رحلت عن عالمنا الكاتبة النسوية نوال السعداوي، “1931-2021” عن عمر يناهز التسعين عاما، مخلفة أثرا لا بنتهي، وجدلا مماثلا له، وإرثا من محاولات تصحيح الأوضاع، والكفاح لنيل المساواة بين الجنسين.

 “سيمون دي بوفوار” العرب، كما يحب أن يلقبها البعض، والمرأة الأكثر تأثير ضمن 100 سيدة حول العالم بحسب مجلة التايمز الأمريكية، هي الطبيبة قبل أن تكون الأديبة، حيث تخرجت في كلية الطب عام 1955.

أثناء حفل تكريمها من قبل مجلة التايمز، ورغم مرضها لم تكف عن المقاومة، فعبرت عن رفضها تسليع النساء الأمريكيات وامتثالهن لمفهوم الاتجاه الاستهلاكي السائد عن الجمال وتغييرهن لمظهر الجسد سواء بمستحضرات التجميل أو الجراحة التجميلية.

وفي اليوم العالمي للمرأة، أوصت النساء بأن يثرن لحقوقهن خاصة ضد سياسات دونالد ترامب الطبقية والعنصرية.

الثالوث المقدس الذي قاومته نوال

اشتهرت السعداوي بكونها واحدة من أهم الكاتبات في حقوق الإنسان في العالم العربي، وكانت لها آراء وكتابات متميزة في مجالات عدة، وقدمت نحو 80 مؤلفاً أدبياً وفكرياً، كما ترجمت أعمالها لأكثر من لغة.

تصف السعداوي حجم القيود التي تعرضت لها منذ طفولتها بتعبير حفرته في مذكراتها “كرهت أنوثتي”، ذلك الدافع الذي جعلها تتمرد على السائد، وتسعى لتحفيز النساء حول العالم لنيل حقوقهن.

وخلال مشوارها الأدبي، والعلمي، حاولت السعداوي تقويض ثلاثية “الجنس، الدين، السياسة” التي رأت فيها محاولة للسيطرة على أجساد النساء، وتقييد لحريتها، ما وضعها في مرمى نيران المحافظين، وتحديدا أصحاب اللحى، بشتى تفصيلاتهم.

عن رحلتها الفكرية، تقول الأديبة الطبيبة “حياتي الخاصة كامرأة وطبيبة قد أتاحت لي الفرصةَ لإدراك التناقضات التي تقع فيها سلطة الدولة والدين فيما يخص أحكامها أو قوانينها التي تُحكم بها النساء، لم تنفصل سُلطةُ الدولة عن السلطة الدينية في عصرٍ من العصور، ولا في بلدٍ من بلاد العالم حتى يومنا هذا”.

بدأت السعداوي تمردها منذ مرحلة الطفولة، إذ نشأت في بيت يميز الذكور على الإناث، ما كرس داخلها مشاعر سلبية تجاه الرجال. إلى جانب ما تعرضت له من تحديات مثل رغبة والدها في تزويجها حين أتمت العاشرة من عمرها،

انتقادات ومطاردات 

لم تسلم مسيرة نوال من الانتقادات من يمين ويسار الحركة المصرية، إذ اتهمها التيار اليميني المحافظ بالخروج عن عادات وتقاليد المجتمع، بل خروجها من الملة أيضا، بسبب انتقادها المستمر للأديان، ووصفها نفسها بأنها “ابنة الله”، كما طالبت في إحدى المرات بتغيير النصوص الدينية في القرآن الكريم والإنجيل والتوراة، بدعوى عدم وجود ثوابت.

فيما اعتبر الماركسيون أن تناولها للجنس جاء على حساب قضايا الطبقات، والتي من بينهن النساء الكادحات سواء في المصنع أو في الحقل.

وفي المقابل رأت نوال أن القهر الذي يقع على المرأة مزدوجا، ولا تعارض بينهما، فهناك قهر الفقر، وقهر الجنس، كما رأت في تعامل النخب السياسية على اختلافها تناقضا فجا خاصة فيما يتعلق بعلاقة الرجل بالمرأة، أو علاقة الزوج بزوجته.

وتعد نوال، من أكثر الكاتبات المصريات اللاتي تعرضن إلى تغييب أعمالهن عن القراء بالمنع والمصادرة، حتى أن كتابها عن “المرأة والجنس” كان يتم تداوله كمنشور سري بين الطلبة في نهاية الستينيات.

تمت إقالتها من وزارة الصحة ونقابة الأطباء بعد عملها هناك إثر كتابها سنة 1972، وتم في نفس العام إغلاق المجلة الخاصة بها.

السجن مكان للإبداع عند نوال

اعتبرت السعداوي أن تجربة السجن كانت بقدر قسوتها فرصة للإبداع، وذلك حين شملتها قبضة الرئيس الراحل أنور السادات على مجموعة من المثقفين والسياسيين، في أعقاب معاهدته مع “إسرائيل” في الحملة التي عرفت بـ”اعتقالات سبتمبر”. فتم احتجازها عام 1981 لثلاثة أشهر، وكانت النتيجة إصدارها كتاب “مذكراتي في سجن النساء” الذي قالت عنه “وددت بسببه إرسال برقية شكر إلى السادات”.

في التسعينيات، كانت السعداوي على موعد مع التشدد الأصولي الإسلاموي، الذي طالت يداه الغادرة عددا من المفكرين والأدباء، مما اضطرها إلى الفرار والانزواء لبعض الوقت، فعاشت حياة النفي في الولايات المتحدة الأمريكية.

ومن ضمن محاولات إرهابها قضية الحسبة التي رفعها المحامي نبيه الوحش عام 2001، بالتفريق بينها وبين زوجها المفكر الماركسي شريف حتاتة، بعد أن اتهمها بالكفر، والإلحاد، والتي رفضتها المحكمة بدورها.

نصيرة المرأة

خاضت نوال حروبا عدة من أجل قضايا النساء في مصر، و تناظرت مع شيوخ في أطروحاتها، وطالبت الدولة في مناسبات مختلفة بالتحرك لحماية النساء والدفاع عن حقوقهن.

وحين توفيت الطفلة بدور شاكر نتيجة عملية الختان، في العام 2007، عبرت عن ألمها قائلة “يا بدور هل كان عليكي أن تموتي من أجل نور يسطع في عقول الظلام؟”.

للسعداوي تجربة مؤلمة مع ختان الإناث حفزتها على محاربة هذه العادة القاسية، تحكي في حوار سابق لها: ” في السابعة من عمرى تجمعت العائلة، قيدوني وكمموا فمي، وبالمشرط بتروا عضوا من جسدي، لم أعرف ما هو، كان الألم أكبر من قدرتي على المعرفة، ثم سقط الألم من ذاكرتي مع الزمن، لتطفو المعرفة بعد عشرين عاما على سطح الوعي، قمة جبل جليدي مخبوء مملوء بالألم والحزن والعار، تصورت أني السبب في كل هذا، وبدأت تعفير جبيني في الأرض تكفيرا عن الذنب، طلبت العفو والغفران وكان الاثم مجهولا، راح الذنب وبقى الألم مدفونا، ثم دخلت كلية الطب، ورأيت الموت بحدقة عيني، سمعت صراخ الأطفال بأذني، وبدأ الحزن يطل من تحت الجبل، والألم ينزف من جديد، أعادت رائحة الدم ذاكرتي للوراء عشرين عاما، طفلة ذبحوها ضحية العيد، وهم يغنون ويرقصون، وبدأت طبقات الجهل والعار تتساقط بالتدريج، بعد أن تراكمت في اللاوعي آلاف السنين”.

وثقت الأديبة الراحلة تجربة ختانها في روايتها “الوجه العاري للمرأة العربية” ضمن حكايات كثيرة عن العنف ضد النساء.

واستجابت الدولة، أخيراً، لنضالها ضد عمليات تشويه الأعضاء التناسلية للإناث، وجرمت عمليات الختان، وشددت من عقوبتها.

 السعداوي صنفت من قبل جريدة الجارديان البريطانية بأنها من أهم الكاتبات في أفريقيا، إذ وصفتها بالأديبة الراديكالية في المجال الاجتماعي والسياسي، ومن بين أفضل 5 روائيات من القارة السمراء عام 2018. كما رشحت من قبل للحصول على جائزة نوبل تقديرا لدورها في الحركة الأدبية النسائية.

نوال وثورة 25 يناير

أبدت السعداوي تأييدا مبكرا لثورة 25 يناير، التي أطاحت بالرئيس المخلوع حسني مبارك، فلم تغب عن ميدان التحرير، معلنة أن الدستور هو الحماية الوحيدة للمرأة.

وخلال لجنة تعديل الدستور انتقدت نوال وضع المرأة وقالت: “كنا نتوقع بعد سقوط النظام السابق أن تمنح المرأة فرصة للمشاركة في لجنة تعديل الدستور، وفي الحكومة الانتقالية. لكننا فوجئنا بعملية إقصاء متعمدة للنساء وخاصة ممن شاركن في الثورة”

وفي 2015، وخلال أحد أحاديثها الصحفية قالت  إن مصر تقع الآن بين مفترق طرق، فإما أن تسير نحو الاستقلال الوطنى والاقتصادى والقانونى، أو التبعية للديكتاتورية الطبقية الأبوية الذكورية الخارجية والداخلية”.

تأسف السعداوي من استيلاء كبار السن والانتهازيين على فرص الشباب “الثائر المخلص”، إلا أنه لم يعد من الممكن استعباد الشعب كما كان يحدث قبل 25 يناير، على حد قولها.

نالت الأديبة الراحلة العديد من الجوائز والألقاب والتوصيفات، لكن بقى اعتراف مصر برحلتها أحد أحلامها الذي لم يتحقق حتى مماتها عصر اليوم الذي ترامن مع احتفالات الحكومة بأعياد المرأة المصرية، فعلى التلفاز الذي أذاع نبأ وفاتها كان يذاع في بث مباشر حديث الرئيس عن دور المرأة المصرية، ويوجه حكومته بالقضاء على ظواهر سلبية مثل زواج الأطفال، ورفع القيود الاقتصادية عن قطاعات كبيرة منهن.