كل سنة وكل نساء مصر طيبات.. 16 مارس يوم النساء المصريات لأنه أول يوم خرجت فيه النساء المصريات بقوة إلى ما يسمى بالفضاء العام أو بمعنى أدق قتحمن بجرأة وشجاعة.. مساحة كانت مقصورة على الرجال فقط، وكسرن بجرأة وشجاعة أيضًا أسوار ما يسمى بالفضاء الخاص، ليعلن أنهن مواطنات مصريات ومن حقهن المشاركة مع الرجال على قدم المساواة دون تمييز في تعاطي قضايا الاستقلال والحرية.

عبر ما يزيد على القرن صاغت النساء بدأب وجودهن في المجتمع في كل المجالات، وواجهن أشكال متعددة من التعنت، والتمييز، والهجوم الضاري.. لينتزعن الاعتراف القانوني والدستورى بهن كمواطنات كاملات الأهلية؛ من الحق في المشاركة السياسية في دستور 1956، إلى كوتا لا تقل عن 25% في البرلمان والمحليات في دستور 2014 (المعدل 2019)؛ ومن الحق فى الأجر المتساوى في الستينيات، إلى الحق المساوي في منح جنسيتهن لأطفالهن 2004.

المشكلة أن موقف الدولة من المواطنات ومطالبهن بالمساواة هو موقف غير متسق. فهي لا تستجيب لهذه المطالب انطلاقًا من إيمانها بحق النساء في المساواة الفعلية، بل لأسباب متعددة، أهمها طبعًا ضغوط النساء، ولكن كثيرًا ما تكون صورتها في المجتمع الدولى عاملاً هامًا. فقد أصبح وضع النساء أحد المؤشرات الأساسية في تقييم الدول، ووضعت له العديد من المؤشرات التفصيلية ومنها مؤشر الفجوة النوعية بين أوضاع النساء والرجال في الميادين المختلفة.

ويتضح هذا الموقف بجلاء في نصوص الدساتير المصرية المتعاقبة انتهاء بدستور 2014 المعدل سنة 2019. المادة 11 تمثل من الدستور نموذجًا جليًا لعدم الاتساق فرغم أنها بدأ بكفالة المساواة بين الرجال والنساء في جميع الميادين. فهي ما زالت ترسخ فكرة أن المسؤوليات الأسرية هي مسؤوليات النساء فقط.

ورغم أن مصر كانت أول دولة عربية تصدق على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة عام 1981، إلا أن التمييز ضد النساء ما يزال مستشريًا في جميع المجالات. وتكشف ذلك دراسة لمكتب شكاوى المرأة 2009، تشير إلى “تزايد شكاوى الأحوال الشخصية التي تعكس الخلل والاضطراب الذي أصاب الأسرة المصرية، وتعقد إجراءات تنفيذ الأحكام الى تحصل عليها المرأة للحصول على حقوقها.. وتعرض المرأة العاملة في بعض الجهات لسوء المعاملة والتمييز من قبل رؤساء العمل.. ويمثل العنف الأسري أكثر أشكال العنف الممارس ضد المرأة”.

لماذا يستمر التمييز ضد النساء؟

يستمر التمييز لأن المساواة الفعلية ليست مجرد نصوص قانونية أو حتى دستورية. بل ممارسة فعلية في الواقع العملى. يستمر التمييز لأن الدولة لا تلتزم بوعودها للنساء، وللمواطنين عمومًا، ولا تستخدم إرادتها السياسية لمواجهة التمييز بشكل حقيقي. بل على العكس أحيانًا تضحى ببساطة بحقوق النساء لتتفادى المواجهة مع تيارات سياسية أو مؤسسات دينية وهو ما كشف عنه مشروع قانون الأحوال الشخصية الأخير.

ورغم تباهي الدولة برعايتها للنساء وتجريم التمييز ضدهن فإن سلطاتها المختلفة (التشريعية، والتنفيذية والقضائية) لم تتخذ أية خطوة إيجابية في هذا الصدد؛ بل على العكس تماطل بأشكال متنوعة لمنع أي خطوة إيجابية من قبل من يعمل على ذلك.

