أهوى التسكع في الطرقات والأزقة منذ وعيت، ويستهويني التأمل في وجوه العباد و الترحال في البلاد. في إحدى رحلاتي في الزمان الماضي مُتسكِعًا بواحدة من حارات عَمَّان العتيقة، قادتني قدماي و بتحريضٍ خَفيٍ من مُضيفي إلى مكان عبقري يمكنك أن تشتَم فيه -بلا مبالغاتٍ أدبية- رائحة التاريخ. شارع “الرينبو” بجبل “عَمَّان” الذي لن أستفيض في سرد تفاصيل جنباته وأرصفته ومقاهيه والورد الذي يختلط عَبَقهُ برائحة التُمباك والزعتر وعصير التوت الشامي، فلكل واحدة من تلك التفاصيل حكاية ولكل حكاية ذكرى ولكل ذكرى في القلب مكانٌ ومكانة. ينتهى شارع “الرينبو” بسوق “جَارَا” البديع الذي ينتهى بِدَورِهِ “ببسطاتٍ” تشبه “فَرشَات” سوق الأزبكية الذي كان كنز ثقافة الفقراء من أمثالي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. لن أطيل عليكم، على إحدى “البسطات”، طالعتُ كتبًا أكل عليه الدهر و شرب فكان منزوع الغلاف ذو صفحات إصفَر لونها حين لامستها أشعة شمس “عَمَّان” الطيبة و قَبَلَتها حبات أمطار كَرَمِها الفَياض.

محمود بيرم التونسي– حياته و آثاره”، كان هذا هو عنوان الكتاب الضخم وكان كاتبه هو الأديب والمحقق التونسي الكبير المرحوم “محمد صالح الجابري”- الطبعة الأولى عن دار الغرب الإسلامي ببيروت. كان الكتاب يضم مقالات “بيرم” السياسية والفكرية والأدبية، ودراسات عن بعض الأدباء العرب في مختلف العصور، وقصص، ومقامات، وقصائد نادرة كتبها صاحبنا الذي “جاء من السيَّالة” في سنين المنفى بصحف “الزمان” و”السرور” و”الشباب” و”السردوك” و”القلم الحر” ومجلة “الجامعة”. وأحسَب أن هذا الكتاب يقبع بمكان خَفيٍ في إحد الفضاءات الإلكترونية لمكتبات انقضى عهدها بالنسخ الورقية فتحولت إلى صيغة PDF التي غيَّرت طُرق القراءة والتي أعترف بفشلي الذريع في الإحاطة بأسرارها، مازلت أعشق الورق.

يختلف هذا الكتاب عما جُمِع من أعمال “بيرم” التي نعرفها بمصر والتي أطلقوا عليها “الأعمال الكاملة” وهي ليست كذلك علي الإطلاق، كما أنه يختلف عن إصدارٍ لمكتبة الإسكندرية في 2008 ضم أعمالاً للرجل في صحيفة “الشباب” حققها و قدم لها -مشكورًا- “أشرف أبو اليزيد” إذ يضم كتابنا الضخم الذي تزيد صفحاته عن السبعمائة صفحة من القطع المتوسط أعمالاً نُشِرَت بصحف ومجلات أخرى أشرت إليها أعلاه. وأنا في هذا المقال -محدود المساحة و المجال- سأخرج عن القوالب المعتادة مُتَجنِبًا الحكايات والمَرويات التي ربما يجدها القارئ في أماكن أخرى، مُتَعَمِدًا الإبتعاد عن تكرار ما هو معلومٌ بالضرورة من تراث الرجل وتاريخ حياته الحافل بالإحداث، مُتحريًا دقة النقل المباشر لإثنتين من المختارات النادرات التي وردت بكتاب “الجابري” وهما “المقامة السودانية” التي نُشِرت بجريدة الزمان في 21 فبراير 1933 ثم “قصيدة أُحب” التي نُشرت بذات الجريدة في نوفمبر 1935.

• المقامة السودانية:
“قال زُعرُب بن لقمان… نحضر من الآفاق بدافع الاشتياق، إلى جامع الزيتونة، لنتذوق العلم وفنونه، وبعد قراءة المتون والحواشي، في عمر مديد، و إبلاء الجبب و الشواشي بلا تحديد، ينتظر أحدنا الأعوام ليحل محل متطوع أو إمام، حتى إذا كتب و خطب، و أصبح صاحب مرتَّب، ثم طلب الزواج من إحدى نساء العاصمة، طلبوا منه مهورًا للظهر قاسمة، لأنه أفاقي وضيع، و علمه الشريف يضيع، و ربما دفع العشرة آلاف في أمرأة من نساء الأجلاف، و عند الدخول بها يجدها بومة، أسمها حلومة. فقلت و الله لأتولين بنفسي، إختيار عرسي، فهاهي مكاتب* البنات، تزخر بالمسلمات، فإذا وقفت علي بابها أمكنني الإختيار، و عرفت طريق الدار، و إذا فتح الله علينا بالشهادة، كتبت لي و لها السعادة، حيث أخطبها علي معرفة و أزوجها زواجة مُشرفة، و تكون هي أصبحت من الآنسات القارءات المتعلمات.
أحب الآنسات لإنهُنَه يُقال لهُن زينةُ عصرهُنَّه
يجئن إلي المكاتب سافراتٍ جميعًا و الدفاترُ فوقِهُنَّه
ترى في مشيهن الحلو قَفزًا و تسمع حين يَضَّاحَكْنَ رنَّه
بناتٌ تقرأ “الدّبيش”* دومًا و لا أحدًا يُفسره لهُنَّه
بنات القطر خلاهُن ربي بقدرته و كَبَرَهَنَّهُنَّه

