في النصف الثاني من عام 2019، انعقد، في إسطنبول، مؤتمر لجماعة الإخوان المسلمين، المصنفة على قوائم الإرهاب في عدد من البلدان العربية، حضره قرابة 500 شخص. اللافت أن المؤتمر الذي استمر ليومين، وحضره أعضاء من حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، جاء في ظل تحركات سياسية وإقليمية، تفاقم من تعقيدات الوضع السياسي والتنظيمي للجماعة منذ سقوطها في مصر، وقد تزامن حدوثه بعد يومين من الحكم على المرشد العام، محمد بديع، بالسجن مدى الحياة، ووفاة الرئيس السابق، محمد مرسي، بالسجن بعد ثلاثة أشهر.

عقد المؤتمر في أجواء صعبة وسط تقاير تشير إلى وجود ميل حاد لدى إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بخصوص تصنيف الإخوان على قوائم الإرهاب. وهي إحدى الأوراق التكتيكية التي كان يتم الضغط بها وتمريرها، والتي كانت سيكون لها تداعيات وتأثيرات جمة على نشاطهم السياسي والميداني في سوريا التي تشكل نسبة غير محدودة منهم في تكتلات المعارضة المسلحة. 

والأمر ذاته في ليبيا بين صفوف حكومة فائز السراج المدعومة من أنقرة. وفي ليبيا وسوريا كانت الجماعة تواجه انحساراً، مثلما حدث في الأخيرة بعد تراجع المعارك في إدلب والغوطة الشرقية لحساب النظام، في دمشق، في عام 2018. بينما يحاول أردوغان أن يضغط لجهة إحياء دور الجماعة، مجدداً، ويبعث برسائل للقوى التي تقف على النقيض من أهدافه السياسية والإقليمية.

وقال نائب المرشد الحالي للجماعة، إبراهيم منير، في المؤتمر، إن “دعوتهم إلى الإسلام تسير بالتوازي مع الأجندة السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، وأن الاثنين لا ينفصلان. وتابع: “على مدى الـ 91 عاماً الماضية، لم نرتح كما يفعل المقاتلون الآخرون، بل نجابه عاصفة تلو الأخرى”. 

وأردف طلعت فهمي، الناطق بلسان الجماعة، أنه تم تنظيم المؤتمر للتحضير للذكرى المئوية (التي تحل في عام 2028) بهدف “إعادة تقديم مبادئنا إلى العالم، إلى جانب منهجيتنا في جميع مناحي الحياة، في السياسة، والدعوة، والعلاقات الخارجية، والشئون الدولية”. 

المؤتمر الذي حضره قيادات الجماعة في غياب واضح للتمثيل الشبابي، بالإضافة إلى رموز من تيار الإسلام السياسي الهاربين بالخارج، والذين تلاحقهم قضايا ترتبط بالعنف والإرهاب، ومن بينهم طارق الزمر، يبدو أنه لم يكن سوى محاولة متعسفة وتقليدية لوضع الجماعة التي انتقلت في ملاذاتها الآمنة بين الدوحة وأنقرة، لأداء دور وظيفي محدود، تشكله اشتراطات التبعية المؤقتة والبراجماتية لقوى خارجية. 

وإثر التقارب المحتمل بين أنقرة والقاهرة، والتي دعت له الأولى، غيرة مرة، ثم المستجدات الجديدة التي قامت بها بعد الشروط التي فرضتها على المنصات الإعلامية الداعمة للإخوان التي تبث من تركيا، برزت حالة التوتر القصوى والارتباك في صفوف التنظيم. كما أن ثمة متغيرات عديدة إقليمية ودولية، تشير إلى وجود مقاربة جديدة سياسية للتعاطي بين الدولتين التي باعدت بينهما المواقف على خلفية التناقض الرئيسي تجاه الجماعة الإسلاموية. 

وقبل أيام، شددت السلطات التركية على القنوات التلفزيونية التابعة لـ”الإخوان”، التي تبث من إسطنبول، على ضرورة الالتزام بميثاق الشرف الصحافي والإعلامي، وتجنب الشأن السياسي والتهجم والتطاول على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والحكومة المصرية، والتخلي عن أسلوب التحريض والإساءة للدولة المصرية ودول الخليج.

وفي ظل هذه الخطوة الإجرائية الجديدة والمباغتة، التي تزامنت وتصريحات المسؤولين الأتراك بخصوص استئناف العلاقات مع مصر و”فتح صفحة جديدة”، بدأت القنوات الداعمة للجماعة في إسطنبول، الخميس الماضي، بالإعلان تباعا عن تغيير السياسة التحريرية، وذلك بعد لقاء جمع رؤساء قنوات “الشرق” و”مكملين” و”وطن” بعدد من المسؤولين في تركيا. ووجهت لهم الحكومة تعليمات باقتصار التغطيات على الموضوعات الاجتماعية والثقافية، ونبذ الموضوعات السياسية التي تشكل تدخلاً في الشؤون الداخلية لمصر.

ومع تباين الصورة وحلحلة عوامل الصراع القائم، يبدو أن نائب المرشد، بصدد مراجعة “مرتبكة” ومراوغة باتجاه مقولاته القديمة بخصوص الموقف الراديكالي من النظام، والالتزام بأقصى أدبيات التنظيم حدة ومواجهة. وقال إبراهيم منير، إن الجماعة تثق بألا تغير تركيا النهج بحقها، من ناحية، إمكانية قبول وساطتها لحل الأزمة مع الحكومة المصرية والاستعداد لحوار معها، من ناحية أخرى.

وأردف: “بالنسبة للحديث السياسي عن مصر (في القنوات الفضائية المصرية بتركيا) يجب أن يكون له أسلوب آخر، والالتزام بقوانين الإعلام (التركية) وأتصور تركيا لها حق في ذلك”.

ارتباك سياسي

يمكن القول إن الحوار الأخير الذي ظهر فيه نائب المرشد والرجل الأول في الجماعة إبراهيم منير، يعكس قدراً من “الارتباك السياسي”، وقد وجدت الجماعة نفسها في مأزق حقيقي في أعقاب التهديد الذي بات محدقا بالملاذ الآمن الأول للجماعة، وفقا للدكتور سامح إسماعيل الباحث المتخصص في فلسفة التاريخ في تصريحات خاصة لـ”مصر 360”.

إبراهيم منير

منير عمد إلى “المناورة” عبر التقليل من شأن ما يحدث، بحسب إسماعيل، لكن التناقض كان واضحاً في حديثه، إذ وجه عدة رسائل متضاربة، وقد طالب من الجماعة بضرورة احترام الرغبة التركية. كما وجه رسالة لتركيا مضمونها الحذر من الجيش المصري الذي زعم أنه يتحرى، منذ ثورة العام ١٩٥٢، استراتيجية تهدف إلى إضعاف أنقرة. كما وجه نوعاً من الاستجداء للإدارة الأمريكية، مستعينا بأصدقاء الجماعة في الكونجرس، وفي تناقض صارخ ومفضوح اتهم الجيش المصري بارتكاب جرائم حرب في سيناء، ثم طالب الجيش نفسه بالتحرك ضد النظام، قبل أن يقلل من شأنه، معتبراً أن مصر لم يعد بها جيش، ما دفع المحاور إلى تنبيهه أنه يتحدث عن أحد أقوى الجيوش النظامية في المنطقة.

اقرأ أيضا:

من الاحتضان إلى التخلي.. محطات في علاقة المملكة العربية السعودية بالإخوان في مصر

ورقة محروقة

ومن اللافت كذلك “النبرة الهجومية لمذيع قناة الجزيرة الذي حاور منير، والذي وضع نائب المرشد أمام عدة حقائق مفادها أن الجماعة استنفذت غرضها لدى تركيا، وأنها كانت مجرد أداة للضغط السياسي وورقة باتت محترقة، ومن ثم، فالتنظيم فشل وتفكك وانهار من الداخل. ثم إن منير وللمرة الأولى، كشف عن استعداد الجماعة للحوار والتفاوض مع النظام المصري، وكلها إشارات تعكس عمق المأزق التاريخي الذي تعيشه الجماعة”. يقول إسماعيل.

ومن جانبه، يقول الصحفي المتخصص في الإسلام السياسي، سامح فايز، إن التنظيم الدولي للإخوان يمارس دوره الوظيفي بكل كفاءة وامتياز، كما يراه المحرك العالمي للتنظيم، سواء كانت تركيا أو قطر، أو استخبارات وأجهزة الأمن القومي في أوروبا والغرب، والتي تستفيد من خدمات التنظيم المنتشر في عواصم عديدة.

ويضيف فايز لـ”مصر 360″: “في النهاية المسألة غير متعلقة بمبدأ أو قضية وطنية يموت من أجل الدفاع عنها أعضاء التنظي. فتلك مجرد شعارات لتغذية قواعد الجماعة في الشارع. لكن خيوط اللعبة السياسية على مستوى القيادات تتغير بتغير الظروف المحيطة. فلو أراد التنظيم الدولي فتح جسور تواصل من خلال تركيا أو قطر، ستعمل الجماعة على تكييف المسألة، وتبريرها لبقية الأعضاء.

تركيا لن تتخلى عن القيادات

ومن ثم، فإن تركيا لن تتخلى عن الجماعة المتمثلة في القيادات التاريخية، لكنها على الجانب الآخر قد تقدم قرابين متمثلة في أعضاء الإخوان الذين خرجوا عن سيطرة التنظيم الدولي، وشكلوا تيار التغيير، بحسب فايز، وهو ما تقوم به تركيا بالفعل منذ شهور، وتنشره في الإعلام التركي تحت عناوين براقة منها: تفكيك خلايا تابعة لداعش، أما الأصح أنها خلايا إخوانية خارجة عن السيطرة، تخلصت منها تركيا واستفادت في مساعيها للتقارب من الجانب المصري.

تاريخ الإخوان الممتد خلال 90 عاماً يبرز قدرة التنظيم على التكيف مع المتغيرات السلبية في محاولة تكتيكية للتراجع أمام ضربات الرباعي العربي القوية، والمؤثرة، سعياً للالتفاف مرة أخرى، وأملاً في العودة إلى المشهد. وهى لعبة نجح الإخوان في تنفيذها أكثر من مرة منذ عام 1942 وحتى عام 2011. غير أن الوضع الآن مختلف بعض الشيئ في ظل تفاهم عربي بين الإمارات والسعودية ومصر والبحرين، والتحرك الجماعي من تلك الدول لإحباط المشروع الإخواني، بعد إدراكهم لحقيقة فيروس الإسلام السياسي المتطرف، يختم سام فايز.