هذه أول زيارة لرئيس دولة إلى العاصمة الليبية طرابلس بعد تولي سلطة تنفيذية جديدة زمام الأمور في مستهل مرحلة انتقالية أخرى بدأت بأمل إقرار دستور وانتخاب برلمان جديدين قبل نهاية هذا العام. وهي أيضًا الأولى لرئيس تونسي منذ عام 2012. ومفاجأة زيارة الرئيس “قيس سعيد” إلى طرابلس أمس 17 مارس 2021 لافتة بحق في ذاتها.  وأيضا لأنها حملت معها إلى ليبيا سياقات محلية تونسية وإقليمية متقاطعة ظلت محل صراع و”مناكفات”. وهكذا بدا وكأن “قيس” تونس قصد طرابس من أجل أكثر من “ليلي”، وليس “ليلى” واحدة.

جاءت زيارة الرئيس التونسي إلى طرابلس بعد أقل من أسبوع واحد من منح البرلمان الليبي الثقة لحكومة “عبد الحميد الدبيبة” الانتقالية. والمقارنة بالمخالفة كانت قد استدعت حينها سخرية تونسيين على مواقع التواصل الاجتماعي إزاء هذه “الثقة العاجلة” لحكومة بلد يجاهد للخروج من أتون حرب أهلية ممتدة على مدى عشر سنوات. في المقابل “تعثر وبطء” استكمال منح الثقة لمجرد تعديل وزاري على حكومة بلدهم الأكثر استقرارًا وتقدمًا على مسار الانتقال الديمقراطي بين مجتمعات ما يسمى بـ “الربيع العربي“. وهذا جراء الخلاف بين مكونات سلطات الحكم والقوى السياسية الرئيسية، وقد عكست “مناكفات” استحال معها إلى اليوم أداء الوزراء الجدد اليمين الدستورية أمام الرئيس “سعيد” على الرغم من منحهم ثقة أغلبية البرلمان في 26 يناير 2020.

خيوط محلية وإقليمية متشابكة

لاعتبارات التاريخ والجغرافيا تعتمد الدبلوماسية التونسية منذ زمن بورقيبة ومؤسسسها الراحل صاحب السمعة الدولية “المنجى سليم” منهجًا حذرًا تجاه التطورات الإقليمية. وتسعى لأن تظهر بسمت ما تطلق عليه “الحياد الإيجابي”، إزاء المناطق الساخنة كليبيا. كما تقول دائمًا بإنها تحتفظ بمسافة واحدة بين كافة الأطراف المتنازعة. وهذا ما عبر عنه اثنان من وزراء الخارجية “المنجي الحامدي” و”الطيب البكوش” في لقائي معهما أكتوبر 2014 وديسمبر 2015.

تونس الصغيرة نسبيًا في مساحتها تقع بين ما يشبه العملاقين الغنيين بالنفط (ليبيا والجزائر). لكنها ولاعتبارات تاريخية تضاف إلى الجغرافيا تتطلع برأسها /عاصمتها حيث تصنع دبلوماسيتها شمالاً إلى أوروبا. ومع هذا، لم يوجد بين حكام قصر قرطاج ” الرئاسي” من يستهين بجذور البلد الممتدة عميقًا إلى جواره شرقًا وغربًا، وبخاصة جنوبه وجنوبه الشرقي مع ليبيا.

الرئيس التونسي قيس سعيد رفقة رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة
الرئيس التونسي قيس سعيد رفقة رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة

حتى مؤسس دولة الاستقلال الحداثية الزعيم الرئيس الأول “الحبيب بورقيبة” لم تخلُ خطاباته لمواطنيه وسرديته المطولة عن سيرته الشخصية ممزوجة بجهاده الوطني من العزف على وتر ليبي. وهذا بالإشارة إلى أنه من عائلة “طرابلسية”، مع استحضار كون منزل الأسرة بمدينته “المنستير” يقع في حي يطلق عليه لليوم “حومة الطرابلسية”. ولعل في هذا مكافحة ما، لانقسام يظل يضرب المجتمع السياسي التونسي منذ الخمسينيات حتى اللحظة بين البورقيبيين من أهل الساحل وبين اليوسفيين (نسبة للزعيم العروبي صالح بن يوسف) من أهل الداخل والجنوب.

