لا يظهرن على شاشات التلفزيون، لا يتلقين دعوات للمؤتمرات ولا الندوات حول وضع المرأة، ولا يذهبن لملتقيات الحكي النسوي، لا يعرفن المناصب ولا تُلقى على وجوههن أضواء الكاميرات، ولا يجلسن أمام ميكرفونات لطرح أفكار وحلول ومخاوف. يجلسن فقط أمام أقفاص الجريد المُحملة بالمنتجات المنزلية على الأرض في الأسواق. يقفن بالساعات أمام الأفران وشعلات النار لتحضير وجبات يبعنها لآخرين، تنحني ظهورهن لغسل السجاجيد في بيوت الأخرين، لا ينظرن في المرآة إلا لماما.. كل عام نتذكر رائدات الحركة النسوية مثل هدي شعراوي ودرية شفيق وقاسم أمين والمعاصرات مثل نوال السعداوي -وهم جديرون بالتذكر- ولكنني أعتقد أن هؤلاء النساء المنسيات أكثر بطولة ويستحقن التذكر في اليوم العالمي للمرأة.
( 1 )
أم وفاء.. أم لوفاء وثلاثة أطفال آخرين، تعمل خادمة في البيوت في أي وقت وأي مكان. لا تترد في تلبية طلبات المساعدة والتنظيف والطهي ورعاية الصغار. عرفتها في منزل أمي، سيدة سمراء طويلة قوية البنيان شاحبة الوجه دائمًا كبقية أبنائها.. ربما من سوء التغذية أو قلة الرعاية، كانت تدخر المال بخلاف انفاقها على البيت وعلى زوجها وسجائره ومجلسه في المقهى، تدخره لتجهيز ابنتها وفاء التي ستتزوج قريبًا، زوجها عامل بناء.. يجلس طويلاً في المنزل وفي المقهي، يعمل قليلاً جدًا، يتحجج بأن هذه “الشغلانة” لن تعود عليه بالمقابل المادي الذي يساوي تعبه، أو أن صاحب هذه “الشغلانة” الأخرى يعامله بشكل سيء.. أو أنه متوعك اليوم ولا يريد النزول للعمل.. حجج كثيرة أدت إلى أنه صار مع الوقت لا يذهب للعمل إلا كل شهر مرة، وإلى زيادة عدد ساعات عمل أم وفاء وزيادة الأعباء مع خطبة ابنتها الكبيرة، مع ذلك أتذكرها دائما تضحك، توزع البشاشة على صاحبات البيوت اللاتي يلجأن لخدماتها، لا ترفض عملاً لا تتذمر مطلقًا، أراها صلبة وقوية وصبورة، تأتي فرحة إلى أمي كلما تدبرت جزءًا من جهاز ابنتها وتخبرها بما اشترته.. يوم زواج وفاء وقفت بعيدًا تراقبها في رضا، بينما وقفت أنا اراقب في حزن أم وفاء لأنها كانت ترتدي نفس العباءة السمراء ونفس طرحة الرأس التي تلبسهما دائمًا ولكنها كانت سعيدة وفخورة.
( 2 )
السيدة المعيلة ليست فقط المطلقة أو الأرملة. بل قد يكون زوجها موجودًا معها في البيت، وتنفق هي عليه وعلى الأبناء، أو تزوج بأخرى ولم يعد ينفق عليها، أو قد يكون غير قادر على العمل، أو ربما هجرها ولم تعد تعرف أين هو، أو لا يريد العمل ويكتفي بتلقي مصروفه من زوجته في صفاقة وبجاحة وأحيانًا بعنف وضرب.
( 3 )
أم محمد.. أم لمحمد ولطفلين أخرين، تصنع الفطير والـ “كسكسي” وتخرج يوميًا للجلوس في السوق أمام طبقها الكبير، تعرف زبائنها تناديهم بالاسم، يفاصلونها في السعر فتضحك ولا تتراجع، تعرف الجمع والطرح وهي التي لم تمسك القلم والورق ولا عرفت الطريق للمدرسة، تجيد التعامل مع جميع الفئات، النساء الشعبيات والموظفات والرجال والفتيات، تدير تجارتها الصغيرة في السوق وحين تنتهي تعود للمنزل تصنع الغداء وتحث الصبيين على كتابة واجباتهم المدرسية، ثم تجلس إلى ماكينة الخياطة تُصلح رتوقًا وتثني أطراف الأثواب وتصنع الملاءات، ثم تقفز مرة أخرى لإناء كبير على النار تصعد منه الأبخرة تُعد عليه “كسكسي” لتبيعه غدًا صباحًا وتنحني لتطمئن لدرجة نضج الفطيرات، وتُسرع عائدة تستمتع للراديو وتُكمل حياكة الأثواب الجديدة والبالية، كنت منذ سنوات بعيدة من زبائنها أحب طعم فطائرها ورائحة الـ “كسكسي” المبخر، ذات مرة حكت لي عن نفسها: “أنا لازم أعمل كل حاجة بنفسي.. زوجي ليس عاطلاً فهو يعمل في إحدى ورش النجارة الكبيرة، لا أعرف شيئًا عن دخله ولا يعطيني إلا أجرة الشقة التي نسكنها في البدروم.. يعرف أنني أتصرف، وأنني لن أترك أبنائي دون طعام.. يعرف أنني لن أكف عن العمل لشراء الطعام ودفع مصروفات المدرسة البسيطة”.
