حادثة القتل البشعة التي صدمت كثيرين وراحت ضحيتها امرأة شابة في القاهرة أوجعت الجميع، لكنها لم تكن صادمة لملايين النساء فهن يعرفن جيدًا شكل المجتمع الذي يواجهنه يوميًا. وكيف يمكنه أن يقتل بسهولة وبساطة شديدة.
الجديد أن الصدمة أصابت كثير ممن يروجون للأفكار التي خلفت نفس المناخ والبيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية، التي جعلت من المنطقي أن تهاجم مجموعة من الذكور امرأة ويدفعونها للموت. تلك البيئة التي تتحالف فيها القوانين مع الموروث الديني مع الموروث الثقافي الذكوري السلطوي لتهاجم النساء. الفاجعة وضعت الكثير من الذكوريين أمام مرآة الواقع مباشرة ليس إلا. وإذا كانت هناك رغبة حقيقية في مواجهة الكارثة التي نعيشها علينا أن نفكك مكوناتها جيدًا ونحاول حل تشابكاتها ثم نعمل على معالجة مستوياتها المختلفة بالتوازي وفي أسرع وقت.
جريمة قتل تلك السيدة هي في جوهرها استباحة الذكور للتدخل السافر في حياة النساء زاعمين أنهم يقيمون الأخلاق والشرع أو يتعللون-في أغلب الأوقات بذلك- لتحقيق منافع شخصية. ما حدث ليس سوى نموذج للعنف القائم على النوع الاجتماعي، ونتيجة الاستهانة بهيمنة الذكور على حياة النساء وأجسادهن ومصيرهن. فالدراسات والشهادات والوقائع اليومية التي يمكن للجميع ملاحظتها توضح كيف أن النساء يتعرضن للإيذاء والعنف سواء داخل الأسرة أو في المجال العام لمجرد كونهن نساء.
آلاف الفتيات والنساء المستقلات يعانين من تعامل المجتمع الذكوري معهن والاتهام المبدئي المشهر ضدهن لمجرد أنهن يعشن دون ذكر بالغ معهن هو أنهن “عاهرات”. أعرف أرملة ثلاثينية أم لطفلة وحيدة ولا عائلة لها في القاهرة فمن بقي من أهلها خارج البلاد وأهل الزوج الراحل في صعيد مصر. اعتادت أن تذهب إليهم بابنتها لزورهم من فترة لأخرى بدلا من أن يأتوا إليها لعدم قدرتها على أداء واجب الضيافة لعدد من الأشخاص لبضعة أيام. هي تفضل هذا الوضع وهم يقبلون ومستعدون لدعمها بالطريقة التي تراها.. لكن كان لجيرانها رأي آخر.
كانوا يتابعونها بترقب وتوجس طيلة الوقت ويكثر تردد البواب على شقتها بعلل واهية حين يزورها أي شخص خصوصا لو مجموعة من رجال ونساء. حتى وقعت المشكلة حين زارها شاب وبقي معها ساعات والبواب لا يهدأ. انتهى من العلل الممكنة ليحاول استكشاف هوية الشخص فلم تريحه ولم تجيب تساؤله. فعاد اليها بصاحب العمارة وأحد الجيران لتعلو أصوات الجميع الغاضبة من وراء الباب. فتح الشاب وهددهم باللجوء للشرطة وقبل أن تبدأ المشاجرة بالأيدي اضطرت للتدخل وتبرير نفسها أمام البواب والدخلاء المزعجين موضحة أن الشاب هو ابن اختها الذي يعيش مع أمه في إحدى الدول العربية وأتى في زيارة قصيرة لمصر.
في تجربة موقع مصريات تم نشر سلسلة من الموضوعات عن فتيات مغتربات للعمل أو التعليم وكم المشكلات التي تواجههن بسبب انتهاك خصوصيتهن. وبسبب والوصم المجتمعي لهن كفتيات يعشن بعيدا عن أسرهن. السلسلة التي نشرت تحت عنوان “من دفاتر الغربة” نقلت عن شابة تدعى بسمة في العشرينات من عمرها أن أكثر ما تعانيه هو التعامل المجتمعي معها الذي يعتبرها “عاهرة” إلى أن يثبت العكس. هكذا يصف المجتمع الفتاة التي تحاول تحقيق أمنيتها في التعليم واستكمال دراستها أو العمل بأجر أفضل وفتح أبواب للرزق.
