لطالما شابت علاقة السلطة بالمجال الثقافي التردد، فبين من يملك القدرة على شرعنة وتمويل الفكرة، وصانع محتواها، تظل معركة الفن مستمرة كرًا وفرًا. بينما تنتظر الجماهير الفرصة للتعلم والترفيه.

من المعلوم بالضرورة صعوبة الوصول إلى العدالة الثقافية في غياب مجتمع مدني حيوي. كما لا يمكن أن يتحقق وجود هذا المجتمع دون أن تكون التشريعات والبنى التحتية مواتية ومرنة ومحفزة لاستثمار رأس المال الاجتماعي الثقافي.

بالمنطق نفسه، خلقت ثورة 25 يناير فرصة جديدة لعودة الجماهير إلى أحضان الثقافة والترفيه. ومن ثم التعلم، والانخراط في خلق محتوى يناسب تطلعاتهم، واحتياجاتهم. ذلك بمعزل عن السلطة.

يرى الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد أن ثورة يناير كان لها الفضل في حراك ثقافي غير مسبوق، إذ ظهرت فرق الشارع، وأصبحت الميادين للجميع، وسمح مناخ الحرية بمساحة للإبداع، صنع خلالها الجمهور بنفسه محتوى مناسب لطموحه ومزاجه العام. لكن بعد أعوام على الثورة انحسر المد، وابتعدت الجماهير. بعد أن بات النشاط الثقافي رهن التصريحات الأمنية، ليعود ميزان العدالة الثقافية إلى الاختلال.

يؤكد زين العابدين أن العيب ليس بالجمهور، الذي متى ما رأى الفرصة سانحة أمامه للتثقيف والترفيه، انتهزها بكل قوته. كما أن لمناخ الحرية ولو بشكل نسبي تأثير على ذلك.

في حين تشير الكاتبة فاطمة المعدول بأصابع الاتهام إلى المثقف نفسه. تقول: “كنت أتوقع أن تكون ثورة يناير مناسبة للعودة بقوة من خلال الشارع، عبر المثقفين المصريين كلاعبين أساسيين، والضغط من أجل ميزانيات أكبر، وإنجازات أكبر في خدمة الجماهير”.

لكن، للأسف كانت النخبة الثقافية تبحث عن مكاسبها الشخصية الآنية والصغيرة، ونسيت، أو تجاهلت أن الاستثمار الأجدى والأعظم الذي سيعود على المجتمع، وعلى المثقف ذاته هو العمل مع ومن أجل الجماهير، فالشعوب الجاهلة وغير المثقفه عدوه بطبيعتها للثقافة، كما تضيف المعدول.

“من لم يهزه العود وأوتاره، والربيع وأزهاره، والروض وأطياره، فهو مريض المزاج يحتاج إلى علاج”

 الإمام أبي حامد الغزالي

موقف التثقيف والترفيه من ميزانية الدولة

كشفت إحصائية للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء انخفاض إنفاق المصريين على الثقافة والترفيه خلال السنوات الأخيرة، كأحد المحاور التي تناولها بحث عن الدخل والإنفاق والاستهلاك وخريطة الفقر لعام 2018.

الإحصائيات الرسمية تؤكد أن الطعام والشراب يستحوذ على نصيب الأسد من الإنفاق السنوي. ذلك بمتوسط 37.1% من إجمالي الإنفاق الكلي السنوي للأسرة. فيما بلغت نسبة الفقر من نفس العام 32.5%، كما يتركز أغلبه بمحافظات الجنوب.

في العام 2018 أيضًا، تصدّرت مصر الدول العربية الأكثر بؤسًا اقتصاديًا. وذلك حسب “مؤشر البؤس”، الذي يصدره موقع “بلومبرج”. إذ احتلت المرتبة الرابعة من بين 66 دولة أخرى. ويعتمد المؤشر على ارتفاع المستوى العام للأسعار، والتضخم. بالإضافة إلى البطالة. وهي اعتبارات تحدد بشكل كبير مدى شعور مواطني تلك الدول بجودة الحياة الاقتصادية.

في ظل الأرقام التي تعبر عن واقع اقتصادي مرير، ينظر الجماهير للثقافة عبر المؤسسات الحكومية والأهلية، كمتنفس يكلفهم أقل القليل. خاصة في محافظات الظل، الأكثر بعدًا عن العاصمة.

