدية أكثر سواء بالمشاركة في التنظيمات الاقليمية أو تنمية التبادل التجاري والثقافي، وحتى مظاهر حضور القيادات لمعظم الاجتماعات التي تتم في أنحاء القارة. ثم أن ثمة مسألة دائمة، وهي النظر إلى حقيقة عزوف الرأسمالية المصرية أو الطبقة الوسطى المصرية تبدو عازفة عن التوجه جنوبًا نحو القارة، بدلاً من تعليق البصر على الشمال، وهذا مما لا يتيح توقعنا أن يحدث ضغطًا شعبيًا حقيقيًا من أجل التوجه إلى أفريقيا بالجدية الكافية، اقتصارًا على أساليب البيروقراطية المصرية التي تقوم “بإدارة الأمر الواقع” لا أكثر. وهذا الواقع يتعرض لتغييرات وضغوطات أو منافسات متعددة الاتجاه.