في تطور جديد بين القاهرة وأنقرة، أشاد وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، السبت، بموقف مصر من التنقيب شرق المتوسط. معلقًا على خريطة مصرية لأول مزايدة عالمية للتنقيب عن البترول والغاز الطبيعي واستغلالهما لعام 2021. والتي التزمت وفق الإشادة التركية بـ”احترام الجرف القاري التركي”. وهو ما رأته أنقرة “تطورًا هامًا للغاية”. وقالت الرئاسة التركية معلقة عليه كما نقل المتحدث باسمها إبراهيم قالن، إنه يمكن فتح صفحة جديدة في علاقة تركيا مع مصر وعدد من دول الخليج.
مصر وتركيا.. الخلاف الذي بدأ بعد 2013
بدأ الخلاف بين الإدارة المصرية ونظيرتها التركية في أعقاب ثورة 30 يونيو من العام 2013. تلك الثورة التي أطاحت بحكم جماعة الإخوان، وبدأت معها مرحلة أخرى شهدت صراعًا سياسيًا بين القاهرة وأنقرة. فالرئيس التركي رجب طيب أدروغان أراد أن يزيد من نفوذه في المنطقة العربية بعد ثورات الربيع العربي، وذلك عبر حلفائه من الإخوان. بينما جاءت 30 يونيو قاضية على أحلامه. وهو أمر أشعل حالة الشحن التي تزايدت بالحرب الإعلامية بين البلدين بعد استضافة تركيا رموز الإخوان الهاربين.
إلى هنا بقي الأمر بين البلدين غير متجاوز طبيعة حرب التصريحات الإعلامية. لكن في العام 2019، زادت أنقرة من تفاقم الوضع بإعلان توقيع اتفاقية التعاون الأمني وترسيم الحدود البحرية مع ليبيا. وهي أزمة وصلت توابعها حد التهديد بالتصعيد العسكري بين البلدين. في ظل دعم تركي واضح لحكومة الوفاق في حربها ضد الجيش الليبي المدعوم من مصر والإمارات. قبل أن توقف الجهود الدولية هذا التصعيد عند حدود سرت-الجفرة بعملية سياسية أفرزت حكومة ليبية جديدة، وآمال بحل قريب للأزمة المهددة لحدود مصر الغربية.
تركيا: هناك إمكانية لاتفاق مع القاهرة
لم يتوقف تردي العلاقات بين مصر وتركيا عند حد الحرب الإعلامية بين البلدين والصراع حول ليبيا. بل تحولت منطقة شرق البحر المتوسط إلى محطة جديدة لهذه المواجهة -وربما لاحقًا نقطة بداية لعودة الوفاق- فبموجب الاتفاقية الليبية-التركية في العام 2019، توسعت أنقرة في أنشطة التنقيب عن الطاقة في مناطق تقول اليونان وقبرص إنها تابعة لهما.
هذه الاتفاقية اعترضت عليها مصر أيضًا. وقالت إنها غير قانونية. بينما في المقابل، وضعت مع اليونان اللمسات الأخيرة على اتفاق لترسيم الحدود البحرية في 6 أغسطس 2020. وهو ما كان ينذر بتوتر جديد في هذه المنطقة المهمة اقتصاديًا وعسكريًا.
لكن ورغم ذلك تجنبت القاهرة الصدام مع تركيا في هذا الملف. خاصة في إعلانها طرح أول مزايدة عالمية للتنقيب عن البترول والغاز الطبيعي واستغلالهما لعام 2021. فقد أخذت مصر بعين الاعتبار حدود الجرف القاري لتركيا، في الإعلان الذي صدر عنها في 18 فبراير الماضي حول المناقصة، التي تغطي 24 منطقة للتنقيب في خليج السويس والصحراء الغربية وشرق وغرب البحر المتوسط.
حددت الخريطة المصرية للمناقصة المناطق الغربية في المتوسط بموجب الاتفاق المبرم بين القاهرة وأثينا. غير أنها أشارت إلى أن المساحة الأخرى الواقعة شرق خط الطول 28، تحدد الحدود الجنوبية للجرف القاري التركي المشار إليها في الاتفاق التركي الليبي. وهو ما أشادت به تركيا على لسان وزير دفاعها خلوصي أكار. إذ قال -في أول تصريح رسمي بشأن هذه الخريطة- إن مراعاة مصر لـ”الجرف القاري التركي” خلال قيامها بأعمال التنقيب عن الطاقة في شرق البحر المتوسط “يعتبر تطورًا مهمًا للغاية”. وأضاف: “نرى إمكانية حدوث تطورات مختلفة في الأيام المقبلة”. ذلك في إشارة إلى احتمال تقارب مصري تركي وشيك.
بينما ألمح أيضًا إلى إمكانية التوصل لاتفاق مع مصر. وقال: “هناك إمكانية إبرام اتفاقية أو مذكرة تفاهم مع مصر في الفترة المقبلة، بما يتماشى مع اتفاق الصلاحية البحرية المبرم مع ليبيا، المسجل لدى الأمم المتحدة”.