رغم ذلك، يتسم الدعم الحكومي للثقافة بالثبات. إذ تضم وزارة الثقافة ما يزيد عن 34 ألف موظف يعملون داخلها ويقتطعون الجزء الأكبر من ميزانيتها، التي بالكاد تغطي احتياجاتها. وهي لا تزيد عن 0.2 % من إجمالي الموازنة العامة للدولة المصرية.

الفن في مواجهة التطرف

يشير زين العابدين فؤاد إلى أن إتاحة الترفيه والتثقيف للجماهير لا يجب أن يكون اختياريًا. فإطلاق طاقات الناس الفنية والتثقيفية، يعد أحد التدابير الفاعلة في مواجهة التطرف والإرهاب.

كما أن انزواء هذا النهج، وتجاهله، يفتح المجال أمام التيارات التكفيرية، التي وصلت بدورها إلى عقول الناس، بل إلى عقر كليات الفنون الجميلة ذاتها، كما يقول زين العابدين، الذي يعتبر أن مجافاة العدالة الثقافية بدأ بعدد من الاختفاءات، مثل اختفاء مكتبة المدرسة، والحصص الفنية والمكتبية، في المدارس الحكومية، وغياب الاهتمام الإعلامي بتلك المجالات.

ويذكر زين العابدين بأن الاهتمام الكبير بالثقافة والترفيه من خلال الراديو والتلفزيون كان مضاعفًا حين كانت القنوات المتاحة قليلة جدًا، بينما تلاشى هذا الزخم بعد أن أصبحت أعداد تلك المحطات بالمئات. وهو أمر يستدعي النقاش حول هذه الأزمة.

“451 فهرنهايت”

في تقرير تحت عنوان “451 فهرنهايت على الطريقة المصرية”، أشارت الشبكة العربية لحقوق الإنسان لوقائع حرق كتب وحصار وغلق مكتبات ودور ثقافة في مصر. وذكرت أن ثمة سياسات عامة تستهدف الكيانات الثقافية. لافتةً إلى أن عمليات الإغلاق تلك لم تفرق بين أنشطة لمبادرات ومؤسسات أهلية يملكها ويديرها مواطنين أو شركات خاصة وأخرى لمؤسسات عامة مملوكة للدولة. فلا فرق بين مسرح ومكتبة ومنتدى ثقافي أو دار نشر. الإغلاق لا يستثني أحدًا.

المادة 67 من الدستور المصري: “حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك”.

 

من الأمثلة التي أوردها تقرير الشبكة العربية للتدليل على حال مؤسسات التثقيف، محاولات هدم مسرح الأربعين -أسس في 1989- في محافظة السويس عام 2014. والذي يُعرف باعتباره ملاذًا للفرق الشعبية بالمحافظة.

أيضًا، تردد الحديث عن هدم مسرح البالون والسيرك القومي لبيع أراضيهما. إذ تقدمت إحدى نواب الشعب عام 2019 باقتراح للمجلس، يقضي بنقل المنشأتين من منطقة العجوزة، لاستغلال الأرض المقامين عليها في مشروعات أخرى. وقد لاقى هذا الاقتراح رفضًا تامًا من المثقفين المصريين والفنانين الذين دشنوا حملة توقيعات تفاعل معها عدة فنانين ومثقفين.

وبين الحين والآخر، تردُ أخبار تخص هدم بعض القصور الثقافية، واستبدالها بمبان تجارية. تلك المؤسسات التي يرجع تأسيسها إلى “دولة يوليو”.

الثقافة الجماهيرية وهزيمة يوليو

مرت علاقة المثقفين بالسلطة ومن ثم الجماهير خلال الفترة الناصرية بمراحل متفاوتة. فقد أبدت دولة يوليو في بدايتها اهتمامًا ملحوظًا بالمؤسسات الثقافية، وسارعت إلى إنشاء أول وزارة للثقافة في تاريخ مصر بقيادة الراحل ثروت عكاشة. ومن هنا، بدأت تتبلور فكرة “الثقافة الجماهيرية”، على يد الراحل سعد كامل. وقد هدفت في بدايتها إلى نشر الثقافة في القرى والنجوع والمناطق النائية التي لم تنل نصيبها من الثقافة، وتطورت في مسماها إلى ما وصلت إليه حاليًا؛ “هيئة قصور الثقافة”.