أما نورا فكانت فتاة عانت الضرب والإهانات والألفاظ البذيئة من زوج أمها بعد وفاة والدها, وحين أنهت الثانوية العامة كتبت رغباتها لتكون جامعتها بعيدا عن ذلك الرجل البغيض. فواجهت المجتمع الذي حاول انتهاكها وانتهاك خصوصيتها ووصمها بدلا من دعمها كفتاة قوية مصممة على التعلم ورفض الإهانة. أو على الاقل تركها في حالها ترتب حياتها كما تريد وتتحمل مسئولية نفسها.
نورا تمكنت من البحث عن عمل بجانب الدراسة واعتمدت على نفسها لدرجة أن عمها فوجئ بها لدى إحدى زياراته وأثنى عليها قائلا “انتي بـ100 راجل”. لكن الفتاة التي تمكنت من نحت طريقها في الصخر وحيدة في الحياة وتعلمت الاعتماد على نفسها وحافظت في الوقت نفسه على ثقة عائلتها لم تسلم من المجتمع. فكانت تواجه الشكوك في عيون الجميع وأولهم أصحاب منزل المغتربات الذي سكنت فيه.
ولاء نموذج ثالث للنساء المغتربات اللاتي ابتعدن عن العائلة والأهل ليعشن وحيدات قادرات على تحمل ومواجهة الحياة لكن الوصاية المجتمعية الذكورية تتبعها وتنغص عليها حياتها. قررت الطلاق لأن زوجها طالبها بعدم إكمال دراستها الجامعية رغم أنها كانت طالبة في كلية الطب, فاختارت الدراسة على الزوج الذي كان دائم الانشغال والإهانات ويكرر لها دوما “اتجوزتك عشان الجنس الحلال”. تركت محافظتها وبحثت عن عمل وبدأت حياة مستقلة لكن أصعب ما واجهته كانت الاتهامات والوصم ضدها كامرأة تعيش وحيدة.
ممارسة الجنس.. أداة الوصم ومدخل للحل
السبب الأبسط الذي يردده الجميع لوصم النساء هو احتمال وجود علاقات جنسية في حياتهن. وهو الاتهام الذي حاول مرتكبي جريمة “سيدة السلام” الترويج له في البداية، فانتشرت الأقاويل عن وجود رجل غريب في شقتها. المشكلة الأساسية هنا هي أن الرجال الذين لا يتورع كثيرون منهم عن التحرش وأحيانا الاغتصاب دوما ما يحاولون السيطرة على كل النساء. محاولة السيطرة تلك هي امتداد للعنف في التحرش والاغتصاب, وكأنهم يريدون القول بأن النساء ملكية للرجال نأخذها عنوة كلما أردنا. فيمارسون العنف عليى المرأة بالتحرش والاغتصاب وأيضا تحديد شكل الحياة التي يجب أن تعيشها وإن لم تمتثل فالتشهير والوصم هما الطريق الأسهل.
والسؤال هنا بعيدًا عن “سيدة السلام” ماذا لو استقبلت النساء اللاتي يعشن بمفردهن ضيوفا من الرجال؟ هل يعني هذا حتما ممارسة الجنس؟ ألا يوجد أقارب ومعارف وأصدقاء ؟ ألا توجد علاقات عمل وعلاقات قربى؟ هل بات مطلوبًا من كل امرأة تقديم كشف حساب مفصل بكل معارفها ولماذا يزورونها ومتى وكيف تقضي وقتها داخل بيتها؟ أي منطق مختل يمكن أن يفرض هذا سوى الذكورية وانتهاك الخصوصية ومحاولة فرض السيطرة؟ لماذا دوما يتم ترجيح احتمال الجنس أو الدعارة حين يتعلق الأمر بامرأة بينما إذا حدث نفس الموقف مع رجل لا ينتبه أحد؟
حتى لو كان السبب في دعوة رجل ما هو ممارسة الجنس, ألا يمكن أن تكون المرأة متزوجة عرفيًا؟ أو متزوجة في السر كما يفعل آلاف الرجال؟ وإذا كانت تقيم علاقة خارج إطار الزواج فهذا شأنها الشخصي طالما حدث داخل مساحتها الشخصية. لا يمكن تكون أي علاقة جنسية –سواء حقيقية أو وهمية- مبررا يجعل من البواب والجار واي ذكر يمر بالشارع قادرين على التهجم على امرأة في منزلها.
الجنس أصبح وكأنه عقدة كبيرة تتعاظم في ذهن الجميع بدعم من الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي أيضًا. فالمجتمع الذي يرفض الجنس بالتراضي يسمح بكل أشكال الانتهاكات حتى ذلك المجرم الذي اعتدى على طفلة لم تبلغ عامها العاشر طالبوا بالتستر عليه. هو نفسه المجتمع المستعد لفضح أية امرأة لمجرد الاشتباه في أنها تمارس الجنس بالتراضي خارج إطار الزواج, مجرد الشك وليس اليقين المدعوم بأربعة شهود رأوا “المرود في المكحلة” رأي العين.
