تلك الكتابة حفزها بوست على موقع “فيسبوك” لصديقة ترغب أو تعتقد في استقلال أفكارها عن الأيديولوجيا. كتبت في البوست: “أظن أن اعتناق أي أيديولوجية ثابتة يدفع الإنسان لاحتقار استقلاله وتفرده ويقنعه أن الانتماء لجماعة مرجعية آمان وضمان ويسلبه احترامه لاحتياجاته النفسية ويحوله لشخص قابل لاقتراف جريمة مقتنعًا أنه على صواب دائمًا”.

قبل أن أشرع في مساجلة الأفكار والأحكام التي تضمنها البوست، أعتقد من اللازم التماس مع التقاطعات والتعليقات التي آثارها البوست. فقد آثار حوارًا وسجل 65 تعليقًا حتى تلك اللحظة، وفقط خلال بضعة ساعات. وتمت مشاركته 12 مرة، وحاز 112 إعجابًا، منها عدد من إشارات الإعجاب الشديد (قلب). أتناول هنا فقط المؤيدين لفكرة صاحبة البوست والإضافات التي أشارت إليها لتعزيز وشرح فكرتها.

(المؤدلجون هم الأشخاص الذين تبنوا نظرية، ولا يتخيلون أن هناك من لا يبني نظرية) الكاتبة.. وسأشير إليها بكاف.

(أنا بتكلم عن شخص اقتنع أن في إجابة واحدة لكل سؤال في كتاب ما أو نظرية ما، بيعجز عن فك أي شفرة في الكون خارج ما فهمه من هذا الكتاب المحتوى على النظرية، ولو لم يجد الإجابة بيرفع شعار أن النظرية سليمة بس العيب في التطبيق لأنه لا يفهم العالم خارج الإطار الموضوع مسبقًا) ك.

(أنا بس قابلت عشرات الخارجين عن جماعات دينية أو يسارية بيحكوا عن التنظيمات فظائع الحقيقة لا يمكن غض الطرف عنها وممكن نناقشها عادي دون حساسية) ك.

(مين أفترض أن غير المنحاز غير موجود غير مؤلفي الأيديولوجيات على فكرة اختراع الأيديولوجيات حديث نسبيًا في عمر الإنسانية) ك.

(هي بتتكلم عن “أيديولوجية ثابتة” ودا يعني وجود “أيديولوجية غير ثابتة” ومن العار أن حد يفضل متمسك بموقف أيدولوجي حتى لو تعارض مع المنطق ومع إنسانيته سواء الأيدولوجية اليسارية أو غيرها له طابع ديني) ح.

(ظني أن اختصام الأدلجة ليس موافقة عليها ولا أدلجة أخرى وهذه للحق نظرية الجماعة المؤدلجين) ك.

(السؤال حول الإنسان هيتعامل ازاي من غير الأيديولوجية سؤال يثبت ما أقول -هنعيش ازاي من بعدك يا بابا) ك.

(أنا موافقة على أن الشعور بالصواب المطلق هو الخطر بالألف واللام بس ظني أن وجود مرجعية ثابتة اللي أنا أسميتها أيديولوجية بيعززه لا ينفي هذا أن يكون هذا الشعور عند شخص بلا أيديولوجية بس بتتحول المسألة لعيب شخصي لديه ودا يفرق عن حالة أن توجد جوقة تدعمه) ك.

(أي كلام لو حد قاله هيبقي حقيقة بالنسبة له في اللحظة اللي بيقولوا فيها وممكن ناس توافق عليه لبعض الوقت التشبيه دا غير منطبق خالص علي الانضمام لجماعة لها ايديولوجية محددة تفقد بانضمامك استقلالك وحريتك في تغيير رأيك أو معارضة الأباطرة المفكرين المعتمدين أصحاب النظرية الأوائل وتفقد حياتك الشخصية والعائلية لو تعارضت مع اختياراتك الأيديولوجية عشان غير المصدقين بيبقوا مش اد المقام، دول حتي بيتجوزوا من بعض وبيصيفوا مع بعض) ك.

(الحقيقة أن أصحاب الأيديولوجية هم من يظنون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة ولا يرون أي تفسير لما يحدث حولهم إلا داخل إطار، للمفارقة هم مخترعينه) ك.

(نفس منظومة الجيوش على مر التاريخ هي نوع من مسح الفردية لخلق أكبر أداة قتل جماعي عرفتها البشرية مبنية على الطاعة العمياء ومسح الفرد والاستقلالية في التفكير واتخاذ القرار وبالتالي تحمل مسؤولية القرار. رفع المسؤولية عن الفرد تحت ستار أي كيان هو مدخل أبشع الانتهاكات على مر التاريخ. لو كل فرد مسؤول عن أفعاله ومستقل كان مستحيل نصل لما وصلنا إليه من أعداد القتلى والمشردين وكمية الخراب الذي اقترفه الإنسان على مر التاريخ) ع.

(متفقة معاكي تمام.. عشان كدا أي محاولات فردية تدعوا لإعادة البحث في مدى مصداقية مرجعيات دينية أو محاولات لفحص ملفات تاريخية وسياسية كلها محاولات تتم مقاومتها بشراسة ومحاولة القضاء عليها) ر.