في هذا الصدد، تقول المعدول التي عملت سنوات طويلة في خدمة الثقافة الجماهيرية: “بدأت دولة يوليو عهدها بخطوات جيدة في اتجاه الثقافة، وحرصت على نشر قصورها في كافة أنحاء الجمهورية، حتى تجاوزت 600 قصر”.

ترى المعدول أن الثقافة الجماهيرية جهاز ينحاز للناس ويجب أن يعمل من أجل رفع الوعي لدى الجماهير ضد كل الممارسات الضارة في المجتمع. وهي من هذا المنطلق وبحكم طبيعتها ومبرر وجودها لا يمكن أن تكون مع السلطة أو التابعين لها.

هذا ما يمنح الثقافة الجماهيرية نقطة قوتها وضعفها في آن واحد. فهي على يسار السلطة بشكل واضح، وربما هذا يفسر محاولات إفراغها من محتواها، بل وضربها بشكل موجع من السلطة الحاكمة.

حدث الصدام الأول بين الثقافة الجماهيرية وبين السلطة بعد هزيمة 1967، حيث تزعزع وضعف إيمان المثقف المصري بثورة يوليو. خاصة بعد استبعاد مؤسسها  السياسي والمفكر الكبير سعد كامل. بينما كانت الضربة الثانية مع استبعاد باعث نهضتها الثانية المثقف الوطني سعد وهبه، في أعقاب اتفاقية كامب دافيد، لتدخل الثقافة عقب ذلك في متاهات أبعدتها عن فكرتها الأساسية.

تقول المعدول: “لم يبق الحال على ماهو عليه بعد هزيمة 67، ساءت علاقة عبدالناصر بالمثقفين، وانسحبوا من مؤسسات الثقافة الحكومية، وطالت حالة الخصام حتى وفاته”.

لاحقًا، ارتفعت ميزانية القصور بشكل كبير، ولكن في صالح الهيكل البيروقراطي المكون لها، وتشعبت الإدارات، وتضخم عدد الموظفين، وتحول أغلب ميزانيتها إلى الإنفاق على الرواتب لا الأنشطة.

الثقافة والفن في القرى والمحافظات

بالرغم من ذلك لعبت مؤسسة الثقافة دورًا فاعلاً في القرى والنجوع التي لم يكن لها  حظًا من قبل في التثقيف، مثلما الحال في المدن. فكانت العروض تجوب الشوارع، مستقطبة كل الفئات والطبقات، وأصبح الجمهور صانع للثقافة، فاعلاً لا مفعولاً به.

في أحد تقاريرها، تشير إلى ذلك مؤسسة حرية الفكر والتعبير، وتؤكد على دور هذه القصور في المحافظات. خاصة بعد التضييق الأمني الواسع على الأنشطة الإبداعية خلال الآونة الأخيرة. لقد أصبحت قصور الثقافة بمثابة المنفذ الأخير للنشاط الإبداعي في الأقاليم.

على الجهة الأخرى، يشير الشاعر زين العابدين إلى أن هزيمة يوليو لم تمنع المثقفين من استئناف نشاطهم. ففي أواخر الستينيات كانت الأمسيات الشعرية تجوب القرى، ويحضرها آلاف الفلاحين. أيضًا برز مسرح القهوة بقيادة ناجي جورج.

يتذكر زين العابدين إحدى الأمسيات العظيمة للشاعر الروسي ايفيتشنكو، في دار الأوبرا المصرية القديمة، عام 1969. حين عجز المسرح عن استيعاب الجمهور، وامتلأت الشوارع الجانبية للمبنى بالحضور، فاضطرت الإدارة إلى وضع الميكروفونات على مداخل الحارات.

بينما تعود فاطمة المعلول لتؤكد على مكانة الثقافة الجماهرية. فهي ليست مجرد مؤسسة أو هيئة حكومية تابعة لوزارة الثقافة، بل الكيان الوحيد الذي يملكه الناس، بكافة خلفياتهم الاجتماعية والطبقية. ورغم إمكاناتها الضعيفة فتحت أبواب مجالات لم تكن مطروقة، ولم يُلتفت إليها، مثل ثقافة الطفل.

تقول المعدول عن ذلك: “كانت البداية مع مركز ثقافة الطفل الذي تأسس في الستينيات من القرن الماضي كمركز وحيد في جاردن سيتي. بإمكانات مادية شبه معدومة. لم يكن الأمر يحتاج إلا لمثقف مخلص لأفكاره، لا يسعى لأي امتيازات، أو كاميرات”.

