قديمًا أضرم قرد النار ليلاً في حقل أرز. واغتبط لذلك بشدة. عندما رأي بأنها منيرة. وصاح: “تعالوا يا أخوتي أنظروا ما أنا قادر عليه، أحول الليل إلى نهار”. جاءه أخوته جميعًا متعجبين من تألقه. وصاحوا جميعهم: القرد هانس يستحق الشهرة لقد أضاء المنطقة.
ربما لا توجد رؤية نظرية بريئة، مثلما أن العقل ذاته لا يمكن أن يكون حياديًا يحلق فوق القوى السياسية والتطورات الاجتماعية. بل هو انعكاس في كل لحظة لدرجات المعقول واللامعقول الباديتين في أية حالة اجتماعية واتجاه تطورها، عندما يعبر عنهما بصورة تجريدية، وهو بذلك يستطيع أن يدعم أو يوقف تطورها. وهو الأمر الذي يدفعنا للتيقظ والتساؤل حول مواقفنا ورؤانا، وقدرتها على دعم أو تعويق الظرف الاجتماعي الذي تورطنا في تفصيلاته، ومن ثم قياس مدى فاعليتنا.
تثبيت الوضع كي تطمئن القلوب، فما نعرفه خير وأفضل مما نجهله، تفضيل التغييرات البطيئة والمتأنية التي تتم على مسافات زمنية، رفض ارتباك الرؤية نتيجة تغيرات سريعة، تثبيت اللحظة الاجتماعية في إطار علاقات قوة مفهومة، أيا كان وضعنا فيها، خير من إزعاج إعادة بناء المشهد من جديد. أطر عقلية عامة يفضل العقل البشري استخدامها ضمن تكتيكات أخرى تصب في نفس المسار، مثل عمليات التنميط، التعميم، الاستكمال.. إلخ.. تمثل جميعها بنية معرفية واجتماعية لغالبية البشر، تسعي إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه، والحفاظ عليه مهما كانت خسائرنا.
رأينا ذلك عبر أحداث تاريخية متنوعة، في مواجهة (ثورات) علمية/ معرفية يتم محاربتها بقوة، (الثورة العلمية/ المعرفية أثناء عصر النهضة الأوروبية) مثلما رأيناها في ثورات اجتماعية متباينة الأشكال، (في ظني أن تاريخ الدعوة المحمدية لم يكن في أحد تجلياته إلا تعبيرًا عن ثورة اجتماعية)، تواجه دائمًا هذه الثورات ومثيلاتها بعنف اجتماعي متفاوت القوة، يرفض الدخول في مشهد مرتبك، يبدو فوضويا، بديلا عن مشهد ثابت العلاقات، يبدو واقعيًا، متماسكًا، نستطيع فهمه والتعامل معه، فالبديل لا يكون جاهزًا، بل عادة ما يتشكل لحظة بلحظة، يسيطر عليه القلق، وربما تحكمه قواعد التجربة والخطأ، ذلك لأنه في العادة ما تكون الخبرات السابقة غير ذات قيمة كبيرة في هذه الأطر الجديدة، فتجليات التغيير التي تعبر عنها الثورة تبدو كمعول هدم أسطوري يدمر البنى المادية، الفيزيقة، المعرفية، الاجتماعية، القديمة، وعادة ما يزعج هذا الفعل الراغبين في (الاستقرار)، ذلك لأن الثورات تعرف (بيقين) ما ترفضه، لكنها في أغلب الأحيان، لا تعرف ما تريد بناءه، وهي سمة تكاد تلتصق بالفعل الثوري، حتى وإن اعتمدت في فورانها الأولي على رؤية واضحة، ترتكن على نظرية تبدو متماسكة ومؤسسة معرفيًا، إلا أن الفعل الثوري عندما يتم في إطار الواقع المادي لا يمكن له أن يتخذ منحى الخطة جاهزة الإعداد، سابقة التحضير، فهو فعل يتسم بالطزاجة والجدة، يواجه بعناصر الواقع الفيزيقي، فينتج هذا التلاقي الدرامي واقعًا جديدًا.
هل يمكن أن يمنح الوعي الإنساني بمفهوم “الذات” ومن ثم نقيضه “الآخر” دافعية للرغبة في السيطرة وإبداء مثل هذا النوع من القسوة التي يتفرد بها “الإنسان” دون كافة أنواع “الحيوان الأخرى”؟! هل يبدو هذا الوعي الذي يمثل نقطة التطور البشرية نحو الخروج من “مملكة الحيوانية المباشرة” لتصبح تلك النعمة هي نقمة على البشرية في مرحلة ما من مراحل تطورها “الاجتماعي”؟!
يقول “باتاي”: لا شيء في الحياة الحيوانية من شأنه أن يندرج ضمن علاقة السيد/العبد، ولا يوجد مبدأ طبيعي/حيواني بإمكانه إقامة علاقة السيادة/العبودية، حتى بالنظر إلى أن بعض الحيوانات تفترس حيوانات أخرى، فهذه يمكن أن نطلق عليها “قوة غير متكافئة” لكن لا يوجد بينهما سوى هذا الاختلاف الكمي، فالأسد ليس ملكا على الحيوانات، إنه وفق حركة (المياه) مجرد موجة أعلى من غيرها تتغلب على الأضعف. فلا يمكن إذن تبرير هذا التحول (الكيفي) الذي يقوم به (أفراد من البشر) بالرغبة في السيطرة على آخرين بدعوى الاختلاف البيولوجي الذي يجعل من بعض الأجناس البشرية أعلى قدرًا من الأخرى فيما يتعلق بالوظائف الحيوية المختلفة ومن بينها التفكير، وهو ما يقوض رغبة البعض في إقامة علاقات تبعية تفرض تراتبا اجتماعيا يمنح البعض حقوقا أعلى، مثلما يفرض على البعض واجبات أكثر وأشد قسوة.
