أكد التوجيه الرئاسي الأخير بشأن حق المرأة في الولاية القضاية بمجلس الدولة والنيابة العامة، ما كان من بنية تمييزية واضحة. وهي غير قابلة للتفكيك إلا بإرادة سياسية وتدخلات تشريعية، غابت عن قضايا مساواة النساء بالرجال في تولي المناصب القضائية لسنوات عدة. ذلك دون سند دستوري أو ديني. وهو ما حاولت ورقة جديدة صادرة حديثًا عن المركز العربي لاستقلال القضاء، بحث أسبابه ومحاولة علاجها.

التوجيه والاستجابة.. المرأة على منصة مجلس الدولة

في 8 مارس الجاري، وتزامنًا مع يوم المرأة العالمي، وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي، وزير العدل المستشار عمر مروان، بالتنسيق مع رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس مجلس الدولة للاستعانة بالمرأة، في هاتين الجهتين. وذلك تفعيلاً لحق المرأة في الولاية القضائية وللاستحقاق الدستوري بالمساواة وعدم التمييز تفعيلاً كاملاً. وهو التوجيه الذي لم يكن الأول في تاريخ المحاولات الرئاسية للاستجابة لطلبات ضرورة المساواة. بل سبقته محاولات عدة جميعها قوبلت بالرفض، ووصل بعضها إلى حد اجتماع الجمعية العمومية ورفض تعيين المرأة حتى وإن عينت بجهات قضائية أخرى.

يوم الأحد الماضي، أعلن مجلس الدولة استجابته لتوجيه الرئيس. وحدد 5 ضوابط لقبول المعينات الجدد. شملت: أن تكون العضوة حاصلة على تقدير ممتاز أو جيد جدًا في درجة الليسانس – الحصول على دبلومين للدراسات العليا، أحدهما في القانون العام أو القانون الإداري – خلو ملف خدمة العضوة من أي جزاءات أو ملاحظات – اجتياز المقابلة الشخصية أمام اللجنة المختصة بمجلس الدولة – استيفاء جميع الشروط الواردة في قانون مجلس الدولة.

لماذا غابت المرأة عن الولاية القضائية بمجلس الدولة؟

رغم أن المبادئ الأممية والاتفاقات الدولية وكذا القوانين المنظمة للعمل القضائي في مصر. وأيضًا الدستور وخاصة في نسخة العام 2014، كفلت جميعها للمرأة حق المساواة في الولاية القضائية دون تمييز. إلا أن التمثيل النسائي داخل مجلس الدولة والنيابة العامة ظل غائبًا لسنوات طويلة. ذلك لعدة أسباب، حاولت المركز العربي لاستقلال القضاء تفنيدها في ورقته القانونية.

وهي أسباب تستنند إلى ثلاثة آراء. إذ ذهب البعض أن نصوص قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 حين فصلت الشروط الواجب توافرها فيمن يعين في وظيفة قاض قصرت الأمر على الذكور فقط دون الإناث. ذلك بقولها “أن يكون مصريًا”. ويعضد هذا الرأي البند السادس من المادة 73 من قانون مجلس الدولة الصادر في العام ذاته. وتنص على “ألا يكون متزوجًا بأجنبية”. وهذا يعني أن المادة بكاملها تخاطب الذكور فقط، وفق هذا الرأي.

استدلال فاسد لغويًا ومنطقيًا

هنا، تشير الورقة القانونية إلى ما في هذا الاستدلال من فساد لغوي ومنطقي. وهذا فضلاً عن أن المحكمة الدستورية العليا قضت بعدم دستوريته فيما بعد. فقد طلب وزير العدل من المحكمة الدستورية العليا تفسير البند 1 من المادة المذكور الخاص بكون المتقدم مصريًا، وبيان ما إذا كان ذلك يعني المصريين الذكور دون الإناث أم يمتد ليشمل الجميع. فقضت المحكمة بأن نص البند ينصرف مدلوله ليشمل المصريين جميعًا لا فرق بينهم ولا تمييز سوى بالنظر إلى الكفاءة والدرجة العلمية لا غير.

كما أن قانون السلطة القضائية رقم ٤٦ لسنة ١٩٧٢ في مادته رقم ٣٨ التي يحدد فيها شروط من يتولى القضاء جاءت تحمل نفس الصيغة. ولم تكن حائلاً دون تولى النساء منصب القضاء سواء في المحاكم العادية أو في المحكمة الدستورية، التي تنطبق عليها نفس المادة.

أما الرأي الثاني، فقد ذهب إلى أن لجهة الإدارة أن تحدد مدى ملائمة العرف والظروف لتولي المرأة منصب القضاء. وهو اتجاه تقول الورقة البحثية عنه إنه ظهر جليًا في كثير من أحكام مجلس الدولة. ومنه فقد جرى العرف والتقاليد القضائية على عدم تعيين المرأة من مناصب القضاء لا على أساس من القانون أو الدستور. وإنما لاعتبارات الملاءمة واعتبار أحوال وظيفة القضاء وملابستها وظروف البيئة وأوضاع العرف والتقاليد. وهي جميعها اعتبارات مخالفة للأصول الدستورية ولا تبرر تعطيل نصوص القانون.

