هذا أنت.. تحاول أن تعرف العالم مع أنك لا تعرف نفسك! تناضل لكي يتحقق السلام في محيطك المحلي والدولي، مع أنك عاجز عن تحقيق سلامك الداخلي! تحلم بأن يتغيّر العالم والواقع والمجتمع نحو الأفضل، لكنك لم تحاول في أي وقت من الأوقات أن تعمل على تغيير نفسك! تسعى على الدوام إلى أن تحكم الناس، تحاكمهم، أو تحكم عليهم، لكن المعضلة -كل المعضلة- أنك لا تحكم نفسك، ولا تتحكم في انفعالاتك ورغباتك المنفلتة! تتطلع إلى المشاركة في تدبير الشأن العام بكل الوسائل الممكنة، رغم أنك لا تستطيع أن تدبر شؤونك الخاصة! تحاول أن تكون من سادة المجتمع، لكنك عاجز عن أن تكون سيد نفسك! وفي النهاية هذا ما سيحدث لك: ستمضي حياتك تعيسًا، بائسًا، متذمرًا، ساخطًا، حاقدًا، جاحدًا، حاسدًا، سيئ المزاج، صعب المعشر، وستكون الطامة طامتان حين تظنّ أن تلك المشاعر هي ثمرة الوعي والثقافة والثورة، ذلك أنها ثمرة شقائك المجّاني، وهذا كل ما في الأمر.

أما بعد..

بمعزل عن الأوهام التي تبيعها لك الأيديولوجيات الخلاصية، التبشيرية، والدعوية، بكل ألوانها، كان عليك أن تنطلق منذ البدء من نقطة البداية، من ذاتك بالذات، كيف تعرفها؟ كيف تسكنها؟ كيف تحكمها؟ وأثناء ذلك كيف تبنيها لبنة لبنة؟ غير أن الأيديولوجيات الخلاصية حجبت عنك ذاتك المنخورة، وأوهمتك بأنك ملاك في عالم يحكمه الأشرار، من أهل الكفر والشرك والبدع والانحلال، أو قوى الاستعمار والاستكبار والإمبريالية والاحتلال، وأنك ضحية محيط لا يناسبك، وآخرين لا يناسبونك، ونظام عالمي لا يناسبك، وبهذا النحو كنت تتذمر، وكانت تعاستك تزداد.

هذا أنت مرّة أخرى..

لقد تمّت قولبتك منذ مراحل الدراسة الأولى في المدرسة، حين كان عليك أن تترك أسئلتك بدعوى أن دورك ليس طرح الأسئلة، بل دورك محاولة الإجابة عن أسئلة المعلم والمنهاج والتقويم، دور المدرسة أن تسأل ودورك أن تجيب.

لكنك حين تترك أسئلتك فإنك تترك نقطة انطلاقك وتنطلق من نقطة رسمها لك الآخرون، وقد تنجح فعلا لكن في غير طريقك، وهذا سبب كاف للشقاء والتوحش.

ثم اكتملت قولبتك مع مختلف الأحزاب والجمعيات ووسائل الإعلام وباعة الكلمات بالجملة والتقسيط، عندما أقنعوك بأن شقاءك ليس نابعاً من ذاتك، أفكارك، مخاوفك، حقدك، نهمك، جشعك، إلخ، بل هو آت من خارج الذات، من سادة العالم، ولاة الأمر، حراس المعبد، أنصار الطواغيت، الأرواح الشريرة، وهلم جرا.

هكذا عظمت لديك مشاعر الأسى والسخط والتذمر، ومعها عظم شقاؤك، وتقلصت أبعادك الإنسانية، ثم انتهيت إلى العنف والتوحش.

أتدري ما العنف؟

العنف رد فعل همجي يقوم به الإنسان الشقي ضد من يعتقد أنهم سبب شقائه، وإليك بعض الأمثلة:

العنف في الحياة الزوجية ردّ فعل همجي ناجم عن اعتقاد الزوج التعس بأن الزوجة هي سبب تعاسته -أو الزوج بالنسبة للزوجة- أو الأبناء بالنسبة لأحدهما أو كليهما.

العنصرية في الواقع الاجتماعي رد فعل همجي ناجم عن اعتقاد المواطن التعيس بأن تعاسته الاجتماعية ناجمة عن وجود المهاجرين، اللاجئين، السود، اليهود، أو غيرهم من “الغرباء”.

“الإرهاب العالمي” رد فعل همجي ناجم عن اعتقاد المسلم التعس بأن سبب تعاسته في الدنيا هو انتشار الكفر، والشرك، والطاغوت، والاستكبار، والإباحية، وما إلى ذلك من مصطلحات ملغومة.

الحقيقة المنسية أن الشقاء غالبًا ما لا ينبع من الخارج، بل من الذات المشحونة بمشاعر الحزن والأسى والتذمر، والعاجزة بالتالي عن إدارة نفسها بنفسها.

أما إن كنتَ ناشطًا سياسيًا وتعتقد بوجود نظام سياسي يكون فيه جميع المواطنين سعداء، من الحاكم إلى الإسكافي، فأنت واقع في وهم سياسي كبير متحدر من أب الفلسفة السياسة أفلاطون. وهو الوهم الذي ترجمته الماركسية خلال القرن العشرين إلى حلم كبير سرعان ما سيتحطم على صخرة الواقع.

لا أنكر وجود نظم سياسية تحقق العدالة بنحو أفضل من غيرها، غير أن السعادة لا تتعلق بالضرورة بطبيعة النظام السياسي، كما لا ننكر أن طبيعة النظام العام قد يكون لها دورا في مظاهر السعادة والفرح، لكنه دور محدود في النهاية، لأن الأمر يتعلق بقدرة نابعة من كيفية بناء الذات.

السعادة مثل الحب إن لم تنبع من داخل الذات، فلا يمكن لأي نظام سياسي أن يمنحها أو يوزعها مثلما يتم توزيع الثروات أو الحقوق. ليست السعادة حقا من الحقوق بل قدرة من القدرات، تماما مثل تذوق الموسيقى، والاستمتاع بنسيم البحر، غير أن هناك علاقة عكسية، حيث أن الإنسان الشقي يدمر كل شيء، بدءا من ذاته ومحيطه، لذلك يحتاج العيش المشترك إلى قدر من السعادة، غير أن تحقق السعادة لا يرتبط بوجود نظام سياسي بعينه أو بالضرورة.

ليست السعادة أشياء يجب أن تتوفر، ولا مطالب يجب أن تتحقق، مع أننا لا ننكر الحاجة إلى توفر الحاجيات الضرورية، إلا أن السعادة هي قبل كل شيء أشياء يجب أن تزول، أقصد بها، تلك الأوهام التي تُعمق شقاء الإنسان، من قبيل أن يفكر الواحد منا على النحو التالي:

طالما العالم تعس سأبقى تعسًا بالضرورة، ولن أتخلص من الشقاء قبل أن يتغيّر العالم، وبالجملة يجب أن يتغير العالم لكي أصبح سعيدًا! يجب أن يسقط الكثيرون! يجب أن يخسر الكثيرون! يجب أن يهلك الكثيرون! يجب أن تطير رؤوس كثيرة! ولنا أن نتصور البقية..

للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا