اشتعلت الحرب التجارية بين أمريكا والصين مجددًا بعد أزمة شركتي “هواوي” الصينية و”تسلا” الأمريكية. ذلك تأكيد على أن الخلافات بينهما لا تتعلق بأشخاص على رأس إدارة البلدين. لكنها مرتبطة أكثر بصراع عميق لن يهدأ حول الزعامة الاقتصادية للعالم في المستقبل القريب.

حظرت الصين، اليوم السبت، دخول سيارات شركة تسلا الأمريكية في مناطقها العسكرية، بسبب مخاوف أمنية بشأن الكاميرات المثبتة على المركبات. كما منعت أيضًا من السير بمناطق التجمعات السكنية للعاملين في الصناعات الحساسة ووكالات الدولة الحكومية وشركات الطيران .

قرار بكين الجديد مغلف بعباءة سياسية صرفة واستخدامه في إطار الحرب التجارية. خاصة إذا ما تمت مقارنته بالكم الهائل من التسهيلات التي منحتها الحكومة لشركة تسلا قبل عامين، من أجل الاستثمار في الصين.

وجاء القرار تزامنًا مع إعلان الخارجية الصينية عن أملها في أن “تلتقي” الولايات المتحدة بها في منتصف الطريق. وإعادة العلاقات الثنائية إلى مسار التنمية السليمة والمستقرة بعد جلسة الحوار الاستراتيجي رفيع المستوى في ألاسكا.

قالت بكين إن وفدها توجه “ألاسكا” لواقعة في أقصى شمال الولايات المتحدة. وعندما وصلوا كانت قلوبهم باردة بسبب البرد القارس واستقبال مضيفهم الأمريكي، في كناية على جدوى المفاوضات.

وطالبت بكين الجانب الأمريكي بأن يفهم بوضوح أنها عازمة بشدة على حماية مصالحها الجوهرية. وأن يرى بوضوح بالغ موقفها الثابت حيال عدم السماح بأي تدخل في الشؤون الداخلية الصينية. وزادت بهجوم عنيف على واشنطن خلال الدورة الـ46 لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. قالت فيه إن البعض في الولايات المتحدة نصبوا أنفسهم “قضاة ومنارة لحقوق الإنسان” لفترة طويلة ولمدى بعيد للغاية، ويُخعضون الآخرين للفحص والتدقيق وينأون بأنفسهم عن ذلك. وأشارت إلى ظاهرتي التمييز العنصري والعنف الشرطي التي وصفتهما بـ”خطيرتين جدًا” بالولايات المتحدة.

ثأر عنيف

يأتي الهجوم الصيني العنيف بعد القرارات الأمريكية، الأسبوع الماضي، التي اعتبرت شركة “هواوي” الصينية “خطرًا غير مقبول” على الأمن القومي. على غرار “زِد تي إي” و”هَيْتيرا كوميونيكيشنز” و”هانغتشو هيكفيجن ديجيتال تكنولوجي” و”داهوا تكنولوجي”.  موجهًة ضربة جديدة لهواوي التي تعمل في 170 بلدًا وتوظف 194 ألف شخص بعد منعها من الحصول على أشباه الموصلات المصنوعة بأميركا قبل شهور.

تظهر التحركات الصينية الأخيرة أنها تؤهل نفسها لصراع طويل الأمد مع الولايات المتحدة. وهي تعرف جيدًا أن الأمر متعلق بقيادة الاقتصاد العالمي. فوضعت خطة خمسية جديدة تمتد حتى عام 2025 تركز في المقام الأول على الاستقلال التكنولوجي. وخصصت مبلغًا خيالًيا يقدر بنحو 1.4 تريليون دولار، لإنفاقها على الذكاء الاصطناعي واستخدام الهيدروجين كوقود والسيارات الكهربائية وإنتاج أشباه الموصلات.

ستجد بعض الدول نفسها بمرمى تلك الحرب وبينها اقتصادات ضخمة في أوروبا. على وزجه التحديد بريطانيا التي تعرضت لضغوط من أجل  منع اشتراك هواوي الصينية في شبكة الجيل الخامس لديها. ذلك أن التكلفة كبيرة فواشنطن تتحكم في البنية الأساسية لنظام الدفع بلندن. كما أن الصين تضخ مبالغ خيالية للسيادة التكنولوجية، تضع أمريكا في المقابل 100 مليار دولار لتحقيق المأرب ذاته.

الصين تقود باستراتيجية شاملة

تمتلك “هواوي” أغلب براءات اختراع تكنولوجيا الجيل الخامس على مستوى العالم. فحتى نهاية 2019 كان لديها  100 ألف براءة اختراع في أكثر من 40 ألف فئة. بعد تخصيصها  استثمارات بقيمة 20.3 مليار دولار من أجل الاختراع والابتكار.

ووفقاً لصندوق النقد الدولي، فإن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين التي بدأت قبل ثلاثة أعوام أفقدت الاقتصاد العالمي نموا يناهز 1%. لكن أمريكا تبدو المتضرر الأول إذ لم تنتجح خططها حتى الآن في ضبط عجز الميزان التجاري الذي يصب في صالح الصين، فلا يزال يدور في فلك الـ300 مليار دولار.

تشير التقارير العالمية إلى أن التقديرات التي تشير إلى أن بكين ستتحول إلى أكبر اقتصاد بالعالم بحلول عام 2028، متفوقة بذلك على الولايات المتحدة، تنذر باستمرار بقاء الحرب التجارية.

وكشف مركز “cebr” البريطاني للاقتصاد وأبحاث الأعمال، في دراسة جديدة أن الصين ستتربع على عرش أقوى اقتصادات العالم، قبل 5 أعوام مما كان متوقعا. فتفشي فيروس كورونا وتأثيره على الاقتصاد العالمي كان لصالح الصين، كما أن الأزمة ستجعل بكين الاقتصاد العالمي الرئيسي الذي سيتوسع العام الحالي.

وتوقع بنك “يو بي إس” السويسري أن ينمو اقتصاد الصين خلال العام الجاري. وذلك بدعم زيادة الصادرات، والإنفاق الاستهلاكي، إلى 9% في العام الحالي، مقارنة مع تقديرات سابقة عند 8.2%.

وتوقع البنك أن تؤدي حزمة التحفيز الأمريكية البالغة 1.9 تريليون دولار إلى انتعاش أقوى للولايات المتحدة والعالم. هذا بدوره يقودنا إلى توقع نمو الصادرات الصينية إلى 16%.

ورفع بنك إتش.إس.بي.سي هولدنجز البريطاني، أكبر بنوك أوروبا، توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي إلى 5% في 2021، من 3.5% في التقدير السابق، وللعام التالي إلى 3% من 2.5%.

وعزا قسم الأبحاث بالبنك رفع التوقعات إلى زيادة إنفاق المستهلكين، إلى التحفيز المالي. هذا بالإضافة إلى ومساعي الديمقراطيين لإقرار حزمة إغاثة حجمها 1.9 تريليون دولار يقترحها الرئيس جو بايدن. وتأثير طفرة سوق الإسكان الأمريكية على مشاريع البناء.

شكوك كبيرة

وتنتاب المسئولين الأمريكيين حاليًا شكوك حول قدرة الولايات المتحدة على الصمود مع الصين حتى مؤسسة بروكينجز، أقدم المؤسسات في البلاد. التي قالت إن بكين تزاحم واشنطن بسرعة في جميع المناطق تقريبا، واستطاعت تجاوز الولايات المتحدة وأصبحت أكبر متلقي للاستثمار الأجنبي المباشر بالعالم.

تنبع استراتيجية الرئيس الأمريكي جو بايدن في الضغط على الصين وعزلها ومعاقبتها لكن بمساعدة الشركاء. وقال قبل ثلاثة شهور إنه سيواصل في الوقت الحالي الحرب التجارية التي شنتها إدارة سلفه دونالد ترامب. رغم  تضرر دافعي الضرائب الأمريكيين.

حتى في اختيارات إدارته فضل الصقور المعادية للصين مثل أنتوني بلينكن الذي يدعم فرض عقوبات على بكين. وكذلك مستشار الأمن القومى الأمريكى جيك سوليفان الذي قال قبل ساعات إن الأفعال الصينية تهدد النظام العالمى الذى يقوم على القواعد، وتعهد بأن واشنطن ستدافع عن أصدقائها.