الرأي الثالث في منع تعيين المرأة بمجلس الدولة ذهب أصحابه إلى أن الشريعة الإسلامية تحظر عمل النساء في مجال القضاء. وأن الدستور -الصادر في عام 1971- يعتد بالشريعة الإسلامية كمصدر من مصادر التشريع.

لا نص شرعي يمنع المرأة عن مجلس الدولة

وباستعراض أراء الفقهاء في هذا الشأن، تقول الورقة القانونية أن البعض منهم يحظر عمل المرأة كقاضية حظرًا تامًا مثل الحنابلة، والشافعية، والمالكية. بينما ذهب البعض إلى أنه لا يشترط الذكورة فيمن يتولى القضاء كابن جرير الطبري، والحسن البصري وغيرهم. فيما ذهب بعض المحدثين إلى الجواز المطلق لتولي المرأة القضاء مثل: محمد سعيد البوطي والدكتور يوسف القرضاوي وغيرهم.

ومع ذلك، لا يوجد نص شرعي قطعي الثبوت والدلالة. ولا شرط صريح في القرآن والسنة يمنع تولي النساء عمل القضاء. بل إن المؤسسات الدينية الرسمية في مصر قد أصدرت فتوى شرعية في 22 أكتوبر 2002 قضت بأنه: “لا يوجد نص صريح قاطع من القرآن الكريم أو من السنة النبوية المطهرة يمنع المرأة من تولي وظيفة القضاء”.

تذكر الورقة القانونية أنه في ضوء وجود نص دستوري صريح بتعيين النساء في الهيئات والجهات القضائية. مع عدم وجود نص في الشريعة الإسلامية يمنع ذلك. فإن هناك تمييز صارخ ضد المرأة في توليها مناصب قضائية هي جديرة بها وتستحقها.

تأريخ النضال النسائي في سبيل الولاية القضائية

يمكن اعتبار أزمة الدكتورة عائشة راتب هي بداية التأريخ الفعلي لنضال المرأة في سبيل الحصول على الولاية القضائية. فقد تقدمت بطلب لتعيينها في وظيفة مندوب مساعد في مجلس الدولة عقب حصولها على درجة ليسانس الحقوق. ورفض المجلس تعيينها مفضلاً عليها زميلاً درجاته أقل. فطعنت على القرار وانتهى المجلس من نظر الطعن إلى رفض الدعوى في بداية الخمسينيات من القرن الماضي.

منذ هذا التاريخ وإلى اليوم تناضل المرأة ومن ورائها المؤمنون بالمساواة في سبيل أن تعتلي منصة القضاء وتتبوأ منصب المدعي العام. وكان أحدث حلقات النضال الدعوى القضائية التي رفعتها الأستاذة غرام وائل محمد بسيوني. ذلك طعنًا على القرار الإداري بعدم تمكينها من سحب ملف التعيين في النيابة العامة كونها أنثى.

ورغم التطورات الإيجابية لصالح المرأة كمنحها الحق في التصويت، والتعليم، وتبوأها كثير من المناصب الهامة والقيادية، كالوزارة وحكم الأقاليم “المحافظات”. بل وتخطى الأمر ذلك إلى تعيينها في الهيئات القضائية واعتلائها المنصة في الدستورية العليا وفي بعض المحاكم. فإن نسبة شغل المرأة لمقاعد السلطة القضائية لا يتجاوز 0.5 % من عمل الرجال. وحتى عام 2017 كان عدد النساء القاضيات لا يتجاوز 66 عضوة قضائية.

اقرأ أيضًا: سيدات فوق المنصة.. تعيين المرأة بمجلس الدولة والنيابة العامة استحقاق دستوري تأخر تنفيذه

توجيهات رئيس الجمهورية لا تمس استقلال القضاء

في مقترحاتها حول وسائل تمكين المرأة من تولى منصب الادعاء العام، ترى الورقة البحثية أهمية أن تكون لصلاحيات رئيس الجمهورية دورًا في هذا الشأن. وهي تشير إلى أنه بالنظر إلى هذه الصلاحيات الواسعة. فإن لرئيس الجمهورية ما يمكنه من منع التمييز ضد المرأة في الولاية القضائية. ذلك كون تعديلات قانون السلطة القضائية عام 2006 أنهت سلطة وزير العدل فيما يخص المجلس الأعلى للهيئات القضائية. إلا أنها أبقت على صلاحيات السلطة التنفيذية الواسعة فيما يخص النيابة العامة.

وبما أن الرئيس يعين رؤساء الهيئات القضائية، والنائب العام رأس النيابة العامة في مصر، ووزير العدل. وهو الذي يرأس المجلس الأعلى للهيئات القضائية المهيمن على شؤونها والمتولى النظر في مسائل وشئون القضاة من التعيين والنقل والتأديب وخلافه. وينيب من أعضاء المجلس من يحل محله حين غيابه، وهو الذي يعين وكلاء النائب العام. في ضوء ذلك كله وما نص عليه الدستور من مساواة ومن تمكين للمرأة للعمل في الهيئات والجهات القضائية، لا يعد قرارًا صادرًا من الرئيس بتعيين النساء في النيابة العامة تدخلاً منه في صلاحيات الجهات والهيئات القضائية. بل يعد انتصار للشرعية الدستورية وتعديلاً لوضع مخالف لما نص عليه الدستور والتشريعات القائمة، كما تؤكد الورقة القانونية.

أيضًا تشير الورقة القانونية إلى صلاحيات وزير العدل وسلطاته. ذلك وفقًا لأحكام قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972. ومنها فمنها سلطته في إنشاء محاكم جزئية، وسلطته في انعقاد المحكمة في دائرة اختصاصها المكاني أو في أي مكان، ووضع لائحة التفتيش على أعضاء النيابة العامة.

صلاحيات وزير العدل

وتذكر الورقة أنه إذا كان لرئيس كل محكمة القيام على شؤونها فإن القرارات التي تصدر -القرارات الإدارية والتنظيمية والمالية- يجب أن تبلغ قرارات الجمعيات العامة ولجان الشؤون الوقتية لوزير العدل. وللوزير أن يعيد إلى الجمعيات العامة للمحاكم الابتدائية ولجان الشؤون الوقتية بها ما لا يرى الموافقة عليه من قراراتها لإعادة النظر فيها.

والجمعيات العامة واللجان الوقتية مسؤولة عن النظر في:

ترتيب وتأليف الدوائر وتشكيل الهيئات، توزيع القضايا على الدوائر المختلفة، تحديد عدد الجلسات وأيام وساعات انعقادها، ندب قضاة محاكم الاستئناف للعمل بمحاكم الجنايات وقضاة المحاكم الابتدائية للعمل بالمحاكم الجزئية، سائر المسائل المتعلقة بنظام المحاكم وأمورها الداخلية.

ويعين المستشار بمحكمة النقض بموافقة مجلس القضاء الأعلى. وذلك من بين اثنين ترشح أحدهما الجمعية العامة بمحكمة النقض ويرشح الآخر وزير العدل. وقد استخدم وزير العدل سلطته تلك في ترشيح المستشار الدكتور وجدي فايز كمستشار في محكمة النقض للمرة الأولى منذ خمس وعشرون عامًا. وذلك في شهر يوليو 2020.

كما أنه لا يجوز أن يعين أحد مباشرةً من غير معاوني النيابة في وظيفة مساعد إلا بعد تأدية امتحان تحدد شروطه وأحكامه بقرار من وزير العدل. ذلك بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى.

ويؤدي أعضاء النيابة قبل اشتغالهم بوظائفهم اليمين بالصيغة المبينة في المادة (71) من هذا القانون، أمام وزير العدل بحضور النائب العام.

ووزير العدل هو الذي يحدد الاختبارات ذات الصلة التي يجريها الراغبون في شغل وظيفة الادعاء العام. وهم تابعون له ويؤدون اليمين القانونية أمامه. وهو الذي يقوم بنقلهم وندبهم وترقيتهم وإن كان بعض ذلك من خلال عرض أو أخذ موافقة المجلس الأعلى للهيئات القضائية.

وعلى هذا كله، يمكن لوزير العدل أن يسهم من خلال صلاحياته الواسعة في تعيين النساء في منصب الإدعاء العام. ويمكن للسلطة التنفيذية أن تستخدم نص المادة 117 من القانون في تعيين النساء في درجة وكيل النائب العام مباشرة دون اختبارات أو لجان من بين الفئات التي حددتها المادة.

التقاضي ودور مجلس النواب في الولاية القضائية للمرأة

تؤكد الورقة القانونية أيضًا على أهمية التقاضي وسيلة لتمكين المرأة من نيل حقوقها في التعيين كوكيل للنائب العام. وهي تشير إلى الدستور بما نص عليه من نص صريح بتحقيق المساواة، سندًا لإقامة دعاوى من المضرورات من عدم التعيين في النيابة العامة.

أخيرًا، طالب المركز العربي لاستقلال القضاء، عبر ورقته القانونية، مجلس النواب الحالي والكتلة التصويتية النسائية فيه لالعمل على إصدار تعديل تشريعي على قوانين السلطة القضائية. بما يضمن تمثيلاً عادلاً للمرأة في الهيئات والجهات القضائية والعمل في أي منها. ذلك بدءًا من النيابة العامة امتثالاً لأحكام المادة 11 من الدستور. وكذا لتعديل بقية أحكامه ليتفق مع بقية أحكام الدستور المتعلقة بالسلطة الدستورية كالحال مع المجلس الأعلى للهيئات القضائية وتشكيله وسلطاته.

للاطلاع على الورقة القانونية للمركز العربي لاستقلال القضاء.. اضغط هنا