“نشرت الصحف الخبر، فتجمع الناس أمام المدرسة السنية، ينتظرون خروج هذه الفتاة الغريبة التي تقدمت للحصول على البكالوريا، وعندما ظهرت النتيجة نجحت الفتاة المغامرة بتفوق”.
بهذه الكلمات يصف المؤرخ والأديب الراحل صلاح عيسى “الحدث الجلل” الذي وقع عام 1907، حين تقدمت التلميذة نبوية موسى لامتحان البكالوريا (الثانوية العامة)، وأصرت على خوض الامتحان رغم مقاومة وزارة المعارف لطلبها، ومحاولة المستر دنلوب – المستشار الإنجليزي لوزارة المعارف – أن يثنيها عن عزمها، ثم نجاح “نبوية” في الامتحان، ومشوارها العظيم الذي لم ينته فقط بأن أصبحت أول ناظرة ومفتشة مصرية تعرفها وزارة المعارف، بل أسست عددا من مدارس البنات في القاهرة والإسكندرية، وأمضت عمرها تشجع على تعليم البنات.
وحتى تكوّن فكرة عن “غرابة” ما أقدمت عليه نبوية موسى، التي يصفها عيسى في كتابه “هوامش المقريزي” بـ “المصرية الباهرة”، يكفي أن تعرف أنها حين تقدمت لامتحان الابتدائية سنة 1903، كانت واحدة من 11 فتاة فقط، بينما كان عدد من يخوضون الامتحان من الذكور 3783 تلميذا. أما كونها أول فتاة مصرية تمتحن وتحصل على شهادة الثانوية (البكالوريا)، فيكفي أن تعرف أنه “حدث” لم يتكرر مجددا إلا سنة 1928، بعد 21 عاما كاملة من خوض نبوية امتحانها في مدرسة السنية بالسيدة زينب، في قاعة خصصت لها وحدها، بينما امتحن الذكور في المدرسة الخديوية بدرب الجماميز.
اليوم، بعد 100 عام من تلك القصة، قد تبدو لك حكاية تجمهر الناس لمشاهدة فتاة خارجة من امتحان مدرسي أمر أقرب إلى الخيال، وسيبدو التشكيك في قدرة أي فتاة على خوض امتحان الثانوية العامة أمرا مضحكا، فالفتيات يتقدمن بالفعل صفوف المتفوقين بالثانوية كل عام ويسيطرن على أغلب مراكزها ولا يثير ذلك أي استغراب، ولا يعتبر خوضهن تلك الامتحانات خروجا على التقاليد حتى في أكثر “الدول” تشددا، ولا شك أن لكفاح نبوية ومثيلاتها الأثر البالغ في تحقيق ذلك التغيير، لكن الأثر الأبلغ هو للزمن، قوة الوجود الساحقة التي لا تتوقف عن الحركة و العجلة الهائلة التي لا تتوقف عن الدوران، وتجعل ما بدا غريبا أول أمس، يبدو طبيعيا أمس، وبديهيا اليوم. حتى الغرب الذي بدأ ينفض عصوره الوسطى قبل 500 عام، وأسس جمهورياته وملكياته الدستورية قبل قرون، ظل مئات السنين يعتقد أن النساء – بطبيعتهن – لا يمكن أن يملكن حق التصويت كالرجال، وانتظرت بعض أكثر بلدان أوروبا تقدما إلى منتصف القرن العشرين حتى تحصل المرأة على حقوقها السياسية.
فما انطبق على “امتحان نبوية” انطبق على آلاف “التقاليد” من أسخفها إلى أكبرها، من شرب المرأة للشاي إلى خروجها للعمل ثم تقلدها المناصب في الشركات والمؤسسات والحكومات، كلها بدت في أولها “كارثة” و”انهيار للتقاليد” و”ضياع للمجتمع”، ثم تحولت إلى شؤون يومية بسيطة لا تثير انتباه أحد، والأهم أنها علّمت العالم – بالتجربة – أن من الحماقة الوقوف أمام التطور التاريخي، وكما تعلمنا في المدرسة عن نظرية الأواني المستطرقة، فإن ما جرى في مكان في العالم سوف يجري في بقية الأماكن عاجلا أم آجلا، ولا يؤدي التصلّب في الرأي إلا إلى الوصول متأخرين واللحاق بعربات الدرجة الثالثة، وإذا كنت تظن – مثلا – أن قوانين الأحوال الشخصية التي لا تساوي بين الرجل والمرأة سوف تبقى إلى الأبد، فربما يجب أن تتذكر أنه قبل مئة عام فقط أو أكثر قليلا كان في القاهرة أسواق للعبيد والجواري، فأين ذهبت الآن؟ ذهبت حيث سيذهب كل قانون لا يضع عجلة الزمن في الاعتبار.
كان الكاتب الراحل أنيس منصور يقول: “لو بدأنا الآن، قد نصل بعد خمسين عاما”. والمشكلة أنه قال ذلك منذ خمسين عاما ونحن لازلنا لم نبدأ بعد.