(كفاية انحياز ومنافسة. تعبنا وما وصلناش لحاجة) م.

(أزمة الحقيقة المطلقة عند ناس كتير حتى من غير أصحاب الأيديولوجية فكرة أن احتمال تكون معرفش أو رأي احتمال يكون خطأ صعبة لأنها بتحمل للإنسان مواجهة مع أنه احتمال يكون عاش فترة من الزمن على خطأ وبتخلي يفكر طيب لو أنا خطأ أعمل ايه بدل ما يستقل بتفكيره ليبحث عن شخص آخر يقوله أنه عنده الصواب أو الحقيقة هي دائرة الخروج منها معتمد في رأي الشخصي على بناء طفل مستقل التفكير وده صعب لان اصلا احنا بنفرض على أطفالنا الصواب والحقيقة) ي.

———

الواقع أن اتهام الأيدولوجيا والمؤدلجين ليس أمر حديث فربما يقارب عمر مثل الهجوم أكثر من نصف قرن على الأقل وأن بصيغ مختلفة، لكنه دار حول تحرير العقل من الارتباطات المسبقة، تحرير الفردية من أسر التصورات الجماعية أو حتى فكرة الالتزام بغير ما تمليه الذات على صاحبها أن لم يكن الالتزام بوجه عام. مثل الحقل الأدبي والثقافي ميدان رئيسي لمثل هذا الهجوم، تحرير الفن من الأيدولوجيا، تحرير الأدب من ظلال الأيدولوجيا، وتحت شعار الاستقلال والتفكير المستقل والفرد المستقل وعدم التحيز أو الانحياز المسبق.

في العقود التي تلت انهيار نظم المعسكر الشرقي، تعالت تلك النبرة بقوة ونمت مجموعة من المدارس الفكرية التي تسعي لتحطيم ما سمي بالسرديات الكبرى (الأيدولوجيات والاتجاهات الفكرية) وتحت مسمى التفكيكية تم إنكار وجود معنى محدد لأي مفردة أو مصطلح تاركين أمر المعنى لكل قارئ أو مستمع على حده، وأيضًا فكرة وجود مركز لأي نص أو حتى وجود بنية منتجة لعلاقة محددة. كانت تلك حقبة أسطورة موت الأيدولوجيا، ونهاية التاريخ وما شئت من نظريات تهاوت كقلعة من الرمل على شاطئ بعد وقت قليل.

تنطلق كاف من مفاهيم هي بحد ذاتها ايدلوجية لتهاجم الأيدولوجيا، وتقدم تمثيل مبسط لفكرة أيدولوجية شائعة، إنها تتخيل ذات تمثل مرجعية نفسها في مواجهة العالم، والأدق أنها تناشد ذات بلا مرجعية، ذات تهجر النظريات وتنتظر الأحداث في خواء منهجي لتستنبط من فضاءها -بمعنى فراغها- تفسيرات وحلول. بل وتواجه العالم الاجتماعي برمته منعزلة منفردة تائهة حتى لا تقع في أسر الارتباط بجماعة تساندها وتسندها. فلنترك إلى الأمام قليلاً في مواجهة النقابات والأحزاب، تلك التشكيلات الجماعية التي تضع بتوافق برنامجًا أو لائحة -مرجعية- ومعايير “نظرية” وأهداف “جماعية”. إنها تقف على قمة جبل الذاتية داعية من حولها إلى أنه (لا ينحاز) أي أنها تدعو لمرجعية انعزالية كليًا. والأكثر إدهاشًا هو إما أن تستجيب لتلك الدعوة (في التمحور حول الذات) أو أن تتهم باحتقار استقلالك واحتياجاتك النفسية، بل وتصبح في وضع شخص قابل لاقتراف جريمة فقط لأنك تبنيت نظرية أو انتميت لجماعة أو اتبعت مرجعية. هذا أكثر من مدهش في الحقيقة.

السؤال الهام هو، هل يمكن فعلاً أن تكون بلا مرجعية أو أيديولوجيا؟

يبدو أن الالتباس سببه اصطلاحي، مصلح أيدولوجيا مصطلح إشكالي في الأصل، ومن ثم لن نتقاطع معه إلا في أبسط صورة وأكثرها عمومية، أنها تلك الأفكار والقيم والمعايير -بل والذوق ومدونة السلوك- التي يمدك بها بيئة النشأة والاسرة والوسط الاجتماعي والتعليم والاعلام. كل تلك الأوساط هي ورش إنتاج وإعادة إنتاج أيدولوجيا. منذ أن تتناولك أول كف بشرية في الولادة إلى أن تموت وأنت يتم إنتاجك أيدولوجيًا، كل القيم التي تعتنقها كعقيدة أو تنفر منها كوباء أتتك من خارج ذاتك في مراحل تكوينك الأولى. الأيدولوجيا مرادف الأوكسجين سواء فاسدة أو جيدة، قسرية او تلقائية، مكتسبة أو مفروضة بقوة البوليس والعادات والضغط الاجتماعي. أن تحيا ضمن جماعة أو عائلة أو قبيلة أو عشيرة أو أيًا ما كانت فأنت تتنفس أيدلوجية ومحكوم بكل الاعتبارات الأساسية للجماعة وقيمها، عائلة كانت أو حزبًا أو فرقة دينية.

