بعد عام من الصمت والتأجيل، انعقد المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية بدير الأنبا بيشوي بوادي النطرون. وقد جاءت قراراته لتؤكد سلطة البابا تواضروس وتياره الإصلاحي. بينما تبعد تيار الصقور التقليدي مسافة أكبر عن صناعة القرار الكنسي.

اضطرت ظروف وباء كورونا البابا تواضروس إلى تأجيل انعقاد المجمع المقدس العام الماضي، الذى جاء حافلاً بالتحديات التي خلفتها الجائحة على الخدمة الكنسية. إذ وُضع المؤمنون جميعًا في أزمة صنعتها أسئلة من نوعية “هل الوباء غضب من الله؟ أم تحدي جديد للإنسانية؟ وقد قسم الوباء كغيره من الأزمات آباء الكنيسة إلى نوعين؛ منهم من انحاز للعلم يحذر شعبه من انتقال العدوى بطرق مختلفة، ويسارع إلى غلق الكنائس وتقليل الأعداد والأخذ بالاحتياطات، ومنهم من آمن بالغيبيات مبتعدًا عن العلم، راغبًا في بسط نفوذه على البسطاء من الأقباط. وهو يرى أن الصلاة في الكنيسة كافية لرفع الوباء عن العالم، دون الأخذ بأسباب العلم ومقدرات الحضارة الإنسانية.

كذلك، فإن المجمع المقدس عُقد بعد أيام من وفاة اللاهوتي البارز جورج حبيب بباوي. بينما قرر البابا تواضروس الصلاة عليه في الكنيسة القبطية بأمريكا، متجاوزًا قرار حرمانه الكنسي الذي مر عليه سنوات، لم يتمكن بباوي خلالها الدفاع عن نفسه ضد من يحتكرون الحديث باسم الله. وقد أكدت وفاة بباوي كغيرها من الأزمات الكنسية الاستقطاب الكنسي الحاد بين تيار الحمائم المستنير وتيار الصقور التقليدي. فيما ألقى البابا تواضروس عظة أمام اللجنة العامة للمجمع المقدس، أكد فيها على تلك التقسيمات، حين فرق بين نوعين من الخدام في الكنيسة؛ الأول أطلق عليه اسم “خادم السبت”، بينما أسمى النوع الثاني باسم “خادم الإنسان”.

السبت أم الإنسان؟ تساؤل البابا تواضروس يلقي ضوءًا على الصراع

البابا تواضروس قال إن خادم السبت يرى أن السبت (الطقس) هدف وغاية ويغالي في الدفاع عنه. أما خادم الإنسان فيراه خزانة للإيمان واللاهوت والعقيدة والحياة مع الله. مضيفًا أن خادم الإنسان ثمر مبارك، وثمر البر يزرع في السلام، حياته ملؤها ثمار متكاثرة، يعمر ويبني ودومًا تكون طلبة قلبه يارب اجعلني سببًا لسلامك. أما خادم السبت فدائم الخصام والصدام ذاته منتفخة تعطل عمل الكنيسة ويعوق عملها يضع السراج تحت المكيال. لا تنسوا أن كنيستنا أم ولود، أي أنها كثيرة الثمر.

بينما وضع البابا تواضروس بعد الصفات الخلقية لخادم السبت الذي يعبد الطقس دون أن ينظر إلى مصلحة الإنسان الذي تأسس الطقس من أجله. فهو وفقًا للبابا معاند ومتعب يسبب الألم لجميع من حوله، ومظهري يتمسك بالمظهر دون الجوهر، ومرتاب يشكك في كل الحقائق الواضحة وضوح الشمس، ومتزمت ومعثر أي إنه يتسبب في العثرة للمؤمنين.

العظة التي قدمها البابا تواضروس للمجمع المقدس تحمل الكثير من الدلالات والإشارات وهي الطريقة الباباوية لقول ما يريد دون أن يتورط في معارك كلامية تختصم من سلطته الباباوية في زمن السجال على السوشيال ميديا.

أما قرارات المجمع المقدس نفسه فقد جاءت لتؤكد رغبة البابا تواضروس في ربط الكنيسة بالمجتمع، وبما يجري حولها دون أن تسقط في فخ الانعزالية. وكأنها تغرد خارج السرب. فقد رأى المجمع ضرورة التوعية بالحصول على تلقي لقاحات فيروس كورونا لتعمل الكنيسة على مواجهة الخرافات والشائعات لتنتصر للعلم ضد الخرافة.

كذلك عملت الكنيسة على تعضيد أدوارها الاجتماعية من خلال الحث على مواجهة التنمر ودعم ذوي الإعاقة وتأهيل المسجونين ورعاية أسرهم و التنسيق مع أسقفية الخدمات الاجتماعية للاستفادة من برامج الحماية الاجتماعية التي توفرها الدولة. وهي كلها أفكار توجيهات تتسق مع ما بدأه البابا تواضروس منذ سنوات حين أطلق مشروعًا للرعاية الاجتماعية لإخوة الرب أو رقيقي الحال.