وقال الدكتور رياض عيد، الباحث في العلاقات الدولية، في تصرحات تليفزيونية، إن نقاط الخلاف بين أمريكا والصين تتمثل في زعامة العالم اقتصاديا. وأوضح أن ما يقلق أمريكا حاليا هو أن الناتج القومي للصين بدأ يزيح أمريكا عن عرش الكون اقتصاديا.

وأضاف أن الصين تقدمت في الذكاء الاصطناعي وأدخلته في الصناعات وتقدمت في الجيل الخامس من الاتصالات وتحضر لجيل سادس. وبالتالي تعيش أمريكا حالة من الخوف. كما تعتبر أمريكا الصين مزاحمًا لها على المناطق “الجيو استراتيجية الكونية”. ولفت إلى أن أمريكا تريد استغلال ملف الحريات وبحر الصين والتنافس غير الشرعي للضغط على الصين.

أكبر تحد جيوسياسي

وكان وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن أكثر وضوحًا حينما قال إن واشنطن مستعدة لمجابهة الصين متى دعت الحاجة باعتبارها “أكبر تحد جيوسياسي” في القرن. وأكد أن قوة الصين تهدد القواعد التي تجعل العالم يسير كما تريده واشنطن، ووعد بمناصرة حقوق هونج كونج، وعرقية الإيجور. وأضاف أن الصين الدولة الوحيدة ذات القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية التي من شأنها أن تهدد جدياً المنظومة الدولية المستقرة.

ولجأت الصين، أخيرًا، إلى سلاح المبادرات والتكتلات الضخمة لمواجهة تخوف القوى العالمية من تصاعدها المستمر على المستويات كافة. وضمت 15 دولة من منطقة آسيا والمحيط الهادئ، في أكبر اتفاق للتجارة الحرة على مستوى العالم. تلك خطوة ظاهرها التعاون الاقتصادي وتعزيز النمو ما بعد حقبة “كورونا”. وباطنها تعزيز بكين نفوذها على مستوى العالم.

كما تواصل الصين الإنفاق ببذخ على مبادرة “الحزام والطريق” الذي يتضمن إحياء “طريق الحرير” التجاري القديم، الذي كان يمتد عبر آسيا وأوروبا لنقل البضائع من تلك المناطق إلى الصين. ووقعت حتى الآن 126 دولة و29 منظمة عالمية على وثائق للتعاون في المشروع، الذي يبلغ إجمالي صفقاته 3.67 تريليون دولار.

ووفقا لوكالة بلومبرج، فإن جائحة فيروس كورونا ستحدث تحولاً في نمو الاقتصاد العالمي، بما يدفع الصين إلى المقدمة بصورة أكبر. وتوقعت أن تزيد مساهمة الصين في إجمالي النمو الاقتصادي للعالم من 26.8% خلال العام المقبل إلى27.7 %  خلال خمس سنوات. وفي 2021 من المرجح زيادة المساهمة الصينية في النمو العالمي بمقدار 15 نقطة مئوية عن المساهمة الأمريكية.

وحاولت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب عرقلة النمو الصيني، بفرض رسوم بقيمة 25% على قائمة من 1300 سلعة صينية تستورد منها الولايات المتحدة سنويا “ما قيمته 50 مليار دولار تقريبا. لترد الصين بفرض النسبة ذاتها على قائمة بـ106 سلع أمريكية تستورد منها الصين سنويا أيضًا ما قيمته 50 مليار دولار. هذا أظهر التكافؤ الاقتصادي والندية التي باتت الصين تتمتع بها عالميًا.

لم تكتف الصين بذلك بل لجأت إلى آلية فض النزاع التابعة لمنظمة التجارة العالمية التي اتهمت الولايات المتحدة بانتهاك أحكام الاتفاقية العامة بشأن التعريفات الجمركية والتجارة (الجات) لعام 1994، وهي المعاهدة التي أنشأت منظمة التجارة العالمية وكانت هذه هزيمة خطيرة للولايات المتحدة، وإساءة لسمعتها عالميًا بعد أن رفضت الالتزام بقواعد منظمة التجارة العالمية التي دفعت أساسا لإنشائها.