المثال الواضح على ذلك هو أن المماطلة في إصدار قانون مفوضية القضاء على جميع أشكال التمييز الذي أشارت إليه المادة 53 من دستور 2014. واتخذت لك المماطلة أشكالاً متعددة من تجاهل جهود المجتمع المدني حول “مفوضية القضاء على جميع أشكال التمييز” من مقالات ولقاءات وورش عمل مع البرلمانيين وطرح مقترحات لمشروع قانون المفوضية، وتجاهل دراسات ومقترحات مجلس حقوق الإنسان التابع لها. وأخيرًا، تجاهل محاولات قسم كبير من النواب إقرار مشروع قانون مفوضية التمييز.

فقد قدمت النائبة أنيسة حسونة منذ عام 2016 مشروع “قانون مفوضية المساواة ومنع التمييز”. وتمت مناقشته في لجنة حقوق الانسان واللجنة الدستورية والتشريعية. ثم أعادت تقديمه عام 2019 واستمر مشروع القانون في إدراج اللجنة الدستورية والتشريعية رغم تبني ما يزيد على 40% من النواب (214) لمشروع القانون. إلا أن اللجنة لم تسمح بخروجه من إدراجها حتى الآن. وهو نفس ما حدث مع مشروع القانون الموحد لمناهضة العنف ضد النساء، الذي عملت عليه مجموعة واسعة من المنظمات النسائية، وقدمته النائبة نادية هنرى، وتبناه ما يزيد عن 60 من النواب في نفس الفترة وانتهى المجلس دون أن يناقش القانون، والآن لابد من بدء العملية من جديد.

هذه المواقف ليس صدفة، بل تعكس حقيقة موقف الدولة من قضايا النساء الذى يتباين وأحيانًا يتناقض مع الوعود والمواد الدستورية، وتؤكدها المواقف من قضايا النساء الأخرى مثل الموقف من موقف مجلس الدولة التمييزى من تعيين النساء في الهيئات القضائية تحت نفس الشروط المتاحة للرجال.

معنى هذا أن على عاتق الحركة النسائية أن تعمل من جديد من أجل إصدار مجلس النواب الجديد لقانون مفوضية التمييز، وأن تضعه على رأس أولوياتها، لأنه قانون مفصلي فيما يتعلق بقضية المساواة. وليكن العام الحادي والعشرين في القرن الحادي والعشرين فرصة للعمل المكثف على إصدار هذا القانون.

لدينا على الأقل مشروعان؛ أحدهما المشروع الذي قدمته النائبة أمينة حسونة، والآخر الذي طرحته عام 2016 مؤسسة نظرة للدراسات النسوية، وكليهما يغطى جوانب من الهام تضمينها في القانون، ولكنهما يحتاجان في تقديري إلى مزيد من الجهد. خاصة فيما يتعلق بتعريف التمييز الذي ينبغى أن يبنى على تعريفات المواثيق الدولية التي صدقت مصر عليها، وأبرزها تعريفا اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (المواد 1-5)، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري (مادة 2) بالمعنى الذي يتجاوز المساواة القانونية إلى المساواة الفعلية، عبر التدابير الخاصة المؤقتة التي تساعد المجموعات، التي تعرضت لتاريخ طويل من التمييز أن تستمتع فعلاً بحقوقها القانونية. وخاصة في مجال تغيير التصورات النمطية السائدة والتي تمثل عائقًا فعليًا حتى لو كانت هناك مساواة قانونية.

أخيرًا، فإن صدور قانون مفوضية التمييز لن يكون فقط لصالح النساء، ولكن لصالح كل الفئات والمجموعات التي تعاني من التمييز بسبب أي من العوامل التي عددتها المادة 53 من الدستور.

والأهم، أنه سيعطى فرصة حقيقية للتمتع بباقي مواد الدستور الأخرى. على سبيل المثال المواد 9 (تكافؤ الفرص دون تمييز)، 11 (تحقيق المساواة في جميع الحقوق)، 14 (الوظائف العامة حق للمواطنين). كما أنه سيعمق البعد النوعي لبعض مواد الدستور التي تبدو محايدة في علاقتها بالنساء. على سبيل المثال المواد 51 (الكرامة حق لكل إنسان)، 54 (الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تمس)، 57 (للحياة الخاصة حرمة وهي مصونة لا تمس). فهذه القيم العامة تطبق بشكل مختلف على النساء والرجال، ودون إصدار قانون مفوضية التمييز يبقى الحديث عن المساواة وعدم التمييز مجرد “طق حنك” حتى لو كان نصًا دستوريًا.

للاطلاع على مقالات أخرى للكاتبة.. اضغط هنا