يكشف “بيير بورديو” الأمر بوضوح أن شروط الحياة في ظل المجتمعات الحديثة (نفسها شروط الإنتاج الاجتماعي في الرأسمالية الجديدة)، تموضع الدولة في فضاء “ملغز”، حيث ترى البشر ولا تراهم في الوقت عينه، تراهم بينما تضع سياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية…إلخ من شأنها إفقارهم على كافة المستويات، ولا تراهم بينما “يتفككون” في واقع قاس وحاضر لا أفق له، وعلى هذا النحو يبدو العنف في مستواه الظاهري وكأنه عنف فردي، محكوم بعلاقات فردية، بينما -وفي لحظة ما- سيتكشف بوضوح مستواه العميق والذي يتجلى في عنف سياسات الدولة وشروط الإنتاج.
هناك نزوعًا (تجانسيًا) لدى المجتمع، يتأسس على استبعاد “العنف”، ومن ثم إنشاء (نظام)، وفرضه، والسهر على استمراره، ورفض أية (تضحيات مجانية) لتغييره، بغرض إقامة “اقتصاد الربح والفائدة”. ومن هنا تبدو نزعة التجانس باعتبارها “توافق الحد الأدنى” الذي يلغي أي نوع من الخلافات لصالح نظام (ملتحم ومتراص). وتأتي المفارقة عندما يتحول هذا النظام/التجانس إلى امتيازات لصالح طبقة/طائفة بعينها، أو لصالح (الدولة) التي تقوم بمصادرته واحتكار أدواته، وهو الأمر الذي يفقد “التجانس” ميزته الأصيلة، فلا يعود النظام متضمنا للجميع، وفق الاتفاق المجتمعي/الضمني، حيث يقوم النظام بعمليات “إقصاء” متتالية لمجموعات من القوى/التيارات/ الفئات المغايرة والمختلفة.فهذه العملية تصبح “دائمة الوقوع”. يقوم النظام بإقصاءات متتالية للقوى المغايرة، وهو الأمر الذ يؤدي إلى أن يتشكل النقيض الموضوعي/الوجودي لحالة التجانس ونطلق عليها “التنافر”، ومع كل عملية إقصاء تحدث لفئة من الفئات يصيب (التجانس) بعضًا من الهشاشة، وهكذا دواليك تزداد هشاشة التجانس/النظام أكثر فأكثر، غير أنه يظل قائما نظرًا لكون عملية التنافر تتسم بالفردانية واللاعقلانية على ما يبدو.
وعمليات الإقصاء لا يمكن أن تستمر للأبد، وهو الأمر الذي يستدعي القيام بمهام عاجلة لرأب الصدع، ومن ثم تسعى المجتمعات القوية إلى تقديم تنازلات مشتركة لإعادة صياغة حالة التجانس من جديد وإدماج الاختلافات ضمن قيم المجتمع في سياق عملية إنسانية تتسم بالحيوية والتطور، تجدد دماء المجتمع وتمنحه قدرا من القوة تدفعه للاستمرار. أما المجتمعات الضعيفة فتصر على القيام بعمليات الإقصاء المتوالية دون النظر لما يصيب التجانس/النظام من هشاشة، وهو الأمر الذي يضعف المجتمع على المستوى الفردي والجمعي، ويتعرض لأزمات قد تودي به، من خلال انقسامات حادة تضرب عمق التوافق المجتمعي/الضمني الذي ينشأ عنه “التجانس”.
يقول “سارتر” أن العقل الذي يرفض التفكير الخطي/السببي الذي يتسم بالميكانيكية. هذا العقل القادر على اكتشاف التناقضات، والتعامل مع تعقيدات الحياة بطريقة ديناميكية هو وحده القادر على التعامل مع الواقع ووصف التاريخ (الذي صنع عبر إرادات فردية أثرت فيه)، عبر تجربتي (الضرورة) و(الحرية) بدءًا بوصف أقدم العلاقات وأولها على الأرض، والتي أقامها الإنسان/الفرد مع العالم/الطبيعة.
يوجد الإنسان في هذه اللحظة التي تتسم بـ (الموات/الجمود) وفي هذا العالم الذي تسوده الحاجة والندرة والعنف والاستلاب ويصير فيه (هو) نتاج لإنتاجه، بما يعني أن العمل الذي يقوم به، أي عمله الخاص وقد انقلب عليه، يصبح انتماءه (هو) لمجموعة عاجزة تحكمها قساوة المادة، حيث يشعر البشر جميعهم بالخضوع لما هو أقوى منهم، ولا سيطرة لهم عليه، محكومين بالهموم المعيشية اليومية، مقتولن بالوحدة، غير مبالين بالشأن العام، وفي ظنهم أن هذا هو العادي/الطبيعي، في نظام (طبيعي) بل وضروري، لابد لهم فيه ولا مفر لهم منه، حيث لا يعرفون حياة أخرى، في هذه الأثناء لم يصل البشر بعد إلى (التاريخ) ولم يشارك الإنسان بعد في صناعته، لأن التاريخ يبدأ حيثما تبدأ مجموعة من البشر في امتلاك مشروعها الخاص، حيث المشروع هنا يعبر عن (حرية فردية) و(خلاص جمعي).