القاهرة: نرصد الأفعال لا التصريحات
لم تكن تلك المحاولة الأولى من الجانب التركي لتهدئة الأوضاع مع الجانب المصري. إذ سبقتها تصريحات لمسؤولين أتراك من شأنها أن تكون بمثابة خطوات إيجابية تسير عليها تركيا في طريق الوصول إلى مصر.
كان من بين محاولات التقارب تلك ما أعلنه ياسين أقطاي مستشار الرئيس التركي عن وجود اتصالات على مستوى المخابرات بين القاهرة وأنقرة بشأن ليبيا. وأيضًا ما صرح به المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، في أكتوبر الماضي، بشأن رغبة بلاده في إعادة العلاقات مع مصر. وكذلك تصريحات وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، بأن “تركيا ومصر قد تتفاوضان على ترسيم الحدود في شرق البحر المتوسط إن سنحت الظروف”.
رغم ذلك، في سبتمبر الماضي علق وزير الخارجية المصري سامح شكري، على التصريحات التركية بشأن التقارب الوشيك، خاصة فيما يتعلق بالملف الليبي. قال: “نحن نرصد الأفعال، إذا لم يكن هذا الحديث متفق مع السياسات لا يصبح له وقع أو أهمية”. بينما حمل تركيا المسؤولية عن انتهاج “سياسات توسعية مزعزعة للاستقرار في المنطقة”.
أضاف شكري أن “جميع ما يحدث لا يقود إلى حوار أو تفاهم لبدء صفحة جديدة”. وأكد أن الأمر ليس بما يصرح به. وإنما بأفعال وسياسات تعزز من الاستقرار وتتسق مع العلاقات والشرعية الدولية وهذا ما يهمنا في تلك المرحلة.
وفي فبراير الماضي بدا كأن التقارب الذي تحدث عنه المسؤولون الأتراك لا يخرج عن كونه حديثًا للإعلام. فقد قال شكري إن بلاده “لا تقيم وزنًا” لتصريحات أنقرة التي انتقدت منتدى “فيليا” الذي عقد في أثينا. وكان ذلك تعقيبًا على تصريحات الخارجية التركية، التي جاء بها أنه “لا يمكن لأي منتدى لا توجد فيه تركيا المحورية في المنطقة والقبارصة الأتراك، أن يشكل آلية صداقة وتعاون ناجح وفعال من ناحية الاختبارات التي تواجهها المنطقة”.
هذا كله يبرز أنه رغم محاولات التقارب التركية لا يزال القلق المصري على حاله. وهو قلق ينبع -وفق التصريحات المصرية- من تخوف القاهرة من أطماع أنقرة التوسعية في المنطقة. ويعززه موقف إدارة أردوغان من الإدارة المصرية بعد يونيو 2013. وهما أمران تنتظر مصر معالجتهما التركية بشكل أكثر واقعية، قبل أي تقارب حقيقي بين البلدين.
مصر وتركيا.. علاقات تجارية جيدة
على عكس العلاقات السياسية والدبلوماسية المتردية إلى الآن، بين مصر وتركيا تقارب تجاري يرجع إلى 27 ديسمبر 2005، حينما وقعتا اتفاقًا للتجارة الحرة، دخل حيز النفاذ في أول مارس من العام 2007. ومنذ هذا التاريخ تشهد العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا استقرارًا استمر حتى بعد إسقاط الرئيس الأسبق محمد مرسي، وتصاعد العداء السياسي بين البلدين. فقد يسجل العام 2018 رقمًا قياسيًا في حجم التبادل التجاري بين البلدين. بعد أن بلغ إجمالي الصادرات التركية إلى مصر 3.05 مليار دولار، بزيادة 29.4 ٪ مقارنة بالعام 2017. بينما بلغت الصادرات المصرية إلى تركيا 2.19 مليار دولار، بزيادة قدرها 9.68 ٪ عن نفس الفترة الزمنية للعام السابق.
وحتى مع التراجع في حجم التبادل التجاري بنسبة 10% تقريبًا خلال العام الماضي 2020، لا يزال هذا الجانب من العلاقات بين مصر وتركيا مهمًا ورقمًا في المعادلة الاقتصادية لكلا البلدين. فـتركيا تحتل المركز الثالث بين أكبر الأسواق التي تتلقى الصادرات المصرية بقيمة 1.6 مليار دولار. بينما هي -تركيا- خامس أكبر مورد للسوق المصرية بقيمة 3.06 مليار دولار.
قوتان متقاربتان في شرق المتوسط
تظهر أحدث إحصائية لعام 2021 بمؤسسة “جلوبال فاير باور” المختصة بالشؤون العسكرية للدول، تقاربًا واضح بين قدرات الجيشين المصري والتركي. وإن كان مستوى التطور التكنولوجي والحداثة يلعبان دورًا كبيرًا في تحديد قدرات الجيوش.
فحسب التصنيف العالمي، يحتل الجيش المصري المرتبة الـ13 عالميًا في قائمة أقوى جيوش العالم لعام 2021. بينما يحتل نظيره التركي المرتبة الـ11 عالميًا من بين 139 دولة، والثانية بين جيوش حلف الناتو. كما يبلغ عدد أفراد الجيش المصري 450 ألف جندي فاعل، و480 ألف جندي في قوات الاحتياط. فيما يبلغ مجمل عدد أفراد الجيش التركي 355 ألف جندي فاعل، و380 ألف جندي في قوات الاحتياط.
أيضًا، يمتلك الجيش المصري 1053 طائرة حربية متنوعة، بينها 250 مقاتلة، و88 طائرة هجومية، و59 طائرة شحن عسكري. إضافة إلى 341 طائرة تدريب، و304 مروحية عسكرية منها 91 مروحية هجومية. في وقت يمتلك نظيره التركي 1056 طائرة حربية، منها 206 مقاتلة بالإضافة إلى 80 طائرة شحن عسكري و273 طائرة تدريب. وكذلك 471 مروحية عسكرية منها 104 مروحية هجومية.
ولدى الجيش المصري أكثر من 3735 دبابة و11000 مدرعة و1165 مدفع ذاتي الحركة وأكثر من 2200 مدفع ميداني. إضافة إلى 1235 راجمة صواريخ. في حين يمتلك نظيره التركي 3045 دبابة و11630 مدرعة. هذا بالإضافة الى 943 مدفع ذاتي الحركة و1200 مدفع ميداني و407 راجمة صواريخ. وهنا التفوق لصالح مصر من حيث عدد الدبابات.
كما أن التفوق يبدو أيضًا لصالح مصر بحريًا. فأسطولها البحري يضم قرابة 316 قطعة بحرية منها 8 غواصات. إضافة إلى 50 سفينة دورية و9 فرقاطات و7 طرادات و23 سفينة متخصصة بالألغام. بينما تمتلك تركيا قرابة 149 قطعة بحرية منها 12 غواصة و16 فرقاطة و10 طرادات. إضافة لـ35 سفينة دورية و11 سفينة متخصصة بالألغام. وفي حين تصل ميزانية دفاع الجيش المصري إلى 10 مليار دولار. تتفوق تركيا بـ 17.300 مليار دولار سنويًا هي ميزانية الدفاع لديها.
لماذا التقارب أفضل؟
لمصر وتركيا ثقل تاريخي وعسكري كبير بالمنطقة. كما أن علاقتهما متداخلة بشكل كبير. فهما أكبر دولتان تضمان غالبية مسلمة في شرق البحر الأبيض المتوسط.. وكل منهما تعتبر نفسها قوة إقليمية في المنطقة. كما أن كلا منهما تحتاج الأخرى، وإن كان هذا الاحتياج يقتصر حاليًا على التبادل التجاري الكبير.
هنا على تركيا إيجاد حل يقنع مصر بأنها لا تسعى لفرض سيطرة أنهتها القاهرة في عهد محمد علي بشبه استقلال عن الإمبراطورية العثمانية في 1867، ووأدتها تمامًا ثورة 1952 بإسقاط الحكم الملكي عن البلاد. كما أن الدولتين عليهما بدء تقارب سياسي حقيقي يعتمد سياسة المصلحة العليا لا الخلاف السياسي. وهو تقارب قد يكون الأمثل لهما معًا. لكنه أيضًا يبقى مرهونًا بأن تتخذ أنقرة خطوات جادة بشأن موقفها من الإدارة المصرية ودعم الإخوان ومحاولات تهييج الوضع الداخلي المصري من الخارج. وهو شرط تتمسك به مصر دومًا في مقابل كل مغازلة سياسية تركية.
وبعيدًا عن كل ذلك، وبالنظر إلى التشابه الكبير في الحالتين المصرية والتركية. لا سيما في التعداد السكاني، وحجم الجيشين وتعدادهما. فضلاً عن العوامل التاريخية والدينية المشتركة، لا شك أن أي تعاون محتمل يتجاوز الخلافات بين مصر وتركيا هو تعاون مفيد لكلا البلدين وفي كثير من الملفات، منها ليبيا على سبيل المثال والتي نجحت مصر في دعم الجهود السياسية بها بينما لا تزال ترتبط مع تركيا باتفاقية ترسيم حدود أعلنت الحكومة الليبية الجديد التزامها بها.
أيضًا التقارب المحتمل يدعم وجود كلا البلدين (مصر وتركيا) في منطقة شرق المتوسط. كما أنه يضيف إلى قوتهما الإقليمية بشكل كبير في منطقة تفتقد في الأساس للاعب محلي قوي. وهو تعاون يحبط أي محاولة خارجية لضرب هاتين القوتين ببعضهما البعض، فيما يُمكن أن يطلق عليه “نظرية توازن الضعف“. كما يحدث في الشرق الأوسط بين السعودية وإيران، على سبيل المثال.