وقد ذهبت إلي مكتب مشهور، تُقرأ فيه البدور، تخفيت بقدر المستطاع، وظهرت في شكل بيَّاع، أبيع الحلوى، وأقول: يا فرحة القلب الكسير فأقربي، أما إشتريْتِ ما إشتَهَيتِ فأطلبي، من عمك الشيخ الظريف زُغرُب. فاجتمعن عليَّ كالعصافير المُغردة، و الغزلان المشردة، يُقلبن في الحلوى ويشترين، وأنا أُقلِّبُ فيهن ولا يدرين، وأبصت فيهن فتاة، بقامةٍ كالقناة، يتهدل شعرها الأسود البهيم، علي عنقها المُشرق المُستقيم، وقد تقدمت في حياء، واختارت قطعة من الشيكولاطاء، وعندما دفعت ليَ النقود، ظهرت النُهود، ثم أصلحت غطاءها ونظرت وراءها، وقالت يمسيك بالخَير، وانطلقت كالطَير. فقلت والله لا أختارُ سواكِ ولو كنتِ سبب هلاكي، ورجعت بالطَبلية*** إلى الدار، بعد هذا الاختيار، ووقفت اليوم التالي علي المكتب أنتظرها، فخرجت البنات ولم أرَهَا. قلت لعلها زاغت وسط البنات، وغَدًا في القريب آت، ولكن مضت سبعة أيام، أترقبها بانتظام، فكأنها سُكرٌ ذاب في الماء، أو حمامةٌ غابت في السماء، قلت إنني لَحِمار حيث لم أتبعُها للدار، تُرى ما الذي حجبها، أخطيبٌ أم مرضٌ قعد بها، وكان علي باب المدرسةِ زنجيٌ من السودان، تلتهب في محاجرهِ النيران، وهو بوجهٍ أسودٍ كالزِفت، و شِفةٌ حمراءُ كاللِفت، فترائى لي أن أسأله، لعله يعرف العلة، فقلت له: هل الغزال الذي أرخى غدائره، وخَلَّف النار ما بين الضلوع هنا، قال هنا مكتبٌ، فقلت: لا تَذْكُر الدار وأذْكُر أين ساكنها، فقد أتيتُ أريد الظبيَ لا السكنا، قال ليست هنا مساكن، قلت، لم تزدحم قط الأمهجة وسِعت، لواعج الشوق والأسقام والحَزَنا، قال لا أفهم ما تقول، فقلت: لو كنت تفهم ما بالقلب من شجنِ، لذُقت يا أسود الآلامِ و الشَجَنا، فلما سمع كلمة أسود دخل المدرسة، و عاد و معه المِكنسة، فبَصَق اولا في خِلقَتي، و ضَرَبَني حتي نَقَش جُثَتي، و أظن أن هذا خير علاج، لمن يُفَكِرُ في الزواج”.

• قصيدة أحب:
أُحبُ المَرأة العَورا و أعشقُ طُول مِنخَرِها
لألقى اللهَ مأجورًا على تقبيل ما كَرِها
و تُعجبني التي تعرُجْ أو تَمشى بِعُكازِ
لأندُبَ دولةً للحُسنِ طاحَت بعد إعزازِ
و ذات البدن الشاحب تحت المِأزر البالي
ودَدتُ بأنَّها و الله في بيتي و في آلي
و أنت ألا تُحبينَ من الذُكران فَحَّاما
دميمًا أرمَصَ الجنبينِ أو ينطق تمتاما
وهل يعجبكِ العاملُ أي كريمةٍ كُنتِ
بطلعَةِ وَجهِهِ المُغبَّرِ من جيرٍ و إسمنتِ
بلى و اللهِ تَهوينَ و لكنْ تُقبَحُ النجوى
لأنا قد تواطئنا على كِتمان ما نَهوى

لم أجد كَمُجَردِ قارئ “درويش” لعظيم مصر الذي جاء من السيَّالة التي “فيها العيال و الرجالة، جِدعان ولكن بهَبَالة، يا نِنتصِر يا أكَلناها”، أروع مما سبق كي أقرأ معكم عملاً من أعمال ربما خُفِيَت عن بعض قراء بيرم المصريين والعرب في عيد ميلاده الثامن والعشرون بعد المائة، فكل سنة وأنت معنا يا بيرم.
*المدارس
** إحدى الصحف التونسية التي كانت تصدر بالفرنسية
***سترة يرتديها باعة الحلوى

للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا