هناك مسلمون سلميون ومسالمون في كل أرجاء المعمور، هناك مسلمون يساهمون بروح خلاقة في بناء الحضارة المعاصرة داخل مختلف مجالات الحياة، من العلم إلى الرياضة، ومن السياسة إلى الفنون الجميلة، لا شك في ذلك ولا خلاف حوله، كما لا شك أيضًا في أن المسلمين بدورهم يحبّون الحياة ما استطاعوا إليها سبيلاً، أسوة بسائر البشر على وجه البسيطة، وعلى الأرجح فإنهم كثيرون، بل لعلهم الأكثرون لولا آفة الإعلام الذي لا يلتفت سوى إلى الأحداث الأكثر إثارة للفرجة، والأصوات الأكثر إثارة للضجيج. الإعلام لا يحب الهادئين مثلنا لأنهم يفسدون عليه الحفل، وتلك معضلة أساسية.
لكن ذلك كله لا ينفي وجود سؤال موجع ومحرج، يلقي بكلكله علينا ويجثم على أنفاسنا رغم محاولاتنا المتكررة والمتنكرة لأجل اجتنابه، وفوق ذلك كله، فإنه يضع على كاهلنا وزر المسؤولية الأخلاقية إزاء جرائم الإرهاب العالمي التي يشهدها العالم اليوم، وتُقترف باسمنا بالصوت والصورة.
وهذا هو السؤال:
طالما الإرهاب التكفيري المعولم يشوّه صورة الإسلام في كل مكان من الأرض، وهذا ما لا ينكره أي أحد، وطالما أنه يُسيء إلى سُمعة المسلمين كافة، ويختزل تاريخهم وحضارتهم وعقيدتهم وسنّة نبيهم في مجرّد قتل وذبح وسبي وحرق وتخريب، علمًا بأن الكل يتجرّع مرارة الحرج من ذلك، أو هكذا يُفترض، غير أن السّؤال المؤلم والمسكوت عنه هو التالي: إذا كان الإرهاب يشوه صورة الإسلام ويسيء إلى عقيدة المسلمين في كل مكان، فلماذا لم نرَ المسلمين في أي مكان يبادرون للخروج في مظاهرات احتجاجية عارمة ضدّ هذا الإرهاب المسيء للإسلام؟ لماذا لم يملؤوا شوارع إسلام أباد وكراتشي والخرطوم وكوالالمبور بعفوية وتلقائية مثلما اعتادوا كلما أسيء إلى الإسلام من طرف شخص غير مسلم؟ لماذا لا يتظاهرون تنديدًا بالجرائم الوحشية التي يعتبرونها مسيئة لدين الرّحمة والوسطيّة والاعتدال؟ لماذا لم يدعُ الإسلاميون لا سيما منهم من يصفون أنفسهم بالاعتدال -إن كان منهم معتدلا بالفعل- إلى الاحتجاج على جرائم الإرهاب التي تسيء إليهم قبل غيرهم، وتسيء إلى دينهم قبل سائر الأديان؟ لماذا لم يستنفر شيوخ الفضائيات الناس للخروج في مظاهرات لأجل نصرة إسلام الرحمة والسماحة، والتبرؤ من الإرهابيين الذين يفسدون في الأرض، ويفسدون الأرض، ويفعلون ذلك باسم السماء!؟ لماذا لا يحتج المسلمون على من يسيء لدينيهم إلا عنما يكون من يسيئ لدينهم من غير دينهم؟!
دعنا نعيد بلورة السؤال:
على افتراض أن المسلمين أبرياء من الإرهاب العالمي براءة الذئب من دم يوسف، وأنّ الإسلام أشدّ براءة منهم، وأنّ الإرهاب في الأخير صناعة صهيو-أميركية، أو صهيو-ماسونية، لغاية ضرب الإسلام وتهديد أمن المسلمين وتشويه عقيدتهم كما يردد هواة نظرية المؤامرة، أليس هذا مبررًا كافيًا للخروج في مظاهرات عارمة ضدّ هذا الإرهاب الصهيو-أميركي أو الصهيو-ماسوني، أم أننا سنضطر إلى القول: إن دلّ الصمت على الرضا كما يقال، فإن خفوت الصوت يدل على قدر من التواطؤ، كما يمكننا القول؟!
ولنسأل بنحو مستفز ومباشر هذه المرة:
أيها المسلمون، لماذا أنتم مشلولون أمام إرهاب يسيء لدينكم؟!
هنا، بالذات توجد ثغرة كبرى في جدار الأمن الثقافي والأمن الروحي لشعوبنا كافة، وهي ثغرة تمثل في الآن نفسه نقطة الضعف الأساسية في استراتيجية الحرب على الإرهاب، غير أن تلك الثغرة يرسخها خطاب ديني مهيمن في المساجد والمنابر والمدارس ومختلف وسائل الإعلام، خطاب كان ولا يزال يعمل على تنمية ثقافة الكراهية والحقد والشماتة والتشفي، ويستبيح دماء “الكفار” و“أهل البدع”، ويسترخص حياة غير المسلمين على قاعدة الولاء والبراء، ثم يسترخص حياة المسلم نفسه في النهاية على قاعدة “كراهة الدنيا وحب الموت”، وبدعوى أن الدنيا لا تساوي عند الله “جناح بعوضة”، وما إلى ذلك من مرويات تنتمي إلى مجال الموروث وتستوجب بالتالي إعادة النظر.
بعد ذلك كله، كيف يمكننا العمل على تحسين ظروف الحياة الإجتماعية والبيئية، وبناء صرح العلم والتقدم والحضارة، وتحقيق التنمية البشرية والمستدامة، والمساهمة في بناء الحضارة الإنسانية المعاصرة، ونحن نظن أن هذا كله لا يساوي عند الله “جناح بعوضة”؟!
معنى ذلك، أن مكمن الخلل يوجد داخل بنية الخطاب الديني الذي ورثه المسلمون من فقهاء العصر الوسيط، والذي انتهى اليوم إلى نوع من العدمية بمعناها النتشوي، والتي تحيل إلى إنكار الحياة.
هذا هو الإرهاب إذًا: وحش عدمي يتخذ شكل ثقب أسود في مجرى التاريخ، ويوشك أن يلتهمنا فلا يبقي على غير الخراب اليباب.
غير أن النهاية لم تُكتب بعد، والإفلات وارد، لكن شريطة أن ندرك أنّ الوحش ينمو ويتغول بفعل أفعالنا وقناعاتنا، فلا يجب أن نبحث عنه في أي خارج آخر. ينمو الوحش بتواطؤ منا، معولا على هشاشتنا وضعف جهاز مناعتنا، ومستغلا ميلنا الغريزي إلى التستر والكتمان، وهذا بسبب الخطاب الفقهي “الرّسمي”، و”شبه الرّسمي”، الذي لا يزال يستبد بالنفوس، والذي يتسم بمعاداة الحريات الفردية، وحقوق الأقليات، والمساواة الكاملة بين الجنسين، وهي القيم التي نحتاج إليها لغاية العبور من القدامة إلى الحداثة، وهو العبور الذي بوسعه أن يحفظ لنا ديننا ودنيانا، وتلك غاية المقاصد، ومقصد الغايات.
خارج مسار الحداثة سنفقد الدين، سنخسر النفوس، سنضيع الأوطان والعمران والإنسان، وسيبتلعنا الثقب الأسود في خاتمة المطاف.
إزاء هذه المآلات الممكنة كلها ثمة خلاصة مؤكدة منذ الآن: كلنا مُهدَّدون وكلنا مُدانون. ومن هذا المبدأ يجب أن نبدأ.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا