فرضت أزمة فيروس كورونا تغيرات ملحوظة على خريطة التوظيف بمصر. إذ قلصت الطلب على قطاع من الوظائف الصناعية، وخلقت إقبالاً على فرص العمل المتعلقة بالحاسب الآلي والتسويق. خاصة في الفئات التي تنزل لسوق العمل للمرة الأولى.

ووفق دراسة جديدة لأكبر مواقع التوظيف بالمنطقة العربية، أصبح خريجي كلية التجارة وإدارة الأعمال في المرتبتين الأولى والثانية. كما شكلا معًا 43% من إجمالي المؤهلات، التي تعتزم الشركات طرحها خلال الأشهر المقبلة.

ومن المتوقع، أن يجني الخريجون الجدد ثمار تأجيل الكثير من الشركات التجارية سياسات التوسع في مستهل جائحة كورونا. لتؤكد شريحة كبيرة من الشركات تصل إلى الثلث، عزمها توفير تعيينات جديدة خلال أشهر مقبلة بنسب متفاوتة.

كذلك تفضل الشركات، الخريجين الجدد عن ذوي الخبرة لاعتبارات تتعلق بالرواتب وتغيير النشاط بعد كورونا. إذ قللت الأزمة الطلب على التوظيف المباشر لصالح الإلكتروني، والتسويق بالهواتف المحمولة. وهي مؤهلات متوافرة أكثر في الأعمار الأصغر.

التسويق البطل

في استطلاع رأي لـ “مصر 360” شمل مسئولي الموارد البشرية في 10 شركات مقيدة بالبورصة. أكد 75% من المستطلع آرائهم توفير فرص جديدة في التسويق وخدمة العملاء. بينما لم تتضمن الوظائف المرتبطة بالصناعة ذاتها سوى 10% فقط.

كذلك فأن 5 شركات من بين العشرة تعمل في قطاع المقاولات. أكدت 4 منها (80%) أنها ستوفر تعيينات جديدة في الأمن والمبيعات فقط. بينما قالت الأخيرة إنها ستوفر تعيينات تتعلق بالتصميم المعماري (20%).

كذلك تختلف ميول الشركات المصرية كثيرًا، عن الاتجاه السائد في الشرق الأوسط. والذي كان الطلب الأساسي فيها لقطاع البتروكيماويات ثم الهندسة والتصميم للمدى الطويل. بينما للمدى القصير كان التصنيع بالمرتبة الثانية، ثم الرعاية الصحية.

كذلك ظلت المشكلة الرئيسية للمتعطلين بمصر في مرحلة الدخول لسوق العمل. إذ أن أغلب المتعطلين 60% منهم من المتعطلين الجدد أي الذين لم يسبق لهم العمل من قبل. خاصة الإناث بنسبة 73% مقابل 44 %من الذكور.

تظهر متطلبات العمل التي أعلنتها الشركات عن اشتراطات جديدة في السير الذاتية التي تطلبها بجانب اللغة والحاسب الآلي تتضمن القدرة على العمل ضمن فريق وتحت الضغط، بما يتماشى مع درس كورونا الذي عانت فيه الشركات التقليدية من عجز موظفيها عن العمل من المنازل، أو عدم قدرة الاعداد القليلة التي كانت تعمل في المصانع من تعويض سياسة تخفيف العمالة وتحمل ضغوط الإنتاج.

تغيرات ملحوظة

تكشف آخر نشرة لوزارة القوى العاملة تغيرات كبيرة بسوق العمل. فمن بين 4307 فرص عمل للذكور والإناث شاغرة في 62 شركة ومصنع قطاع خاص، كانت القطاعات المرتبطة بالتسويق في المرتبة الأولى.

وتضمنت فرص العمل المتوفرة بالقاهرة على سبيل المثال 1700 فرصة عمل في خدمة العملاء. و225 مندوب مبيعات وبائع، و440 فرد أمن. بينما لم يتجاوز المهن الصناعية المطلوبة حاجز الـ120 فنيًا ويرتبط عملهم بالصيانة وليس الإنتاج.

ووفق تقرير جديد لبنك “HSBC” مستكشف الأعمال بمصر 2020، الذي يعتمد على مسح آراء مديري 209 شركات. فإن معدل النمو الأشهر الأخيرة جاء مدفوعًا بزيادة الإنتاج بواسطة التكنولوجيا، وتطوير المنتجات والخدمات. كذلك القدرة على جذب الاستثمار والتمويل.

كما يؤكد التقرير أن 86% من الشركات متفائلة بوضعها في التجارة الدولية في السنوات المقبلة. و83% من الشركات تتوقع العودة إلى مستويات الأرباح التي كانت قبل أزمة “كورونا” أو لمستويات أعلى بنهاية 2022. بينما 89% من الشركات تتوقع نموًا في إيراداتها في 2021.

الوظائف ومستويات التضخم

يأتي النمو في التوظيف وسط حالة من ركود المبيعات على مستوى قطاعات التجزئة وتراجع مستوى التضخم. ما يفتح  تساؤلات، حول مدى استدامة الوظائف التي يعلن عنها القطاع الخاص. كما يفترض أن تساهم معدلات التشغيل في خلق حالة من النشاط باعتبارها توفر دخولاً يتم تصريفها في صورة مشتريات.

ورغم تراجع التضخم لا تزال هناك فجوة بين الأسعار والرواتب سواء القائمة أو للوظائف الجديدة، وهذ مشكلة قائمة منذ سنوات طويلة. ففي دراسة بين عامي 2012 و2018، يتبين أن الأجور لم تواكب ارتفاع معدلات التضخم حينها. إذ أدى ارتفاع التضخم الذي أعقب تعويم الجنيه المصري إلى تآكل كبير في الأجور الحقيقية. حيث انخفض متوسط الأجر الشهري الحقيقي بنسبة 9%.

كذلك خلال الفترة ذاتها وبالمثل، انخفض متوسط الأجر بالساعة بنسبة 11.%. كما سجلت انخفاضات الأجور الحقيقية معدل أكبر بين النساء. ثم المشتغلون بالمناطق الحضرية، وذوو المهارات المتوسطة والعالية، والمشتغلون بالقطاع الخاص (الرسمي وغير الرسمي).

كذلك غيّرت الجائحة من طبيعة السلوك الشرائي للفئات ذات الدخول الصغيرة التي ذاقت مرارة توقف الدخل وتعطل النشاط. كما باتت تحاول ضبط النفقات وتوفير مدخرات تحسبًا لظروف شبيهة.

كما سجلت الودائع غير الحكومية بالقطاع المصرفي نحو 4.213 تريليون جنيه بنهاية أكتوبر 2020. مقابل 4.167 تريليون جنيه بنهاية سبتمبر 2020، رغم تراجع الودائع الحكومية إلى 874.149 مليار جنيه.

العمالة غير المنتظمة تسعى حاليًا إلى اللجوء لودائع البنوك خاصة الودائع شهرية العائد، بغرض تأمين دخل ثابت للأسرة. بالنظر إلى ارتفاع مخاطر الوسائل الاستثمارية الأخرى لفائض السيولة لدى الأسر المصرية.

كذلك وبحسب بيانات البنك المركزي سجلت ودائع القطاع العائلي 3.372 تريليون جنيه بنهاية أغسطس الماضي. مقابل 3.053 تريليون في مارس 2020. وبالمقارنة مع 2.93 تريليون في ديسمبر 2019. وسجلت أعلى معدل زيادة شهرية في 3 سنوات خلال شهر يونيو، بقيمة تجاوزت 90.5 مليار جنيه.

ركود رغم التوظيف

لكن الدكتور رشاد عبده، أستاذ الاقتصاد، أكد أن عدم انعكاس تزايد التوظيف على حركة الأسواق سببه تنامي الشراء الإلكتروني عبر الإنترنت. ذلك الشراء الذي شمل كل البضائع بداية من السلع المعمرة وحتى الأسماك المملحة، ما يؤثر على البيع والشراء التقليدي، وسبب شكوى المحال من ركود المبيعات.

ووفق لوزارة التخطيط فأن معدل البطالة واصل انخفاضه إلى 7.2% خلال الربع الثاني من 2020/2021. بعد انخفاضه إلى 7.3% في الربع الأول، مع تحسن أداء بعض الأنشطة كثيفة العمل، مثل تجارة الجملة. كذلك تتوقع الوزارة أن يظل معدل التضخم العام في الحضر رقمًا أحاديًا. وأن تتراوح المعدلات المتوقعة بالمتوسط بين 4.8% و6.6% خلال العام المالي الجاري.

لكن لم تغير أزمة كورونا نظرة الشباب إلى فرض العمل المطروحة. فيظل التفضيل لاسم الشركة وسمعتها والمكانة الاجتماعية للوظيفة حتى لو كان الراتب في المقام الأول. ما يجعل الوظائف الإدارية ذات الراتب المنخفض الأقل تفضيلاً منهم، وهي مشكلة مزنمة يعاني منها الاقتصاد المصري منذ عدة عقود.

الشكل الاجتماعي للوظيفة

يقول عبده إن مشكلة الوظيفة الإدارية عانت منها الشركات المصرية خاضة شركات قطاع الأعمال العام. فالشركة القابضة للصناعات الكيماوية على سبيل المثل كانت تتضمن 70% من عمالتها في الإدارة. والأغرب أن 55 عاملاً من النسبة المتبقية التي تمثل العمال المنتجين حصلوا على مؤهلات جامعية وطلبوا أن يتم نقلهم لوظائف إدارية. ما هدد النشاط الأصلي  للصناعة.

كذلك يربط خبراء الاقتصاد تراجع الإعلان على الوظائف الصناعية في الشهور الأخيرة. لتنامي المدارس الحرفية التي فتحتها المصانع، وقصرت التعيينات عليها على اعتبار أنهم الأكثر تأهيلًا وتدريبًا. وأشهرها مدرسة العربي للتكنولوجيا التطبيقية، التي تورد العمالة لمصانع توشيبا العربي.

على المدى البعيد، لن تظل وظائف التسويق الإلكتروني متسيدة التوظيف في مصر. بينما من المتوقع أن يحل محلها البرمجة مع تنامي الرقمنة ودخولها جميع أبعاد الحياة الاقتصادية. بجانب هندسة الطاقة المتجددة التي سيزيد الطلب عليها كثيرًا في المستقبل، وميكنة السيارات الكهربائية. ذلك المجال الواعد الذي يعاني نقصًا حادًا في مصر والكثير من دول المنطقة. ومن الوظائف التي ستشهد طلبًا على المدى الزمني المتوسط (3 ـ 5 سنوات) هندسة الشبكات وأمن ونظم المعلومات.