جورج حبيب بباوي.. البابا تواضروس طبيبًا لمن حكم عليه بالإعدام

كذلك لم ينس المجمع المقدس توجيه اللوم إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي تعمل على نشر أكاذيب وإثارة القلاقل والبلبلة عبر جماعات تعمل بشكل منظم وومنهج في مصر والمهجر. أبرزها جماعة “حماة الإيمان الكنسية”، وبعض الصفحات التي حذرت الكنيسة منها قبل ذلك.

كما استجابت الكنيسة لمبادرة أطلقها الآباء الكهنة بالإسكندرية يرفضون فيها دفنهم داخل الكنائس التي تتحول إلى مزارات مع مرور الوقت. وهي السلوكيات التي كانت متبعة لسنوات طويلة.

قبل المجمع المقدس، تحدث البابا تواضروس إلى جريدة “وطني” المختصة بشؤون الكنيسة وفتح قلبه فيما يخص أزمة جورج بباوي المحروم كنسيًا. قال إن “جورج بباوي لاهوتي مسيحي قبطي، له العديد من المؤلفات والكتب والمناظرات”. وإنه تعامل مع قضيته من وازع ضميره ومسؤولياته. وتعامل معه كإنسان، صدر حكم بإعدامه، ولما مرض قبل تنفيذ الحكم، قرر له دواء فاستجاب لطلبه. كما أنه تعامل معه كإنسان يتوب، وهو على مشارف الموت. وأكد أن قوانين الكنيسة تسمح بهذا لأنها جاءت من أجل خلاص كل إنسان.

رسالة بباوي إلى البابا

أيضًا، أوضح البابا تواضروس أن جورج حبيب بباوي كانت‏ ‏له‏ ‏أفكار‏ ‏اختلف‏ ‏فيها‏ ‏مع‏ ‏البابا‏ ‏شنودة‏ ‏الثالث‏. وأن هذه الأفكار عرضت‏ ‏على‏ ‏المجمع‏ ‏المقدس‏ ‏دون‏ ‏حضوره‏ ‏في‏ ‏عام‏ 2007. ‏أضاف كذلك: “كنت‏ ‏موجودًا‏ آنذاك‏ ‏بالمجمع‏، ‏وكما‏ ‏ارتأى‏ ‏المجمع‏ ‏وقتها‏ ‏تقرر‏ ‏فرزه‏ ‏وحرمانه‏ ‏من‏ ‏الكنيسة‏. ‏وهو‏ ‏قرار‏ ‏له‏ ‏كل‏ ‏التقدير‏، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏في‏ ‏أغسطس‏ ‏الماضي،‏ ‏وصلتني‏ ‏منه‏ ‏رسالة‏ ‏يعتذر‏ ‏فيها‏ ‏ويطلب‏ ‏السماح‏ ‏له‏ ‏بالتناول‏ ‏من‏ ‏الأسرار‏ ‏المقدسة‏ ‏لمرضه‏ ‏القاسي‏ ‏وقرب‏ ‏أيامه‏”.

“لما‏ ‏كنت‏ ‏لا‏ ‏أعرفه‏ ‏ولم‏ ‏أقابله‏ ‏ولم‏ ‏نتحدث‏ ‏مع‏ًا ‏حتى ‏تليفونيًا، كان أمامي ثلاثة اختيارات إما أن أغفل رسالته وإما أن أقول له انتظر حتى اجتماع المجمع المقدس ولم يكن معروفًا متى سيجتمع، وإما أن أستجيب لرغبته ومن وازع ضميري ومسؤوليتي”؛ يقول البابا وقد أخذ بالاختيار الثالث و‏سمح‏ ‏لبباوي‏ ‏بالتناول‏. “‏تعاملت‏ ‏معه‏ ‏كإنسان‏ ‏صدر‏ ‏حكم‏ ‏بإعدامه‏ ‏ولما‏ ‏مرض‏ ‏قبل‏ ‏تنفيذ‏ ‏الحكم‏ ‏طلب‏ ‏طبيبًا‏ ‏فقرر‏ ‏له‏ ‏دواءً‏ ‏فاستجاب‏ ‏لطلبه‏.. ‏تعاملت‏ ‏معه‏ ‏كإنسان‏ ‏يتوب‏ ‏وهو‏ ‏على‏ ‏مشارف‏ ‏الموت‏، ‏وقوانين‏ ‏الكنيسة‏ ‏تسمح‏ ‏بهذا‏ ‏لأنها‏ ‏جاءت‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏خلاص‏ ‏كل‏ ‏إنسان‏”.‏

جاءت تصريحات البابا عن جورج بباوي لتستفز التيار التقليدي مرة أخرى. فعقب اجتماعات المجمع المقدس نشرت بعض الصفحات الكنسية تصريحات على لسان الأنبا بنيامين مطران المنوفية وأحد صقور التيار التقليدي. قال إن جورج بباوي ما يزال محرومًا وإن المجمع المقدس قرر ذلك. وبعد انتشار تلك التصريحات على نطاق واسع خرج المتحدث الرسمي باسم الكنيسة لينفيها جملة وتفصيلاً. وهي المعركة الأولى التي يخوضها المتحدث الرسمي الجديد القمص موسى إبراهيم يعقوب. وقد بدأ خدمته في أعقاب تلك الدورة من المجمع المقدس.

رسامة أساقفة جدد وتقسيم إيبراشية المنيا.. خطوة لتعزيز سلطة البابا تواضروس

فيما يشبه تعزيز سلطته الكنيسة، عمل البابا تواضروس على رسامة أساقفة جدد وتجليس أساقفة آخرين في شهر مارس. وقد جاء هذا الشهر حافلاً بالأحداث الكنسية. إذ قرر المجمع المقدس تجليس الأنبا مكاريوس أسقفًا للمنيا. وأيضًا الأنبا ساويرس أسقفا لدير الأنبا توماس السائح. فضلاً عن رسامة الراهب أغابيوس الأنبا بيشوي أسقفًا ورئيسًا لدير للأنبا بيشوي. وكذلك القمص ثاؤفيلس المحرقي أسقفًا لأبو قرقاص، والقمص سرابيون السرياني أسقفًا على إبراشية شرق النيل. إلى جانب رسامة القمص أخنوخ للأنبا بيشوي أسقفًا لأفريقيا، والقمص سيداروس الصموئيلي أسقفًا عامًا لعزبة النخل. كما رُسم القمص زوسيما المحرقي للولايات المتحدة الأمريكية، والراهب مارتيريوس أفامينا لعين شمس والمطرية.

ربما قرار  تقسيم إيبراشية المنيا وأبو قرقاص إلى ثلاثة إيبراشيات؛ الأولى في المنيا والثانية في أبو قرقاص والثالثة في شرق النيل هو الأبرز ضمن رسامات الأساقفة الجدد. إذ كانت الإيبراشية الضخمة تخضع لإدارة الأنبا إرسانيوس مطران المنيا الذي توفي قبل ثلاثة سنوات تاركًا الإيبراشية الضخمة لمعاونه الأنبا مكاريوس الأسقف العام بالمنيا. فأعلن البابا تواضروس أن تلك الإيبراشية خضعت للتقسيم. وهو نهج اتبعه البابا منذ توليه سدة الكرسي المرقسي. وقد حرص على ذلك بسبب التنامي في أعداد الكنائس وعدد السكان. ومن ثم ظهرت الحاجة إلى التقسيم لقطاعات أصغر بالشكل الذي يحسن الخدمة من ناحية، ويمنح البابا فرصة لرسامة أساقفة جدد من ناحية أخرى. ما يغير التركيبة الحالية للمجمع المقدس والتي ورثها عن سلفه البابا شنودة الثالث.

خضع تقسيم إيبراشية المنيا إلى الكثير من القيل والقال في ظل الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها الأنبا مكاريوس أسقف المنيا. ويلقبه الأقباط بأسد الصعيد، بعد تصديه مرارًا للأحداث الطائفية في المحافظة الملغومة. ما تسبب في تأخير القرار الباباوي فترة طويلة حتى حانت لحظته.

صناعة زيت الميرون للمرة الأربعين في تاريخ الكنيسة.. انتصار باباوي جديد

تعتبر صناعة الميرون من أسرار الكنيسة إذ أن هذا الزيت يستخدم في كافة الأسرار الكنسية مثل  تقديس مياه المعمودية، ورشم المعمدين. كما يُدشن به الكنائس والمذبح وأواني المذبح. وكان يستخدم قديمًا في تكريس الملوك. إلا أن البابا تواضروس قد أعلن عن صناعته في مارس. وذلك بالطريقة الجديدة التي أدخلها البطريرك على الكنيسة في عهده. ما جعله في مرمى هجوم المتشددين الذين اعتبروا أن صناعة الميرون في مارس يوازي التوقيت الكاثوليكي. بينما دأبت الكنيسة القبطية على صناعته في أسبوع الآلام.

تغيرت طريقة صنع “الميرون” في عهد البابا تواضروس الثاني، لأول مرة عام 2014. وهذا أمر جعله في مرمى هجوم حاد من عدد من الصفحات القبطية عبر مواقع التواصل الاجتماعي. حتى أنّ البابا تواضروس، هاجم هؤلاء في مقال له بمجلة الكرازة. وطلب الكشف عن شخصياتهم بدلاً من التستر وراء أسماء وهمية.

تغير البابا تواضروس عن الرجل الذي كان يدير شؤون الكنيسة عام 2014. صار أكثر خبرة وحنكة وقدرة على مواجهة التيار المتشدد. وها هو مع الوقت ينفذ قراراته الباباوية حتى وإن اضطر أن يقذف بها مرة واحدة وفي شهر واحد. فهو يرى أن الإصلاح لا يؤمن بالأيادي المرتعشة ولا بالسلطة الرخوة.