هو نفسه المجتمع الذي يرفض التشبه بالغرب الكافر ويتأفف من “الألعاب الجنسية-sex toys ” لكنه يتاجر بها شرًا تحت مسمى “الألعاب الزوجية”. ورغم أنها ممنوعة قانونًا يجري تهريبها ويتم تداولها بكثافة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وفي الوقت نفسه يتم فضح المرأة والتشهير بها إذا ما اكتشف أي من جيرانها أو أهلها أنها تستخدم تلك الألعاب حتى وإن كانت تستخدمها خلال العلاقة مع زوجها.
القانون في مجتمع “الزومبي”؟
وصلنا إلى مجتمع “زومبي” أو “أحياء أموات” كل منهم ينهش الآخرين.. فالجار يتلصص على جاره باسم الدين والأخلاق وبالطبع التلصص يكون مضاعفا على النساء وخاصة النساء المستقلات. هو نفسه ذلك الشخص المتطفل الذي يحاول دوما التدخل في حياة النساء ومعرفة ماذا تفعل ومتى تخرج من بيتها ومتى تعود ولما تتأخر عن الموعد الذي تقول إنه نهاية يوم عملها أو يوم دراستها. يلبسون تلك التدخلات السافرة ثوب الرعاية والخوف على مصلحة النساء بينما في الحقيقة هو سلوك لا يمكن تقفسيره إلى بكونه “عنف ضد النساء” فهو انتهاك للخصوصية من جانب ووضعها في موقف اشتباه دائم من جانب آخر.
هذا السلوك تدعمه للأسف سلطات إنفاذ القانون فيمكن لأمين شرطة توقيف المارة في الشارع للسؤال عن علاقة الرجل بالمرأة التي تسير معه أو تستقل معه نفس السيارة. والإجابة الجاهزة لدى هؤلاء هي أن قوات الأمن تسعى للحفاظ على السلم الاجتماعي وتكافح الدعارة. فتصبح كل امرأة أو فتاة تخرج مع رجل أو شاب محل اشتباه بممارسة الدعارة. فلا وجود هنا لاحتمالية الاحتماء بصديق بعد التأخر في يوم عمل وأنه يقوم بتوصيل زميلته إلى منزلها. ولا وجود لاحتمالية أن الرجل والمرأة أقارب يعودان بعد الاطمئنان على مريض شعر بالتوعك فجأة. ولا وجود لآلاف الاحتمالات التي يمكن أن تجمع رجل وامرأة ليلا دون أن تشمل علاقة جنسية مدفوعة الأجر.
تقديم هذا الاشتباه وترجيحه على كل الاحتمالات هو ما دفع بجهات رسمية لإرسال تعليمات إلى الفنادق بمنع تسكين النساء بمفردهن دون شخص من العائلة. فحين تذهب امرأة لتحجز غرفة في فندق يرفضون لأنها لا تصطحب أحد المحارم معها. هل بات ممنوعا الخروج في رحلات سياحة داخلية؟ هل يتعين على النساء إثبات أنهن في مهمة عمل تقتضي المبيت ليلة في محافظة غير محل سكنهن؟ لماذا تقديم الشك دوما لدى التعامل مع النساء باعتبارهن مجرمات محتملات وعاهرات محتملات؟ تلك الشكوك للأسف تتم برعاية الجهات المنوط بها إنفاذ القانون وحماية النساء من العنف ومنع انتهاك خصوصيتهن.
القانون المصري يحتوي الكثير من المواد التي تحمي الخصوصية لكنه أيضًا يضم الكثير من المواد التي تنتهك خصوصية النساء بوجه خاص وتضع مصائرهن في أيدي الذكور. والمشكلة الأكبر لدى تطبيق تلك القوانين تظهر الموروثات الثقافية الذكورية التي ترجح الاشتباه بالنساء وتحقيرهن ووصمهن كأولوية في أذهان كثير من المسئولين عن تنفيذ القانون.
سلطات إنفاذ القانون التي تعيد فتاة على جسدها آثار الضرب والاعتداء التي ارتكبها الأب أو الأخر بزعم الحفاظ على “الأسرة” ولأن الشرع يمنحهم حق التأديب. هي نفسها السلطات التي ترفض تحرير محضر اعتداء من امرأة ضد زوجها تحت نفس المزاعم. الحالات الوحيدة التي يمكن أن يتم خلالها تحرير محاضر بسهولة هي عندما تصاب المرأة بكسور أو ارتجاج في المخ أو نزيف ويتم نقل الضحية إلى المستشفى فيحرر الطبيب محضرا بالواقعة. وكأن سلطات إنفاذ القانون في مصر تؤكد على أنه طالما لم تكن المرأة بين الحياة والموت فالرجل لم يتجاوز حقوقه الشرعية و”الصلح خير”.
