كما هي العادة حازت زيارة رئيس الوزراء السوداني عبدلله حمدوك للقاهرة على كثير من الجدل عبر منصات التواصل الاجتماعي رغم أنها تكاد تكون 30 ساعة فقط، وأن الرجل كان قادمًا من المملكة العربية السعودية، في زيارة كانت مهمة بدورها. ولكنها وحدها القاهرة القادرة على إثارة الجدل الكبير في الخرطوم وخصوصًا أن حمدوك تعرض عابرًا لمسألة الخلاف الحدودي مع مصر، لكن عبوره هذا جعل الجدل ساخنًا ليجاور ضرورات التقارب المصري السوداني التي تحوز حاليًا على شعبية أكبر في السودان، وتفهم أوسع لطبيعة ضروراتها، ولكن لايغيب عنها ضرورة تسوية ملف الحدود بين البلدين.

الصورة الذهنية الإيجابية عن زيارة حمدوك في كل من القاهرة والخرطوم ساهم فيها إلى حد كبير مشهد استقبال الدكتور مصطفى مدبولي لنظيره حمدوك، الرجلان يفتحان أذرعهما لبعضهما البعض في مطار القاهرة تعلو وجهيهما ابتسامات دافئة.

المخرجات الرسمية المعلنة لزيارة حمدوك في لقاءاته مع الرئيس عبد الفتاح  السيسي ود. مصطفي مدبولي احتل قمتها موضوع سد النهضة باعتبار أننا على أبواب الملء الثاني لبحيرة السد، ما يمثل مخاطر للسودان كبيرة استلزمت صدور تحذيرات من وزارة الري السودانية للمواطنين بهذا الشأن. ورغم هذا التحذير المرتبط بالأمن الإنساني لأشقائنا السودانيين، لم تقدم أديس أبابا للخرطوم أية معلومات فنية بهذا الشأن وهو ماطلبته السودان طبقًا لما قاله حمدوك في لقاء معنا.

ويبدو أن كواليس اللقاءات الرسمية سوف تنتج تحركات متوازية في المنظمتين الأهم لملف سد النهضة في المرحلة المقبلة وهما الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن، وإن كان سيتم التركيز علي الأخير نظرًا لتأكيد إثيوبيا رفضها لمطلب السودان ومصر، و الذي يدعمه الاتحاد الأفريقي في هذه المرحلة بوجود وساطة رباعية تتظمن الاتحاد الأفريقي وكل من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي تقوده دولة الكونغو الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي.

على مستوي المصالح الاقتصادية بين مصر والسودان، أعلنت القاهرة كنتيجة لزيارة حمدوك، البدء في إنشاء خط سكة حديد من مدينة أسوان المصرية إلى مدينة حلفا السودانية، وظهرت صور لهذا الخط الذي يتحمس له كثيرًا وزير النقل المصري كامل الوزير، ويبدو أن هذا الحلم التاريخي المشترك في وجدان الشعبين، بات قريبًا من التحقق لعدد من الأسباب منها التركيز المصري الاستراتيجي على البنى التحتية كمنجز رئيسي للنظام السياسي المصري، وهو مشروع في تقديري له معطيات أمنية استراتيجية فهو من جهه يربط القطر المصري بعضه ببعض شرقًا وغربًا بطرق سريعة، وهو يمتد إقليميًا نحو كل من السودان وتشاد في خطوات غير مسبوقة من جانب الحكومات المصرية على عهد مبارك.

أيضًا ما يعزز فرص هذا المشروع القدرة على تمويله إقليميًا ودوليًا، في ضوء اهتمام أفريقي بتحسين حالة البني التحتية في القارة دعما لخطة الاتحاد المعلنة في منطقة التجارة الحرة الأفريقية، فضلًا عن الاهتمام الدولي بتحسين وسائل النقل البري في القارة دعما لمصالح أمنية واقتصادية غربية.

في السياق الاقتصادي أيضًا تم السماح بحرية التنقل على مستوى رجال الأعمال بين البلدين دون تصاريح دخول مسبقة (فيزا)، أيضًا رفع مستوى الربط الكهربائي ليصل إلى 240 ميجا وات في يوينو المقبل، بزيادة 90 ميجا وات عن المستوي الحالي، أيضًا دعم مصر للسودان في مجالات دعم القدرات على جميع المستويات الفنية واللوجستية.

علي المستوي السياسي تضمن البيان المشترك الرسمي عن الزيارة دعمًا مصريًا للسودان في الفترة الانتقالية، وأهم ما فيه في تقديري دعمًا لعملية التحول الديمقراطي، وهو أمر لو تعلمون عظيم الأثر في السودان، التي تتخوف دائمًا وتاريخيًا من التأثير المصري السلبي على تجاربهم الديمقراطية والتي لم تسجل نجاحًا مستدامًا حتى الآن رغم إقدام الشعب السوداني على تسجيل أكبر عدد ثورات في تاريخ المنطقة العربية والإفريقية سعيًا وراء تحقيق حلم نظام ديمقراطي مستدام في السودان.

على المستوى الصحي الذي تحول إلى موضوع أمن قومي لكل الدول بعد وباء كورونا، وعدت مصر باستكمال دعمها للسودان في هذا المجال، وهو ما كان محل تقدير سوداني خصوصًا مع وصول مجموعة من مصابي حوادث الثورة السودانية لعلاجهم في مصر، وهي المجموعة التي تفقدها رئيس الوزراء السوداني عبدلله حمدوك صباح الجمعة قبيل مغادرته القاهرة مباشرة.

اقرأ أيضا: 

في السودان.. من يصنع الشيطان المصري؟

 

فشل الحلم السوداني في التحول الديمقراطي كان سببه عند رئيس الوزراء السوداني عبدلله حمدوك بسبب افتقاده لرافعة اقتصادية تنموية تجعل المواطن السوداني العادي داعمًا لهذا التحول، بحيث لا يكون عبئًا على أحواله الاقتصادية، وسبب في تحوله في مراحل لاحقة من قوى الثورة للقوى للمضادة لها.

هذا التقدير أطلقه في حواره مع مفكري وخبراء مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، وقدم شرحًا تفصيليًا عن طبيعة مشروعه الاقتصادي الذي يطرحه حاليًا بالتوازي مع مشروع التحول السياسي السوداني الذي يستهدف بناء دولة المواطنة.

في هذا السياق، قال حمدوك إنه تم تقسيم السودان إلى 5 أحزمة تنموية ذات أبعاد اقتصادية، وهي أحزمة مرتبط سياقيين منهما بدولتين هما جنوب السودان ومصر، فالأولى وصفها رئيس الوزراء بعلاقات التمازج، والثانية أشار إلى أهميتها في التعاون متعدد المنافع للبلدين من منصات الشراكات الاقتصادية التعاونية، وأكد ضرورة إنشاء منابر حوار  استراتيجي بشأن مجمل القضايا بين البلدين مثمنا تواصل النخب غير الرسمية.

في لقاء مركز الأهرام أفرد رئيس الوزراء جزءا من حديثة لقضايا مسكوت عنها في العلاقات المصرية السودانية حددها في ثلاث نقاط كان آخرها مسألة الخلاف الحدودي بين مصر والسودان في منطقتي حلايب وشلاتين بشرط ألا يكون هذا التناول مصدرًا لتعكير العلاقة أو توقف التفاهمات بشأن القضايا المحورية الأساسية والاستراتيجية بين البلدين، ثم أومأ رئيس الوزراء السوداني برأسه موافقًا وقائلًا نعم على طرح من خبراء أن تتحول إلى هذه المنطقة إلى منطقة تكامل اقتصادي.

ذكر مسألة حلايب من جانب رئيس الوزراء السوداني التقطتها وكالة الأنباء السودانية خارج سياقها بتضخيم يناسب وزنها في السودان، أو محاولة ربما لخلق تباعد بين مصر والمكون المدني في المعادلة السياسية السودانية، لأن بعضًا من منتسبي الوكالة مازالوا ينتسبون للنظام القديم، الذي قال عنه حمدوك إنه عبء يتم التعامل معه تحت مظلة آليات التحول الديمقراطي.

أما ما سبق مسألة حلايب فكانت متعلقة بشأن مشكلات الإدراك السياسي والثقافي بين البلدين، والتنمر على السودانيين بالقاهرة بسبب اللون. وقال حمدوك “نحن ننظر للتاريخ بمنظورين مختلفين متعارضين، وهو ما يخلق نوع من أنواع التراشق الذي تتوافر له حاليًا منصات متعددة تكون مضرة للعلاقات بين مصر والسودان ومعطلة لها بشكل لا تستطيع معه أن تتعامل مه التحديات المطروحة عليها”.

ولعل ماطرحه حمدوك في مسألة التنمر على السودانيين يكشف حجم عجز  وضعف الإعلام المصري الذي لا يجيد تسويق السياسيات المصرية للسودان، ولايملك آليات ذلك هذا التسويق والتأثير للأسف حتى اللحظة الراهنة، ذلك أن رئيس الوزراء السوداني لايعلم أن هناك قانونًا ضد التنمر والتمييز صدر في مصر يلاحق بموجبه أي متنمر قضائيًا، كما أن تنمرًا مارسه مراهقون مصريون ضد مراهق جنوب سوداني جعل الرئيسي السيسي يقدم له ترضية بأن يكون الضحية إلى جانبه في مؤتمر الشباب الدولي الأخير قبل انتشار كورونا، في رسالة بالغة الدلالة بشأن تسامح واعتراف الدولة المصرية بالتنوع الإنساني.