أهمية العلاقات مع ليبيا على صعيد الاقتصاد وبخاصة الموازي غير الرسمي الذي يشمل تهريب “الكناترية” النفط وغيره من السلع مع تبادل العملات الأجنبية جهارا تحت مظلة تسامح من دولة تخشى أن تشدد القبضة فيثور الناس

وفي علاقة “بورقيبة” نفسه بليبيا “القذافي” موجات صعود وهبوط حادة مع مجاهرة بالإمساك بميزان”الحياد الإيجابي هذا”، كالاندفاع إلى إعلان الوحدة مع الزعيم الليبي العقيد “معمر القذافي” تحت عنوان لم يعش إلا ساعات “الجمهورية العربية الإسلامية” 12 يناير 1974 إلى التصدي بقوة القمع المفرط للدولة لسحق الهجوم المسلح على ولاية قفصة التونسية الشهيرة بمناجم وصناعة الفوسفات يناير 1980.

من زار الداخل التونسي، وبخاصة ولايات الوسط كقفصة والجنوب كتطاوين والجنوب الشرقي كمدنين، يدرك أهمية العلاقات مع ليبيا على صعيد الاقتصاد وبخاصة الموازي غير الرسمي الذي يشمل تهريب “الكناترية” النفط وغيره من السلع مع تبادل العملات الأجنبية جهارا تحت مظلة تسامح من دولة تخشى أن تشدد القبضة فيثور الناس. وهذا بالطبع مع فرص العمل في الأسواق الليبية، ناهيك عن مشتركات الثقافة والغناء وحتى التعبيرات الفكرية السياسية العابرة كتلوينات متعددة من المدارس القومية والناصرية. ويمكن القول إن تشابك الخيوط المحلية بالإقليمية تجاه ليبيا يفسر إلى حد كبير حركة “قيس سعيد” السريعة على هذا النحو تجاه ليبيا خروجًا على رتابة وتحفظ “دبلوماسية الحياد الموروثة من البورقيبية”. وأيضا كسرًا  لقاعدة ندرة زياراته الخارجية، حيث تعد السادسة فقط منذ دخوله قصر قرطاج أكتوبر 2019، وبعد رحلات خارجية لكل من سلطنة عمان والجزائر وفرنسا والكويت وتركيا.

عن أبعاد ومعان اللحظة المواتية

حقًا هذه هي اللحظة المواتية للزيارة بموازين المجريات الليبية، لحظة لم يفلتها “الرئيس”، وهي بداية مرحلة انفراج وآمال مع تواري النزاعات المسلحة بأبعادها الداخلية/ الإقليمية/ الدولية، وكذا اختفاء رموز التوتر المستفزة للاستقطابات إلى ما تحت السطح كالجنرال “خليفة حفتر”، والذي لم يكن محل ارتياح في تونس تمامًا، حتى داخل مراكز الحكم والقرار التونسي المعروفة بتحفظها على ميول حزب حركة النهضة. ولقد كنت شاهدًا بنفسي خلال عملي كمراسل “للأهرام” بين 16 ـ 2018 على مسافة انزعاج وابتعاد حرص عليها قصر قرطاج زمن الراحل البورقيبي “الباجي قايد السبسي“. وهذا على خلاف المدافع المدوية المرحبة بـ”حفتر” لمقربين من “الباجي” سياسيًا وحزبيًا. وهو ترحيب بدت فرقعاته محمولة على موجات اتهام للنهضة والإسلاميين التونسيين عمومًا بالتورط في دعم وتسويق “إرهاب” ينطلق من بين أحضان حلفاء ليبين إلى سوريا والعراق مرتدًا إلى الداخل التونسي. لكن اتضح أن كل هذا الدوى الذي ظل يصم آذان التونسيين لسنوات، وقد عجز لاحقًا عن أن يترجم علو الصوت إلى إدانة واضحة دامغة في قاعة محكمة أو تحت قبة برلمان. وهذا مع كل ما قيل عن المحاكمات ولجان التحقيق.

رأسمالية تونسية متعطشة للأسواق الأقرب والأهم لمنتجاتها. وإلى اليوم تظل ليبيا السوق الخامس لمنتجات تونس بعد الدول الأوروبية الأربع: فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا

اقتنص الرئيس التونسي سريعًا اللحظة المواتية ليبيا ـوبالأحرى تونسيًا أيضًاـ بعدما عادت قبل أيام مرافق النفط الليبية للعمل إلى حد كبير، ومعها توقعات أعقبت تفعيل وقف إطلاق النار بانتعاشة اقتصادية وإطلاق مشروعات إعادة البناء. وفي كل هذا ما ترقبه رأسمالية تونسية متعطشة للأسواق الأقرب والأهم لمنتجاتها. وإلى اليوم تظل ليبيا السوق الخامس لمنتجات تونس بعد الدول الأوروبية الأربع: فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا. وبمراجعة معطيات المعهد الوطني التونسي للإحصاء (الجهة الرسمية الأهم في هذا السياق) عن شهر فبراير 2021 يتضح أن السوق الليبية هي الوحيدة التي احتفظت للصادرات التونسية بمكانتها، بل وتقدمت بنسبة 1,4 في المائة. وهذا فيما طرأ تراجع لافت مع الدول الأوروبية الأربع المذكورة بين 8 و63 في المائة. ناهيك عن استعادة فرص عمل لمئات الآلاف من الشباب في بلد تجاوزت فيه البطالة نسبة 17 في المائة، وفق آخر احصاءات رسمية للمعهد ذاته.

وفي هذا السياق يمكن قراءة البيان المشترك الصادر بعد الزيارة حين تضمن إشارة قوية إلى الإسراع بالتحضير لاجتماع للجنة العليا بين البلدين وتفعيل وتحديث الاتفاقات المبرمة بينهما، فضلاً عن العمل على تسهيل اجراءات العبور والتنقل للمواطنين وانسياب البضائع وتشجيع الاستثمار واستئناف رحلات الطيران. وكان المعبر البري الرئيسي بين البلدين “رأس جدير” قد أعيد افتتاحه بعد تسعة شهور من الإغلاق التام بسبب وباء كورونا هذه المرة وليس نتيجة اقتتال الفرقاء الليبيين أو مخاوف تسرب إرهابيين.

يتضح جليا التحول اللافت نحو أجندة وخطاب جديدين يغيب عنه كلمة الإرهاب تماما، سواء على مستوى البيان المشترك أو بلاغات الرئاسة التونسية

على أي حال فإن القراءة المتأنية للخطاب المصاحب لزيارة  الرئيس”قيس” لطرابلس يفيد بجديد تراجع هاجس الإرهاب والمخاوف من الإرهابيين. هنا يتضح جليًا التحول اللافت نحو أجندة وخطاب جديدين يغيب عنه كلمة الإرهاب تمامًا، سواء على مستوى البيان المشترك أو بلاغات الرئاسة التونسية، أوالكلمة التي ألقاها الرئيس سعيد في طرابلس. وبالقطع فإن من الأمور المفهومة ضمنا ولا حاجة لتصدرها خطابات أو أجندات أن هناك أجهزة أمنية تعمل بتعاون منذ سنوات في إطارين ثنائي وإقليمي للتعاون ضد الإرهاب. وقد تحقق لها إلى حد كبير أشواط نجاح انعكست على الداخل التونسي.

3 جوانب لافتة في خطاب الزيارة

ثلاثة جوانب أخرى تلفت النظر أيضًا في الخطاب المصاحب للزيارة الرئاسية التونسية ونتائجها: الأول هو التوجه مجددًا نحو محاولة إحياء إطار المغرب العربي الكبير. وهو ما ورد  خلال إشارات بالبيان المشترك، وفي بلاغات الرئاسة التونسية، وأيضا في كلمة الرئيس “سعيد” نفسه. وهكذا على نحو يستلزم ـفي نظرناـ التفكير في القاهرة من أجل تعزيز علاقات الجوار والروابط الاستراتيجية التاريخية الثقافية بكيفية مرافقة محاولة إعادة إحياء هذا الاتحاد، والشراكة معه على نحو أو آخر لو قدر لهذه الجهود النجاح.

