حين بدأت الكتابة عن العنصرية، احتلت أفكار كثيرة عقلي وتحيرت هل أكتب عن تجربتي الشخصية في مواجهة العنصرية أم أكتب عن البعد القانوني للعنصرية وتعامل الآليات الدولية مع العنصرية، وتعامل الدستور المصري مع التمييز العنصري. لكن يبدو أن الشخصي طغي على القانوني. وقررت أن أحكي عن تجاربي في مواجهة العنصرية أولاً.

قبل كل شيئ علينا أن نرسي قاعدة، وهي أن الله خلق البشر سواسية. إلا أن البعض قرر علو عرق على آخر وجنس على آخر أو أي سبب يتخذونه للتفرقة بين البشر. العنصرية ليست كلمة سياسية لا يتناولها إلا السياسيين. بل هي واقع معاش يبدأ بنظرة دونية وتنمر ويصل إلى القتل.

قبل أي شيء العنصرية هي إقصاء أو تمييز أو تعنيف فرد ما بسبب اللون أو الجنس أو العرق أو الإثنية أو الأصل القومي أو الدين أو العقيدة. العنصرية تصل إلى القتل. مثل حالة مقتل جورج فلويد الأفريقي الأمريكي الذي قتله ضابط شرطة فذاع صيته وتحرك العالم لمقتله واستغلت حركة Black Lives Matter الحدث، وسلطت الضوء على ما يعاني منه فلويد وغيره من آلاف بل الملايين حول العالم. حتى في الظروف الحالية بسبب جائحة كورونا تمت صياغة مصطلح “كراهية الأسيويين أو Asian hate” وعانى الكثير من العنصرية بسبب أصولهم الأسيوية.

أما عن تجربتي مع العنصرية، فهي تبدأ من أنني ولدت لأبوين نوبيين، ونشأت في منزل للعائلة الممتدة، وكان كل سكان العقار من أقاربي من “السود”، لم أدرك الفرق بين الأبيض والأسود إلا عندما ذهبت إلى المدرسة، عندما بدأ بعض الأطفال المتنمرين وصفي بالـ“سودة”. سألت أمي هل هي سبة ولماذا لا ينعتوا الأطفال الآخرين بالأبيض. سكتت أمي ونصحتني بالشكوى للمعلمة. استمرت النعوت مثل سمارة وشيكولاتة والزنجية وبنت البوابين وبنت السفرجية وغير مناداتي بأسماء لاعبي كرة القدم الأفارقة.

كم استشطت غضبًا من التمييز ضدي بسبب لوني وأصلي العرقي وكم كتبت على مدونتي مقالات عما أتعرض له، وكنت أشعر بالقهر عند نفي الواقع الذي اتعرض له أو التقليل منه وتطبيعه على أساس أن اختلافي يسبب لفت الانتباه إلا أنني رفضت محاولة تهوين من أثر الانتهاكات التي أتعرض لها. حتى خارج مصر تعرضت في أكثر من مطار لسياسة التعريف العرقي racial profiling حيث أعيد تفتيشي أكثر من مرة أو عزلي لفحص جواز سفري أكثر من مرة، لمجرد كوني أفريقية. فشرطة المطارات تتعامل مع أي أفريقي على أنه يريد ويسعي إلى أن يكون مهاجرًا غير شرعي.

مازلت أتذكر أحد ضباط الجوازات في دولة أوربية، تعجب من كم التأشيرات الموجودة في جوازي. قال لي غريب أن يحصل شخص مثلك على هذا الكم من التأشيرات. حتى عند دراستي بالخارج، كلما قابلت أحدًا في الشارع تلفظ بسؤال لماذا لست قيد الاعتقال كباقي الأفارقة الذين يعبرون البحر المتوسط طلبًا لحياة أفضل. أتذكر كم مرة وصفت نفسي بالسوداء في محادثاتي علي أمل تطبيع اللفظ وتقبله ونزع الوصمة عن اللفظة وإعادة تعريفه وامتلاكه.

للأسف رغم إنكار الكثيرين إلا أن العنصرية داء عُضال أصاب العالم اختبرته في مصر وفي خارج مصر. على الرغم من التقدم الذي وصل له العالم الا ان نظرته لبعض الأشخاص  ما زالت تمييزية.

عملت مواثيق واتفاقيات التي تبنتها الأمم المتحدة على التأكيد على المساواة المطلقة دون أي تفرقة، أقرت المواثيق الدولية في موادها المختلفة مساواة الأفراد بغض النظر عن أي صفة من صفاتهم. لقد أقرت اتفاقية مناهضة التمييز العنصري التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1963 وقد وقعت مصر على الاتفاقية عام 1966 ودخلت الاتفاقية حيز النفاذ عام 1969.

تهدف الاتفاقية إلى مناهضة وإنهاء التمييز العنصري على أساس اللون والعرق والأصل القومي والجنس وإنهاء التمييز ضد الأشخاص الذين تتطبق عليهم هذه المعايير. وقد تم إقرار هذه الاتفاقية في ظل ظروف دولية استشرت فيها العنصرية، ففي الولايات المتحدة كانت حركة الحقوق المدنية للأفارقة الأمريكيين في أوجها. وعلى صعيد آخر كانت سياسات الفصل العنصري أو الأبارتهيد في جنوب أفريقيا تسلب الأفارقة أبسط حقوقهم وتعاملهم بمنطق لا إنساني.

كان السعي لإنهاء التمييز العنصري من أهداف الجماعة الدولية إلا أن مواد هذه الاتفاقية لم تحقق على أرض الواقع، ومازلت مجرد حبر علي ورق، وقد أقيمت مؤتمرات دولية بعد هذه الاتفاقية بعقود لتناقش العنصرية وانتشارها مثل مؤتمر ديربان الذي كان علامة فاصلة في مجال القضاء على التمييز العنصري. خاصة التمييز العنصري الذي تقوم به الدولة الصهيونية ضد الفلسطينيين، حيث أتم إقرار في هذا المؤتمر أن ما تقوم به دولة الاحتلال الصهيونية يعد تمييزًا عنصريًا. وقد غابت عن هذا المؤتمر الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية. وقد كان اعتبار الممارسات الصهيونية تمييزًا عنصريًا ضد أصحاب الأرض الأصليين تطورًا كبيرًا في خطاب المجتمع العالمي.

أقيمت عدة مؤتمرات لمراجعة مؤتمر ديربان إلا أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي حضرت بتمثيل منخفض المستوى، وبعضها لم يحضر المؤتمرات. للأسف على رغم من إقامة مؤتمرات وتبني وثائق قانونية وإنشاء أجهزة ومنابر للقضاء على التمييز العنصري، إلا أن هناك جرائم تصل إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية تستهدف بعض الأشخاص لإنتمائهم لعرق أو جنس أو دين أو عقيدة أو إثنية ما.

أخيرًا، نتناول كيف تعامل التشريع المصري مع قضية العنصرية؛ لقد تبني الدستور المصري 2014 مادة عن التمييز. وقد أوردت المادة عدة معايير التي يتم التفريق بين البشر على أساسها. وتنص هذه المادة رقم 53 “المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر”.

التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون. تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض. من الواضح أن المشرع المصري وسع من دائرة المعايير التي تستند اليها القوانين المصرية عند صياغة التشريعات والقوانين. إلا أن للأسف نصت مادة التمييز على تشكيل مفوضية للتمييز لتتلقي شكاوى التمييز التي يتعرض لها المواطنين لكنها لم تنشئ إلى الآن.

هنا من المهم أن ندعو الدولة إلى القيام بالتزامها بواجبها الدستورية. هناك كم من الانتهاكات التي يمكن أن تنهيها هذا المفوضية، لماذا نعاني مع التمييز العنصري في حين أن استحداث جهاز ينهي ويقلل من معاناة الكثيرين ويحسم الكثير من القضايا المعلقة إذا ما توفرت لها من الصلاحيات التي تساعد على إنهاء هذه المعضلة.

نناشد الدولة بعد سبع سنوات من تبني الدستور في 2014 إنشاء مفوضية التمييز لأنها من أهم ما جاء به الدستور لأنه يوقف نزيف من الآلام التي يعاني المواطنين. أعلم أن إنشاء مفوضية التمييز لا يمكنها وحدها أن تنهي التمييز العنصري وانتهاكاته. ولابد من تطوير منظومة التعليم وتغيير الخطاب الإعلامي ونشر الوعي بين المواطنين الذي يؤكد على مساواة كل الأفراد. ومن الجدير بالذكر أن المجلس القومي لحقوق الإنسان قد ناشد الحكومة مرارًا وتكرارًا بضرورة إنشاء مفوضية التمييز.

العنصرية مشكلة متأصلة في مجتمعات عدة، حيث تدعي مجموعة من البشر التفوق على باقي البشر. وهذا يعد سبب يبرر لهم إيذائهم. العنصرية ليست فقط تنمر أو إيذاء ولكنها تصل الي الحرب الأهلية مثل ما وقع في الحرب بين السودان وجنوب السودان. الحرب التي استمرت لمدة عشرين عامًا وكانت بأسباب عنصرية.

لا يمكنني أن أنهي المقالة دون أن أوصف مشاعري عند أي حادثة تمييز عنصري؛ أشعر بالقهر والدونية والضعف الشديد، أشعر أن الوصم العنصري الذي يتساهل الآخرين في مواجهته هو زيادة في وطأة الألم. كم فكرت وأنا أستعد للخروج أن ارتدي أزيائي الأفريقية أو أن أصفف شعري المجعد بشكل منظم حتى لا أتعرض لمضايقات. مجرد إحساسي بالخوف من التمييز العنصري في أي لفتة أو فعل أو كلمة حمل ثقيل على قلبي الذي لا يطلب إلا أن أحيا في سلام دون إيذاء او عنف.

لكل من يقرأ المقال، عليك أن تعلم وأنت توصم مجموعة من الأفراد وتقلل منهم على سبيل المزحة أنك بذلك تنشر خطاب كراهية ويجب أن تتوقف عن ذلك فورًا وألا تسمح بتطوير هذه الكراهية. يجب ألا تتسبب في شعور شخص ما بالدونية واحتقار نفسه. العنصرية مرض ولكن التوعية والعمل على إنهائه ممكن ومتاح إذا ما تكاتفت كل الجهود.