يرتبط شهر مارس في مصر والعالم بتذكّر جهود النساء المناضلات في المجالين العام والخاص وما بينهما. وإذ نحتفل اليوم في مصر كما في العالم، باليوم العالمي للمرأة (8 مارس)، فإننا نتوقف أيضًا أمام يوم المرأة المصرية (16 مارس)، وهما تاريخان يرتبطان بمسار طويل لنساء مصر والعالم في المطالبة بحقوقهن الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. حيث تعود أصول الاحتفال بيوم 8 مارس كيوم للمرأة إلى مبادرة من نساء الحزب الاشتراكي الأمريكي في عام 1909. وهو الاحتفال الذي تم إقراره من قبل المؤتمر العالمي للنساء الاشتراكيات الذي عقد في الدنمارك في 1910. بينما احتفلت النساء الروسيات بيوم المرأة أول مرة في عام 1913. ثم تتابع الاحتفال به في مختلف الدول الأوروبية ودول العالم على مدار السنوات التالية ولأعوام ممتدة حتى قبل إقراره من الأمم المتحدة في عام 1977 باعتباره اليوم العالمي للمرأة. أما يوم 16 مارس، فهو اليوم الذي اعتمدته الأمم المتحدة كيوم للمرأة المصرية، بناءً على قرار مصر باعتبار ذلك اليوم، مرتبطًا بمشاركة النساء المصريات في الحركة الوطنية ضد الاحتلال البريطاني في إطار ثورة 1919.

وبهذه المناسبة أود أن أنظر من موقعي الحالي اليوم إلى بدايات القرن العشرين، وأتأمل أهم المطالب التي رفعتها النساء المصريات حينذاك، وذلك بدءًا من أول مطالب صاغتها النسويات المصريات في 1910 وتقدمن بها إلى البرلمان، مرورًا ببرنامج الاتحاد النسائي المصري الذي اشتمل على مطالب سياسية واجتماعية ونسوية حين صدوره في 1923، وانتهاءً بهموم ومطالب النساء وتحديدًا -نحن النسويات المصريات- اليوم ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين.

ولا يفوتني أن ألحظ وجود ثلاثة قضايا كبرى هي التعليم والأسرة والعمل السياسي، وهي كلها تشغل مساحات يتداخل ويتقاطع فيها العام مع الخاص. فتدور المسألة الأولى حول نضال النساء المصريات في بداية القرن الماضي في سبيل ضمان حق تعليم النساء بما يتجاوز مبادئ القراءة والكتابة والمعارف الأساسية والتربية المنزلية اللازمة لإعداد “المرأة الجديدة” التي ترقى لمستوى “الرجل الجديد” في عصر النهضة وزمن الحداثة. حيث نجد في كتابات ذلك الجيل الرائد من النسويات المصريات ربطًا مباشرًا بين التعليم والعمل، بداية من العمل في مجال التعليم نفسه والتمتع فيه بحقوق مساوية لحقوق المعلّم الرجل، وانتهاءً بالحق في الحصول على التعليم العالي واستكماله في بعثات خارجية بهدف العودة للمشاركة في بناء مصر الحديثة، وذلك في مواجهة تيارات رجعية كانت تضغط من أجل الإبقاء على النساء في البيت وتوظيف ما يتلقينه من تعليم في إطار الأسرة والمجال الخاص.

ولعلها هي نفس القضايا التي تمسنا -نحن النساء المصريات– اليوم، وبعد قرن من الزمان، حيث ما زلنا نسعى إلى الحصول على تعليم يؤهلنا للمنافسة في سوق العمل في ظل سياسات اقتصادية طاحنة وظروف اجتماعية تدفعنا إن لم تكن تشجعنا على الاكتفاء بالتعليم الذي يؤهلنا لأداء أدوار منزلية أو مشاركة في اقتصاد الأسرة، دون اعتبار أو احترام لطموح نسائي في المجال العام، إلا إذا كان محسوبًا ومشروعًا من وجهة النظر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

أما المسألة الثانية وثيقة الصلة بحق النساء في التعليم والعمل، فهي النضال المتواصل في سبيل تنظيم الحقوق والواجبات في إطار الأسرة، وتحديدًا فيما يعرف بقوانين الأحوال الشخصية. وهي مساحة وإن كانت تبدو قاصرة على المجال الخاص، إلا أنها تمتد خارج إطار الأسرة وتعبر عن موقف اجتماعي متكامل من علاقات القوى بين الجنسين. وقد أدركت النسويات المصريات منذ مطلع القرن العشرين، بل وفي كتابات متفرقة منذ نهايات لقرن التاسع عشر أهمية تنظيم العلاقات في إطار الأسرة والعائلة بما يضمن العدالة، وبما يعلي من قيم المعروف والإحسان لا القهر والاستغلال. ومن المضحك المبكي أن نجد أن مطالبنا -نحن النسويات المصريات- في هذا الصدد لم تختلف كثيرًا على مدار عشرات السنين، وإنما تطورت في بعض مناحيها بما يتماشى مع حركة التاريخ. فها نحن ما زلنا نتحدث اليوم، كما تحدثت جدّاتنا، عن أسس ومبادئ علاقة الزواج، وأدوار الأم والأب تجاه الأطفال، والحقوق والواجبات عند بناء الأسرة وعند الانفصال.

وهي قضايا تبدو كلها محصورة في المجال الخاص، في حين تمتد لتشغل مساحة أوسع خارج نطاق الأسرة في ارتباطها الوثيق بما يسود المجتمع من قوانين تنظم علاقات المواطنين والمواطنات، وما تشهده تلك القوانين من تراجع وتراخٍ وتمييز فيما يتعلق بتنظيم العلاقة بين المواطنة والمواطن اللذين تربطهما علاقة/عقد زواج، حيث تتدخل عناصر اجتماعية وثقافية نابعة من بنية المجتمع الأبوي لتنظم تلك العلاقة، وذلك العقد بما يعلي من سلطة الرجل على المرأة ويخل بالمساواة بين الطرفين. وهو ما ينعكس بدوره على العلاقة بين الرجل والمرأة، بما يتساهل مع استخدام الرجل لمختلف أشكال العنف ضد النساء، استنادًا إلى سلطة الزوج على الزوجة، وسلطة الأخ على الأخت، بل وسلطة الابن على الأم، وذلك في المجال الخاص، سواء في صور من العنف الجنسي أو المنزلي، والذي تمتد أذرعه إلى المجال العام ليتخذ أشكالاً أخرى من العنف الجنسي متمثلة في التحرش والاغتصاب، وكافة أشكال الاعتداء على النساء. ومن هنا ما زلنا -نحن النساء المصريات- نناضل منذ مطلع القرن الماضي وحتى يومنا هذا في مواجهة محاولات الارتداد خطوات إلى الوراء، وفي سبيل إحداث تغييرات في قوانين الأسرة والأحوال الشخصية بما يؤسس لمجتمع قائم على العدالة لا التمييز الظالم.

أما المسألة الثالثة فهي الخاصة بالحقوق السياسية، حيث أدركت النسويات المصريات منذ بدايات القرن الماضي أن من أهم ضمانات إحداث التغيير الاجتماعي هو المشاركة في التشريع وطرح مطالب النساء في القوانين، وهو ما لا يتأتى دون التمتع بعضوية المجالس النيابية والمشاركة في العمل السياسي. وقد كان حق الانتخاب والترشح في البرلمان من مطالب النساء المصريات التي لم يكفلها أول دستور مصري صدر عام 1923، ما جعل تلك القضية على رأس حركة نضال النسويات المصريات على مدار العقود، وذلك إلى حين صدور دستور 1956 الذي نص على تمتع النساء بحقوقهم السياسية أسوة بالرجال. ولكن العمل السياسي لا يقتصر على مجرد عضوية النساء في البرلمان والمجالس النيابية والمحليات فحسب، وإنما تعي النسويات المصريات اليوم أن الأمر لا يتوقف عند التمثيل وإنما يتخطاه إلى العمل من أجل ضمان حقوقنا -نحن النساء المصريات- وإلغاء كافة أشكال التمييز ضدهن من منطلق المواطَنة.

كما اتسع مجال المطالبة النسوية بالتمثيل السياسي بما لا يقصرها على مساحات العمل السياسي المباشر فحسب، وإنما بما ينطبق كذلك على حقوق النساء في شغل المناصب العامة ومواقع القيادة للمشاركة في صنع القرار. وهكذا ما زلنا -نحن النسويات المصريات- نتناقش اليوم حول حصص النساء في المقاعد النيابية، وفي المناصب العامة وهيئات الدولة، ويظل السؤال مطروحا عن أسباب حرمان النساء من العمل في هيئات قضائية وغيابهن تماما عن بعض المناصب العليا في الدولة مثل رئاسة الجامعات.

وختامًا، يثير يوم 8 مارس (اليوم العالمي للمرأة) الكثير من التأملات ويطرح المزيد من الأسئلة، ولعل أبرزها أننا ونحن نحتفل بيوم المرأة العالمي اليوم حين نتأمل موقعنا من منطلق تاريخي، نجد أننا ما زلنا نبني على ما بدأته جدّاتنا منذ ما يزيد على قرن من الزمان. ولا يفوتنا بالطبع أن نرى الخطوات التي مشيناها إلى الأمام، ولكننا كنسويات لا نكتفي بالنظر تحت أقدامنا وإنما ننظر دومًا إلى الأمام ونصبو إلى المزيد من الإنصاف والعدل، في نفس الوقت الذي نتلفت فيه يمينا ويسارا لنحدد موقعنا ضمن الحركة النسوية العالمية ومطالب النساء حول العالم – وهي مطالب حوالي 4 مليار امرأة في عالمنا اليوم، بما يذكرنا بمقولة إنجي إفلاطون وكتابها “80 مليون امرأة معنا” (1948)، حين أدركت أن مطالب النساء المصريات هي نفسها مطالب نساء العالم، ثم انطلقت إلى دراسة أوضاع النساء المصريات في كتابها “نحن النساء المصريات” (1949)، لتلهمنا بأهمية الرؤية التاريخية للواقع كقوة دافعة إلى الأمام.