بعد سنوات مررت عليها في بيتها لألقى عليها التحية فوجدتها طريحة الفراش، أو الأريكة بمعنى أدق، وجهها تغيرت معالمه، فقدت أسنانها كلها بمرور الوقت وبتأثير من أدوية الروماتويد على مر 15 سنة، تأثر كبدها كذلك، الأبناء كبروا وتزوجوا، والزوج لا يزال يُقطر عليها في علاجها وقليلاً -إذا ساءت حالتها للغاية- ما يذهب بها لطبيب في مستشفى حكومي ما، تجلس بصعوبة تحاول أن تبتسم لتُخفف عني حزني الذي أحاول بدوري أن أداريه ونحن نتجاذب أطراف الحديث والأخبار.
( 4 )
في نهاية عام 2019، أعد مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء تقريرًا بالأرقام عن وضع المرأة المعيلة في مصر، جاء فيه أن من أكبر المشكلات عدم استطاعة السيدات المعيلات الإنفاق على صحتهن، وعدم وجود دخل كاف لهن، وأخيرًا سكن بعضهن في أماكن لا توجد بها خدمات أساسية مثل المياه والصرف الصحي، ما يصعب من مسئولياتهن.
نسبة كبيرة من هؤلاء المعيلات دخلهن لا يكفي الأسرة ما ترتب عليه خروج بعض الأبناء من التعليم نتيجة قلة الدخل. كما أن أغلبهن غير متعلمات، وبالتالي تقل فرص العمل لديهن في القطاعات الرسمية لأن قدرات بعضهن محدودة.
ومن المعروف رسميًا أن هناك 33% من الأسر المصرية تُعيلها 18% من النساء، سواء في وجود زوج أو عدم وجوده، و41٪ من إجمالي العمالة غير الزراعية من الإناث، وآخريات يعملن في وظائف غير رسمية و34٪ من عمالة الإناث في أعمال هشة. كما أن 6.7% يعملن في قطاع الصناعات، 36.4٪ من الإناث يعملن في الزراعة و 56.8% يعملن في القطاع الخدمي. وتمثل المرأة المصرية 70٪ من القوى العاملة في قطاع الرعاية مدفوعة الأجر علاوة على ذلك، يمثل قطاع الرعاية المدفوعة في مصر حوالي 28-31٪ من إجمالي عمالة الإناث، وتزيد احتمالات عمل النساء في قطاع الرعاية المدفوعة بـ4 مرات أكثر من الرجال.
( 5 )
“طنط مديحة” أو هكذا كانت تُحب أن أناديها، مُعلمة لغة عربية تزوجت وجاءها عقد عمل في إحدى دول الخليج فسافر معها زوجها كمرافق، بحث عن عمل فهو مهندس زراعي، بعد عدة شهور وجد عملاً في أحد المناحل.. كانت تأتينا أخبارها كلما ذهبت أمي لزيارة أمها/قريبتها من بعيد، أنجبت على مدار سنوات طويلة 4 فتيات، وقررت أن تعود إلى مصر، كانت بينها وبين زوجها الكثير من الخلافات وزادت حدتها بعد العودة، فقرر أن يهجرها، ترك المنزل ذات صباح بدون أن تعرف أين ذهب، ظلت تعمل وتنفق على فتياتها حتى صرن في الجامعة وتخرجت اثنتان، يعشن جميعهن في منزلهن راضيات لا ينقصهن سوى سؤال أب، أو خبرًا من زوج. طنط مديحة صارت الأن في الخمسين من عمرها مهجورة بدون أن تعرف لماذا ولا لأين؟ سعيدة بفتياتها الشابات المتعلمات، فخورة بأنها أكملت المشوار دون كلل..أعالتهن جميعًا دون أن تطلب مساعدة أو نصيحة.
( 6 )
العام الماضي، شكل ظهور فيروس كورونا ضغطًا كبيرًا وأضاف مجهودًا زائدًا على النساء، خاصة العاملات في المجال الطبي “في تقرير رصد السياسات والبرامج الداعمة للمرأة للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد والذي صدُر عن المجلس القومي للمرأة أوضح أن النساء تشكل نحو 42.4٪ من الأطباء البشريين و91٪ من طاقم التمريض الذين يعملون بالفعل في وزارة الصحة، و73٪ من طاقم التمريض في المستشفيات والمرافق العلاجية في القطاع الخاص”. وأشار التقرير إلى أنه من المرجح أن تتعرض النساء اللاتي يعملن في القطاع القطاع الصحي للفيروس وتعرضهن للضغط هائل لتحقيق التوازن بين عملهن بأجر والأدوار الأخرى بغير أجر.. وشكل أيضًا عبئًا على العاملات بشكل عام خاصة مع توقف الدراسة وعدم وجود دعم ورعاية للأبناء أثناء تواجد الأم في عملها.
القلق والخوف من العدوى كانتا جزءًا من هموم أخرى دفعت هؤلاء النسوة للتواجد في العمل رغم المخاطر والصعاب. ورغم هذا استمرت النساء في تقديم أنفسهن قربانًا للحياة التي لم يعشنها في كنف رجل أو سند، إن لم يساعد أو يشاركهن، فعلى الأقل لن يكن عبئًا عليهن.
تحية إلى هؤلاء اللاتي لا يزلن يعملن بلا كلل وبعيدًا عن الأضواء.