المشرعون أيضًا مشكلة كبرى تكرس للعنف ضد النساء, وتستبيح أجسادهن فمؤخرا خرجت علينا الكثير من القضايا التي يتم خلالها تصدير الاتهام بانتهاك “قيم الأسرة المصرية”. القصة بدأت مع القانون رقم 175 للجرائم الإلكترونية في مصر، وخاصة المادة 25، التي تتشمل في نصها “جرائم التعدي على قيم ومبادئ الأسرة المصرية”، وتتراوح عقوبة بين 6 أشهر و3 سنوات سجن، وغرامة بين 50 ألف و300 ألف جنيه مصري.
للأسف التعبير مطاط وغير محكم ولا يرقى أبدًا لأن يكون جزءًا من نص قانوني. والمشكلة الأكبر لدى تطبيق تلك المادة أصبحت تستهدف النساء فكل امرأة أو فتاة تكتب أو تنشر شيئا عبر الإنترنت لا يتماشى مع أفكار شخص ما يمكنه أن يدعي عليها بتلك المادة ويتسبب في حبسها والتشهير بها. المشكلة أن كل شيء يمكن أن يتم تفسيره باعتباره انتهاكا لذلك التعبير المطاط “قيم الأسرة المصرية”. والمبرر الجاهز لهذا القانون هو “حماية الفتيات من الاستغلال”.
المصيبة أن القانون ينتهك الفتيات ويكرس للتمييز ضدهن فعن أي أسرة يتحث؟ أسرة الريف أم أسرة المدينة؟ الأسرة المسلمة أم الأسرة المسيحية؟ أسرة العشوائيات أم أسرة القصور والمنتجعات؟ أسرة الوجه البحري أو أسرة الوجه القبلي؟ الأسرة المنفتحة أم الأسرة الملتزمة دينيا؟ لا توجد أسرة واحدة في بلد لحجم مصر وبالتالي يمكن لأي ذكر تكييف الاتهام لأي أنثى بأنها انتهكت “قيم أسرته” التي ليست أسرتها أصلاً.
الانطباع لدى متابعة تطبيق القوانين المختلفة على النساء في مصر هو أن السلطات ترغب في إعادة “تربية” النساء وفق النسق الأخلاقي الذي ترتضيه من خلال فرض هيمنة الذكور عليهن. فغالبية جرائم ضرب النساء والكثير من جرائم العنف الجنسي سواء في المجال الخاص أو العام يجري التستر عليها وحفظها بزعم “الحفاظ على الأسرة” و”الحق الشرعي في التأديب”. بينما الفتيات اللاتي يظهرن علنا عبر الإنترنت ويقدمن أنفسهن كنساء قويات مستقلات قادرات على كسب المال, تحاوطهن الشبهات بسوء السمعة والعمل بالدعارة والعهر كاحتمال أول حتى قبل ظهور أدلة تدعم الاشتباه. فوصم النساء في مصر وأمام القانون لا يحتاج إلى أدلة لتحريك دعوى قضائية. بينما الاعتداء بالضرب من الزوج حتى وإن كانت أدلته واضحة على جسد المرأة يتم تجاهله.
ماذا نفعل؟
للحفاظ على السلم الاجتماعي بشكل حقيقي وفعال, الحل بسيط جدًا وهو أن يدرك كل شخص أنه لا علاقة له بسلوك الآخرين, أن الاختيارات الفردية يجب أن تظل فردية أن العقائد تخص أصحابها وليس عليهم فرضها على الآخرين.. أن يحمي القانون الحريات والحقوق الشخصية بدلاً من فرض وصاية على الأفراد بزعم حماية القيم مرة والغيرة على الدين مرة والأمن القومي والسلم الاجتماعي مرات.
ومن جانب آخر, كما تغيرت سلطات إنفاذ القانون بخصوص جرائم التحرش الجنسي وأصبح تحرير محاضر رسمية أكثر سهولة, يجب أن يتغير السلوك حيال جرائم العنف الأسري ضد النساء والتشهير بهن. ويجب أن تنتهي التعليمات شبه الرسمية التي تجعل الفنادق تحجم عن استضافة النساء ولابد من حذف الجزء المتعلق بـ”قيم الأسرة” من القانون. والأهم سرعة إنشاء مفوضية مكافحة كل أشكال التمييز ضد المرأة التي تم إقرارها في الدستور المصري وسرعة إصدار قانون موحد ضد العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي.