بدلا من أن يكون رحيلها فرصة لمناقشة ما أنتجته أو الجدل حول آرائها، جاء رحيل نوال السعداوي مغايرا لكل التوقعات. تماما كما كانت حياتها سلسلة من الزوابع والأعاصير التي تثير الجدل وتستفز الجميع للنقاش والهجوم والدفاع. في الحقيقة لست ممن يهتمون برثاء من يرحلون، ولست من المريدين الذين يتحلقون حول أي شخص مهما كان قدره. الجميع بالنسبة لي بشر يؤخذ منهم ويرد عليهم, سواء من يتحدثون بالمنطق واالعلم أو من يتحدثون وفق تفسيراتهم البشرية للأديان.

صكوك الغفران

فجأة تذكرت “صكوك الغفران” الفكرة التي بدأ التعارف عليها في بدايات الألفية الثانية بعد المجمع الثاني عشر المنعقد في روما سنة 1215م. وقرر فيه أن “الكنيسة البابوية تملك الغفران وتمنحه لمن تشاء”. تلك الفكرة المستندة للكتاب المقدس، والتي كان من الممكن استغلالها لإسعاد البشر وتعليمهم التسامح والغفران. إلا أن سلطات الكنيسة جيلا بعد جيل قررت استغلال هذا القرار أسوأ استغلال بهدف تكريس سيطرتهم على المسيحيين في الدنيا عبر التحكم في قرار دخول الملكوت “الجنة بالمفهوم الديني الإسلامي”.

لا أفهم كيف يمكن أن يكون شخص ما على يقين بمصير الآخرين في الآخرة التي لا يعلم بها إلا الله

ما حدث بعد وفاة نوال السعداوي هو نمط جديد من “صكوك الغفران” ومحاكم التفتيش، نمط يرتدي عباءة تتمسح بالإسلام, وتزعم الدفاع عنه لكنها في الحقيقة تمنح سلطة إصدار صكوك الغفران لحفنة من شيوخ متشددين يصدرون تلك الصكوك فتخرج حشود أتباعهم لتنهال بالسباب واللعنات على الجميع. هؤلاء قرروا أن نوال السعداوي ستدخل النار، وأن كل من ينشر أي قول عنها أو يأخذ منها سيحشر معها. لا أفهم كيف يمكن أن يكون شخص ما على يقين بمصير الآخرين في الآخرة التي لا يعلم بها إلا الله. وأدرك أن مساحات الاختلاف بين البشر أكبر كثيرا من مساحات الاتفاق، ومن حق الجميع التعبير عن الحزن لفقد شخص كان عزيزا عليه. فلماذا يحاول الآلاف منع هذا الحق عن من عبروا عن حزنهم لرحيل نوال السعداوي؟.

اقرأ أيضًا: سيمون دي بوفوار العرب تستأذن الرحيل.. رحلت نوال السعداوي

ردود الفعل

الملفت للانتباه في ردود الفعل على رحيل نوال السعداوي هو كل هذا الكم من الكراهية الذي انفجر فجأة، وكأنه لم يكن ينتظر سوى شكة دبوس صغيرة. انطلق مئات الآلاف يسبون ويعبرون عن كراهيتهم وسعادتهم وكأنه نوع جديد من الجهاد يتبارون في اللحاق بركبه وتبريره والبحث عن أسانيد شرعية لدعمه. لماذا تلك المرأة تحديدا فجرت كل تلك الكراهية وليس أي شخص آخر؟ يزعمون أنها كانت “كافرة” لكن حتى تلك الإجابة المشوهة والغبية ليست كافية. فالعالم مليء بغير المؤمنين والكافرين وكارهي الإسلام وكارهي كل الأديان، لماذا لم يكن موت أي منهم سببًا لهذا الكم من الكراهية؟

المشكلة الأساسية ليست في إيمان نوال السعداوي من عدمه، ولكن في خطورة ما قدمته في دفعها الناس إلى التفكير والتمرد والتعلم من ارتكاب الأخطاء وعدم الخوف

في الغالب المشكلة الأساسية ليست في إيمان نوال السعداوي من عدمه، ولكن في خطورة ما قدمته، في دفعها الناس إلى التفكير والتمرد والتعلم من ارتكاب الأخطاء وعدم الخوف. فتعليقات الكراهية لم تنتشر فقط على الاقتباسات أو الفيديوهات المجتزأة التي اعتبرها كثيرون إهانة للدين أو سخرية منه أو إنكارا له. تلك التعليقات الغاضبة والكارهة انتشرت على كل ما يتعلق بنوال السعداوي وكل ما قالته سواء له علاقة بالدين أم لا. فقط اسمها أو صورتها يستتبع على الأقل عشرات اللعنات وسيل من السباب والتوعد بالجحيم. حتى نشر اقتباسات تعبر عن رفضها لتمييز المناهج التعليمية بين البنات والأولاد وتخصيص مهام الغسيل والطبيخ للبنات بينما التعليم والقراءة والكتابة للأولاد، جلب أيضا  اللعنات والسباب على من تجرؤوا ونشروه.

عدو الأصولية

نوال السعداوي هي تلك المرأة التي أخضعت كل شيء وكل فكرة للعقل والمنطق، لذلك هي بالتأكيد العدو الرئيسي للأصولية والتطرف الذي يرفض أي نوع من إعمال العقل. بالطبع يحق للجميع رفض بعض آراء نوال السعداوي أو كل آرائها، وتطبيق نفس منطق إعمال العقل على كل ما قالته أو كتبته. لكنها ستظل حتى بعد موتها نموذجا منح عشرات الآلاف من النساء والفتيات الأمل والحلم بالتغيير. ستظل موجودة لأنها أثبتت أن الحرية ليست فكرة نظرية مجردة بل نمط حياة يختاره الفرد ويتحمل تبعاته. وفتحت الباب لعشرات الآلاف من النساء أن يخترن أنماطا متعددة لحيواتهن وليس الاستسلام لنمط واحد بائس.

سيذكر التاريخ لنوال السعداوي أنها كانت جريئة وصادمة وسيحفظ لها ما أنتجته من فكر يمكن تطويره والبناء عليه. لكن لن يتذكر أحد أسماء من هاجموها دون أن يقرؤوا لها. تماما كما أنه لا يتذكر من حكموا بموت سقراط ولا من قتلوا وسحلوا هيباتيا عارية في شوارع الإسكندريه وسلخوها حية، ولا من عذبوا وقتلوا الحلاج أبشع قتله، ولا من منعوا كتب إيمانويل كانط.

إرث العظماء

مات العظماء وتركوا إرثًا من العلم والفكر بني عليه الحضارة والعلم، وبقيت ذكرى المتطرفين الذين قتلوهم كنموذج لاحتقاره وليس كفكرة قابلة للحياة.  بقيت فلسفة سقراط وطريقته في طرح الأسئلة كأساس الفلسفه القديمة، بقيت أفكار هيباتيا حول الإنسانية والطبيعة وقوانين فيثاغورث ، بقيت أشعار الحلاج وكلماته الجميلة في العشق الإلهي، ، بقيت أفكار برونو وكوبرنيكوس وجاليليو حول مركزية الشمس لا الأرض، بقيت أفكار كانط حول الأخلاق كأهم فلاسفة الأخلاق عبر التاريخ ، بقي كل هؤلاء وذهب أولئك المتعصبين إلى غياهب النسيان وسقطوا من الذاكرة كما سقطوا من الإنسانية.

يكفي نوال السعداوي أنها عاشت حياتها وفق قناعاتها الشخصية، لم تخش إنسانا ولا سلطانا ولا ابتغت مكافأة. ويكفيها أنها حاربت تشويه الأعضاء التناسلية للإناث ودفعت الثمن وظيفتها وتكفيرها واتهامها بالخروج عن الدين. وبعد سبعين عاما تم تجريم ختان الإناث بنص القانون واعتباره جناية.

بين إعمال العقل وإغلاقه

يبدو أن مشكلة نوال السعداوي الأساسية كانت مع التنظيمات المتشددة والمتطرفة وأتباعها ممن كانت نوال السعداوي بمثابة كابوس لهم؛ لأنها عكس كل محاولاتهم للتنميط ومنع إعمال العقل. ظلوا عقودا طويلة يهاجمونها ويعلمون أتباعهم جيلا بعد جيل أنها تجسيد للشر المطلق، يسخرون من ملامحها، ويسخرون من شعرها ويسفهون من كل ما تقول مكتفين بترديد أنها ضد الدين وتهاجم الإسلام. لم يهتموا بمناقشة ما تقول وتفنيده بطريقة متحضرة كي يتعلم أتباعهم طريقة النقاش، بل كانوا حريصين على عدم النقاش مطلقا ليظل مؤيديهم تابعين مغلقي العيون والعقول والقلوب.

تلك الكراهية هي الرافد الأساسي لتغذية القمع باسم الدين كي يتخيل كل أولئك البشر أنهم أحرار وأنهم يجاهدون في سبيل الله بدلا من التفكير النقدي الذي سيقود الآلاف للفكاك من فخ التشدد الديني. الغريب أن نفس هؤلاء القامعين “باسم نصرة الدين” هم من يصرخون ليل نهار متهمين كل المختلفين بالقمع والاستبداد، فالسلطة مستبدة وتحبس أنصارهم ظلما، والمعارضة مستبدة وتفرح في قمعهم، والنسويات مستبدات ويرغبن في استعباد الرجال.. المظلومية جاهزة لتشويه الجميع وإلباس الحق بالباطل، لنظل جميعا ندور في نفس الدائرة التي حبسونا داخلها عقودا.

المظلومية جاهزة لتشويه الجميع وإلباس الحق بالباطل، لنظل جميعا ندور في نفس الدائرة التي حبسونا داخلها عقودا

أدرك جيدا أن من يرحل سيكون بين يدي الحق، لا سلطان لأي منا على مصيره، وكلي يقين بأنه سيكون أرحم وأعدل منا جميعا. ولا يمكن لعقلي تصور كيف يمكن لإنسان سوي أن يشعر بالفخر والفرح عبر تمني الشر لإنسان آخر؟ المشكلة الأكبر ليست في شعور الفرد –أيا كان هذا الشعور- أو حتى في التعبير عنه، لكن الكارثة هي محاولة إجبار الجميع على تبني الموقف نفسه وتمني الشر والجحيم والهلاك.