والثاني ـ ويرتبط ببعض جوانب الأول ـ هو غياب أي إشارة في مجمل الخطاب المصاحب للزيارة الرئاسية التونسية لما كان قبل سنوات معدودة عن “دول الجوار العربي”. ولقد كنت شاهدًا كمراسل صحفي على انبثاق واضمحلال آلية التنسيق الثلاثي التونسي المصري الجزائري، والتي كان قد أطلق مبادرتها الراحل “السبسي”. وأظن أن ثمة حاجة لمراجعة نقدية جادة ـ وبخاصة في القاهرة ـ لأخطاء ارتكبت على مستويات عدة أسهمت في إفساد مسار هذا التنسيق، حتى أصبح هكذا نسيا منيسا في لحظة تبدو اليوم الأكثر مواتاة للارتقاء به وجنى الثمار.

التونسيون لم يتوقفوا عن تزويد أشقائهم الليبيين بخبرات الانتقال الديمقراطي بما في ذلك دورات تدريبية تنظمها الهيئة العليا المستقلة للانتخايات بتونس على مدى السنوات الماضية

أما الجانب الثالث فيتعلق بما وصفه البيان المشترك وكلمة “سعيد” بـ”دور الجمهورية التونسية في دعم المسار الديمقراطي بليبيا”. وثمة إشارات محددة هنا إلى استضافة ملتقى الحوار السياسي الليبي نوفمبر 2020. وهو الذي وضع الفرقاء الليبيين الذين كانوا متحاربين على طريق الاتفاق على سلطة تنفيذية جديدة لاحقا في جنيف، وكذا خارطة طريق لدستور وبرلمان جديدين. واللافت في هذا السياق أن التونسيين على ما يبدو لم يتوقفوا عن تزويد أشقائهم الليبيين بخبرات الانتقال الديمقراطي الأكثر نجاحا في المنطقة العربية، بما في ذلك لقاءات ودورات تدريبية تنظمها الهيئة العليا المستقلة للانتخايات بتونس على مدى السنوات الماضية، وحتى في ظل مد الاقتتال الأهلى. وبلاشك فإن هذا الدور سواء من هذه الهيئة أو من غيرها ـ وبما في ذلك المجتمع التونسي المدني الناهض النابض ـ مرشح للصعود في قادم الأيام الليبية.

بعد دبلوماسية هادئة حد الخمول

يأخذ الرئيس التونسي “سعيد” بزمام المبادرة في الشأن الليبي على هذا النحو وفي اللحظة المواتية. وهكذا ليظهر أمام مواطنيه ممارسا لسلطاته في مجال السياسة الخارجية دون شريك أو منازع.  وعلى هذا النحو، اكتفي بأن اصطحب معه في هذه الزيارة التي توصف بـ”التاريخية” وزير الشئون الخارجية ومستشارين من قصر قرطاج، دون أن تحمل طائرته أيا من رئيسي  الحكومة “هشام المشيشي” والبرلمان “راشد الغنوشي”. أو أي مسئول تنفيذي أو سياسي آخر.  وبالقطع فإن أدوار الفاعلين في السلطتين التنفيذية (جناح الحكومة) والتشريعية ستأتي لاحقا بعد هذه الخطوة / المبادرة الرئاسية.

و”سعيد” على هذا النحو يتقدم مدافعًا ضد اتهامات كيلت له بتواضع أدائه على صعيد السياسة الخارجية في سياقات محلية / إقليمية / دولية معقدة. ونكتفي بالإشارة إلى نوع من المواجهة في الداخل التونسي حول الملف الليبي ذاته مرتين. في 23 يونيو اصطدم الرئيس “قيس” علنا خلال مؤتمر صحفي في باريس بترحيب حزب حركة النهضة ورئيسها رئيس البرلمان “راشد الغنونشي”، وقال قولته الشهيرة المثيرة للجدل داخل بلاده :”شرعية حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج مؤقته ولا يمكن أن تستمر”. و بعدها بخمسة أيام وفي 28 يونيو جاء رد “الغنوشي” رئيس البرلمان وحزب النهضة بمثابة هجوم مضاد في وسائل إعلام محلية تونسية، حين قال: “حكومة السراج هي الشرعية الوحيدة في ليبيا.. ولا وجود لشرعية دائمة”.

الرئيس التونسي لم يتمايل جيئة وذهابا مع الضغوط التي استهدفته من أكثر من جبهة، وحافظ على توازن مواقفه تجاه الأطراف الليبية المتحاربة

وفي 26 ديسمبر 2019 جاء إعلان الرئيس “سعيد” في بيان مصور بأن قرطاج تونس لن تقبل بعضوية في أي تحالف أو اصطفاف ولن تقبل أن يكون أي شبر من ترابها إلا تحت السيادة التونسية وحدها. وجاء ذلك بعد انتقادات له فور زيارة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” لتونس قبلها بساعات وصفت بأنها “مفاجئة”وتعرضه لحملة هجوم إعلامي يتهمه بالتحالف عسكريا مع أنقرة وطهران وحزب الله والنهضة وبأنه أداة في أيديهم ضمن اصطفاف داخل النزاع الليبي. وواقع الحال أن الرئيس التونسي لم يتمايل جيئة وذهابا مع الضغوط التي استهدفته من أكثر من جبهة، وحافظ على توازن مواقفه تجاه الأطراف الليبية المتحاربة. فلا مال أبدا إلى “حفتر” وحلفائه ولا إلى السراج وتركيا، وإن ظل محل انتقادات حتى زيارته أمس. وهذذا بزعم إنه يتحرك تحت سقف ما يمكن وصفه بـ”سياسة هادئة حد الخمول”.

لكن في ظل نظام يتشكل بعد الثورة وفق مقتضيات الانتقال الديمقراطي لا يسلم رئيس الدولة من الانتقادات ولو الشكلية، وحتى وهو يقتنص فرصة زيارة تحتمل الأهمية. فالصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي لم توفر انتقاد “الرئيس” لطول كلمته التي ألقاها بمؤتمر صحفي بطرابلس، ونزوع “قيس” كعادته إلى الإغراق في البلاغة اللفظية ودروس التاريخ. كما وجد رئيس الدولة التونسية من ينتقده أيضا لمجرد أنه لم يقض الليل عند الإخوة الليبيين وآثر العودة في اليوم ذاته.

المرور بـ”الحامة” و”قابس” ملامسًا نطاق “الغنوشي”

وإذا وضعنا الأدوار الدستورية والقومية التي مارسها رئيس الدولة التونسية أمس جانبا، يمكننا العودة إلى هذا التداخل والتورط المؤكدين بين ما هو محلي داخلي وما هو خارجي إقليمي. فملامح الجغرافيا السياسية للجنوب والداخل التونسي بعد ثورة 2011 تفيد بمزاحمة جارية على كتل انتخابية وجماهيرية كبرى بمقاييس بلد كتونس (عدد السكان بالبلاد كلها 11 مليونا) تتنازع الشعبية هناك. هناك أولا كتلة شعبية للنهضة. وثانية للقوميين العرب بأحزابهم وتعبيراتهم السياسية المتعددة، وقد تبلورت قبل نحو  العامين عند محطة “حزب حركة الشعب” الممثل في البرلمان على نحو غير مسبوق في تاريخ الحركات الناصرية والقومية العربية بالبلاد. وثالثا شعبية الرئيس اللاحزبي “قيس سعيد “، والمتهم من خصومه بـ”الشعبوية” المعادية للأحزاب والبرلمانية.

