أثير الرأي العام مؤخرًا بمقتل طبيبة مدينة السلام بمعرفة صاحب العقار وحارسه، وذلك على إثر شكوك منهما بأن هناك شخص ما بصحبتها داخل شقتها السكنية. وهو الأمر الذي أثار فضولهما أو نخوتهما واقتحما سكنها الخاص وقاما بالتعدي عليها ضربًا، حتى ألقاها من شرفة أو بلكونة شقتها، فسقطت صريعة ولفظت أنفاسها الأخيرة. ولو كان حديث الجناة صادقًا بأن بصحبتها شخص ما داخل وحدتها السكنية، فهل هذا يُعد مبررًا لاقتحام مسكنها فقط، وليس التعدي عليها بالضرب والقتل العمد؟ وإذ أن المجتمع المصري من المجتمعات الشرقية التي تُوصف بالإيمان أو تؤمن بالإسلام، علاوة على بعض المفاهيم القبلية المتمثلة في النخوة والرجولة وإثبات الذات قبل الآخرين، فإن ذلك الأمر يقتضي منا التعرض لأمر حق الأفراد في خصوصيات حياتهم.

فمن الناحية الدينية البحتة فقد روي عن النبي سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: “ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهزال الذي أشار على ماعز عندما وقع في الزنا أن يظهر أمره للنبي، فقال له النبي: يا هزال لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك، صححه الألباني. وبالتالي فليس في الدين الإسلامي ما يجعل من الفضح وليس التدخل واقتحام خصوصيات الناس، كما أنه روي عن سيدنا عمر بن الخطاب أنه خرج عمر بن الخطاب يومًا فرأى ضوء نار وكان معه عبد الله بن مسعود فتبع الضوء حتى دخل الدار فوجد سراجًا في بيت فدخل وذلك في جوف الليل فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب ومغنية فلم يشعر حتى هجم عليه عمر فقال: ما رأيت كالليلة منظرًا أقبح من شيخ ينتظر أجله، فرفع رأسه إليه فقال: بلى يا أمير المؤمنين ما صنعت أنت أقبح تجسست وقد نُهي التجسس، ودخلت بغير إذن. فقال عمر: صدقت ثم خرج عاضاً على ثوبه يبكي، وقال: ثكلت عمر أمه إن لم يغفر له ربه.

أما وعنا نحن وما حدث مع قتيلة مدينة السلام ونحن ندعي أننا في دولة مدنية يحكمها قوانين، حتى فيهذا الإطار فنحن كمواطنين لا نراعي حدود هذه القوانين ذاتهان ولا نلقي لها بالاً حال مثل هذه القضايا، حيث أن الدستور المصري الأخير بقوله إن “الحرية الشخصية حق طبيعين وهي لا تمس”، ثم قال إن “للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس”. وعلى هذا النهج الدستوري سارت القوانين المصرية، وأهمها في هذا المتن قانون العقوبات المصري، والذي حرم حتى تصوير الأشخاص أو تداول صورهم. كما جرمت كذلك اقتحام المنازل الخاصة بشكل قاطع.

وقد اتفق المتحدثون في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي على أن هناك أنواع من الخصوصيات يجب على الآخرين احترامها بشكل عام أهمها خصوصية العواطف أو المشاعر، وخصوصية الوقت، وخصوصية الفكرن وكذلك خصوصية الأشياء.

ولكن جأت هذه الجريمة البشعة لتحدثنا أو تخبرنا عن حقيقة إيماننا بتلك القيم أو المبادئ، سواء كانت فكرية أم قانونية أو دينية، إذ أن هذه الجريمة تكشف النقاب عما يدور بجاهليتنا الداخلية، وليست أفكارنا، إذ أن معظمنا تحركه نوازع ذاتية شخصية لا يرى فيها سوى نفسه وحدودها ومطامعها، وأن كل منا هو وحده من يملك صواب الفكرة وصواب الرأي وصواب القرار. وباتالي نجد لأنفسنا المبررات اللازمة لما نأتيه من تصرفات بما فيه يمثل عدوانًا على الآخرين حتى ولو كان في أفكارهم التي لم يخرجوها بعد إلى حيز الواقع التنفيذي، فهل ينقذنا إدعاء الفضيلة وتملكها بشكل مفرد؟ أم أننا لابد وأن نؤمن بأن لكل منا فضائله، ولكل منا نسقه التفكيري، ولكل منا حياته الخاصة بكل ما فيها.

أرى أن هذه الجريمة البشعة والتي انتهت بفقدان إنسان لحياته، والتي دفعها ثمنًا لمعتقدات خاطئة يعتقدها الآخرون قد كشفت عن العديد من المثالب والسلبيات التي تدور في أروقة المجتمع المصري، وأن هناك العديد من الجرائم التي لم يتم اكتشافها تحت هذه المسميات، وأهمها ما يسمى بجرائم الشرف، أو تحت مسمى حماية سمعة وسيرة العائلة، حتى دون التحقق من صدق الروايت التي تدفع إلى ارتكاب هذه الجرائم، وكم من الجرائم التي ارتكبت تحت هذه المسميات، ثم أُكتشف كذب مزاعمها بعد فقدان الضحية لحياته، وكأن حياته كانت ثمنا لمجرد إشاعات أو روايات متناقلة لم يتم التحقق من صدقها من عدمه.

فيجب علينا أن نؤمن بأن لكل إنسان منا خصوصية يمتلكها كيفما يشاء، فهناك مساحة خاصة يحددها كل شخص منا تعتبر مساحه من الخصوصية من حق الشخص أن يحافظ عليها ويمنع اختراق هذه الخصوصية عن أعين الآخرين وتطفلهم، فنحن بحاجة أن نتعلم كيف نحترم خصوصية الآخرين، نحتاج أن ننشئ جيلاً يعي أن حريته تبدأ من احترام خصوصية الآخرين، نحن في أحوج الأوقات للتركيز على مفهوم الخصوصية واحترام الأخر من خلال مؤسسات التنشئة وخاصة الأسرة، وأن يعود دور المؤسسات التعليمية في تلقين تلك المفاهيم، كما يؤكد المختصون في علم النفس والعلاقات الاجتماعية، يؤكدون حاجة الفرد للخصوصية باعتبارها مساحات آمنة من جهة، وقيمة اجتماعية لا تنفصل عن “الاحترام” للآخر، والتي ترتبط بالحدود خاصة في العلاقات.

ولا تنحصر انتهاكات الخصوصية بسؤال بل تزداد إلى تصرفات يراها الآخرون مبررة او اعتيادية، لكنها في الحقيقة تمثل إزعاجًا وانتهاكًا لـحق أو “مساحة” الفرد ومنطقته الخاصة التي يريد أن تبقي حصرًا له.

أرى أن هذه الجريمة بكل مفرداتها تزيد من حجم احتياجات المجتمع المصري لتلقي مفاهيم عبر سبل مختلفة من بينها وسائل الإعلام تسعى إلى تغيير المفاهيم الخاطئة، وأن تحوي البرامج وما تبثه القنوات ما يمكن أن يشكل ثقافات متحضرة تراعي تلك الحدود وترسخ مفاهيم الحقوق، حتى لا نصل إلى ما هو أبعد من متحصلات هذه الجريمة من بشاعة.