الثقافة “كعب داير” بين الدستور والقانون

تنص المادة 67 من الدستور المصري على لا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري”. أما المادة 178 من قانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937 فتنص على “يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من نشر أو صنع أو حاز بقصد الاتجار أو التوزيع أو الإيجار أو اللصق أو العرض مطبوعات أو مخطوطات أو رسومات أو إعلانات أو صورًا محفورة أو منقوشة أو رسومًا يدوية أو فوتوغرافية أو إشارات رمزية أو غير ذلك من الأشياء أو الصور عامة إذا كانت خادشة للحياء”.

التناقض بين المادتين يميل مؤخرًا لجهة الحل الأمني. إذ تعد وزارة الداخلية الجهة صاحبة سلطة التصريح بالتصوير في الأماكن العامة. وكذلك القبض على من يقوم بالتصوير، أو القيام بعروض فنية أو ثقافية، دون إذن. وذلك وفقًا لتقرير مؤسسة حرية الفكر والتعبير “أفتي“.

طبقًا لـ “أفتي”، تتدخل الأجهزة الأمنية أيضًا بالرقابة، والتحكم في نشاط إنتاج الفيديو بأشكال أخرى مثل التدخل في الأعمال الفنية بالتعديل، أو المنع بعد تصويرها وهو الدور المخول لجهاز الرقابة على المصنفات الفنية دون غيره.

هذا التدخل أوردته “أفتي” فيما يواجهه العاملون بقصر ثقافة بني سويف من صعوبات كبيرة في الحصول على الإجازة الأمنية لإقامة العروض العامة. وقد أدى ذلك على سبيل المثال إلى صدور قرار من محافظ بني سويف بوقف نشاط قصر الثقافة في العام 2016. ذلك بناءً على طلب من الحماية المدنية.

سرعان ما انتشرت الأخبار حول ممارسات الحماية المدنية التعسفية، ضد قصر ثقافة بني سويف. خاصةً بعد إعلان رئيسه محمد عبد الوهاب تقديم استقالته من إدارة المكان، لما تعرض له من إهانات، وصلت حد وصف أحد ضباط الحماية المدنية للقصر بأنه “بيت للدعارة”.

“الفن ميدان” رهن التضييق الأمني

تقرير الشبكة العربية “451 فهرنهايت” يشير إلى توقف نشاط مهرجان “الفن ميدان” كمبادرة ثقافية تقام شهريًا، بطلها الجمهور، ونموذج آخر للتضييق الأمني، وكذلك اختلال ميزان العدالة الثقافية.

“الفن ميدان” مهرجان ثقافي وفني كان يقام شهريًا منذ 2 أبريل 2011 في ميادين القاهرة، ومحافظات مصر أيضًا، هدفه نشر الثقافة والفنون وتقديم تلك الخدمات الفنية والإبداعية للجمهور بشكل مجاني. وكانت الاحتفالية تعتمد على الجهود التطوعية للمنظمين وأبرزهم الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد والتبرعات من الأفراد والمؤسسات.

الشاعر زين العابدين مؤسس “الفن ميدان” يبدي أسفه لتوقف نشاط المهرجان. وهو يرجع الأمر للأسباب الأمنية. “حيث كان من المعتاد أن يتم التصريح بإقامة الفاعلية في ميدان عابدين عبر مبنى المحافظة، حتى جاء العام 2014، حين بدأ التضييق الأمني بإنكار المحافظة منحنا التصريح، وضرورة اللجوء للجهات الأمنية متمثلة في قسم عابدين”.

لاحقًا، تذرعت الجهات الأمنية بضرورة تغيير المكان، ورغم موافقة القائمين على المشروع، رفض المسؤولون منحهم التصريح مرة أخرى حتى اليوم، من دون توضيح للأسباب، طبقًا لزين العابدين.

يعدّد الشاعر إنجازات المشروع في استيعاب طاقات الجمهور، وخلق الفرص أمامه، خلال سنوات نشاطه. حيث كانت فعالياته تجوب المحافظات كافة. بينما تتشارك الفرق المغمورة في تلك المناطق، العروض، من النيل إلى أسوان.

وظهرت من خلاله فرق مثل “الأولة بلدي”، و”مسرح الشنطة”، وورش فنية وأنشطة تهتم  بالأطفال. فضلاً عن فرق المناطق، التي لم تتيح لها التفاوتات الطبقية، ومساحات الحرية الظهور من قبل، وحينها عادت الميادين ملكًا للناس.