قيس سعيد يزور مدينة قابس
قيس سعيد يزور مدينة قابس

وفي هذا السياق يبدو أن الرئيس “سعيد” وكأنه قد اختار أن يمر في طريقه إلى ليبيا وقبلها بنحو ثلاثة أيام لا أكثر بمدينتي “قابس” و”الحامة” جنوبا. وكلاهما من معاقل “حركة النهضة”. والأخيرة هي مسقط رأس مؤسسها ورئيسها “راشد الغنوشي”. ولفت نظر المراقبين للشأن التونسي اهتمام الرئيس “قيس” بالصلاة في مسجد بمدينة الغنوشي، مع تغطية إعلامية لافتة.  وفي هذا المرور المميز بـ “الحامة” و”قابس” وملامسة نطاق “النهضة” وشيخها ” الغنوشي” على هذا النحو قبيل التوجه لليبيا، حيث تهفو إليها أفئدة أهل  الداخل والجنوب ويرتبط بها معاشهم وآمالهم في تحسن اقتصادي، ما يحتمل تأويلات بشن هجوم رئاسي لتسجيل نقاط في معركة قصر قرطاج مع قصري “باردو” البرلمان ورئيسه “الغنوشي” و”القصبة” مقر حكومة “المشيشي” المدعومة نهضويا وغنوشيا. لكن إلى أي حد يمكن لهكذا هجوم وتسجيل نقاط أن يثمر على صعيد الأزمة بين رئيس الجمهورية ورئيسي البرلمان والحكومة؟. ولعله هذا من الأمور السابق حسمها في النظم الديمقراطية أو مع الانتقال الديمقراطي.

قصة صورتين وابتسامة مع “المشيشي”

ومصداقا لأن الصراعات في هكذا أنظمة وانتقالات لا تحسم بالضربة القاضية الماحقة حتى ولو عبر استثمار مبادرات السياسة الخارجية على شاكلة زيارة ليبيا تتحدث لغة الصور الفوتوغرافية. فمع بدء الزيارة تسرب من مطابخ قصر القصبة رائحة دخان سخط عكسته تصريحات مسئولين ناقمة على نشر صفحة رئاسة الجمهورية التونسية لصور وداع “سعيد” في المطار مع التركيز على المصافحة مع وإلى تونس. بينما ظهر رئيس الحكومة “المشيشي” بمثابة كتلة هامشية مهملة. لكن عند العودة من زيارة ليبيا استحقت صورة فوتوغرافية أخرى وفي المطار ايضا ونشرتها الصفحة ذاتها ملاحظات مرحبة. فقد ظهر الرئيس “سعيد” مصافحا “المشيشي” باهتمام وهو يبتسم. وقال مراقبون تونسيون إنها المرة الأولى منذ اندلاع الأزمة بين الرجلين التي تظهر بينهما ابتسامة.

الرئيس التونسي قيس سعيد يغادر في اتجاه ليبيا
الرئيس التونسي قيس سعيد يغادر في اتجاه ليبيا

وهكذا تماما كما أطباق الفخار التونسي الشعبي الشهير “الفصول الأربعة” يتغير الطقس السياسي في يوم واحد قبل وبعد زيارة طرابلس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) الكاتب تردد على تونس من سبتمبر 2011 إلى أكتوبر 2019. وأقام مراسلا بها “للأهرام” لنحو العامين بين 16 و218. له ستة كتب عن تونس وحولها.  صدر أربعة منها في البلدين، وهي: “نظرتان على تونس من الدكتاتورية إلى الديمقراطية ” 2012 و “سيدي بوزيد : قصة ثورة يرويها أهلها “2013 و “الشبيهان: سيرة مزدوجة لمبارك وبن على ” 2014 و”الديمقراطية الصعبة: رؤية مصرية للانتقال التونسي ”  2016 و”الإعلام في تونس بعد الثورة: رؤية مراسل من مصر لمصادر العمل الصحفي ” عام 2019، فيما كتابان اثنان مازالا قيد النشر، وهما: ” تحولات نقابتين : صحفيون مصريون وتونسيون بعد 2010: دراسة مقارنة” و”دراما المظاهرة والصندوق : الاحتجاجات الاجتماعية والانتخابات البلدية بتونس”.