هذا يعني خطأ مقدمة الكاتبة وخطأ من يعتقد أن (المؤدلجين هم الأشخاص الذين تبنوا نظرية) فالطفل الصغير في سنوات التكوين لا تنمو شخصيته خارج أو بدون أيديولوجيا، التعليم الذي يتلقاه من الأسرة أو من صفوف الدراسة أو حتى شلة المدرسة هي أيديولوجيا حاملة قيم ومفاهيم وتصورات جماعة اجتماعية، حتى لو لم يكن سمع في حياته بعد كلمة نظرية، كلنا مؤدلجون بنظرية أو بدون نظرية.

الطفل له جماعة مرجعية وموجه أيديولوجي ماثل في الأب أو المدرس وينتمي إلى شلة (جماعة) وتنتج الجماعة المدرسية قيمها الخاصة من خلال تفاعلات عديدة وغالبًا تنصب زعيم من بينها.

الشخصية تتشكل ضمن شبكة اجتماعية كاملة، بما تحتويه من علاقات وارتباطات وتفاعلات، وبالقطع أفكار وقيم، الأيديولوجيا هكذا تسري كالدم في شرايين الواقع الخاص بكل فرد، وبالجميع.

أيديولوجيات وليس أيديولوجيا

بما أن المجتمع لا يتكون من طبقة واحدة، والطبقة لا تتكون من فئة أو شريحة أو مستوى معيشي واحد. بل تتباين داخلها الفئات والمستويات، لا وجود لما يسمى أيديولوجيا عامة موحدة، ثمة انساق وتشكيلات أيديولوجية عديدة، بل وتداخلات وتقاطعات بين الأيديولوجيات، ونقل قيم ومفاهيم من وإلى، ومؤسسات تعمل على إنتاج وإعادة إنتاج وتسويق الأيدولوجيات. فضاء مركب وحركة دائمة لا يوجد في داخلها ما يسمى أيديولوجية “ثابتة”. بل أن هذا التنوع يجد تعبيره أيضًا داخل الأحزاب السياسية رغم وجود مرجعية موحدة، تنوع في الفهم والتفسير والتوظيف والضغط المتبادل بين الاجنحة والتيارات في الحزب الواحد. ثمة خرافة ماثلة في فكرة ثبات أو جمود الأيديولوجية. الأيديولوجية بدورها جزء من تفاعل عضوي يومي وأداة في عمليات يومية تضطر إلى تكييف نفسها معها. لا ينفي هذا وجود أيديولوجيات رئيسية تتحدد بالطبقة الاجتماعية، لكن بداخل كل أيديولوجيا طبقية عامة أنساق وتفرعات وصراعات وحركة جدلية دائمة.

الأيديولوجيا ليست نظرية بل رؤية للعالم. ولن نخوض كثيرًا في تلك النقطة التي يعرفها أغلب المهتمين بنظرية الأيديولوجيا، العلاقة بين ما هو أيديولوجي وما هو نظري. فالأيديولوجيا هي هذا المستوي من الوعي الذي يحتاج إلى تصفية وتدقيق واقتراب من الفهم العلمي، لكنها تظل ضرورة أولية للحياة الاجتماعية والكائن الاجتماعي. أنها تلك الأفكار التي تبدأ منها بالضرورة، لكن يجب بعد ذلك تنقيتها علميًا، وذلك يعني الانتقال إلى النظرية.

الحقيقة المطلقة

ضمن أدوات نقد الأيديولوجيا الشائع يبرز مصطلح (ادعاء الحقيقة المطلقة) مرددين عبارة لا أحد يملك -أو يستطيع أن يزعم أنه يملك- الحقيقة المطلقة. وأن تلك خطيئة ملازمة للأيديولوجية، وتصنع وهم لدى الأيديولوجيين أنهم يملكونها.

الحقيقة أن هذه الفكرة هي كذبة ليبرالية خام، اختراع ملفق تم نسبته إلى المنتمين إلى أيديولوجيات مثل الماركسية تحديدًا. لا أعرف كاتبًا واحدًا على الإطلاق من اليسار – أو حتى غير اليسار- قال إن لديه حقيقة مطلقة، لم يصادفني مطلقًا أي دليل على وجود شخص قال إن ما يقوله أو يتبناه من أفكار هو حقيقة نهائية أو مطلقة. الوحيد الذي يزعم ذلك هو رجل الدين وليس على الإطلاق أي شخص آخر، وحتى رجل الدين لا يزعم أن كلامه حقيقة مطلقة، بل يزعم أن إلهه يقول حقيقة مطلقة.

غالبًا ما يساق هذا النقد للترهيب أو التشويش -إن اعتبرنا تلك الكذبة نقدًا- دون إيراد مثل واحد أو استشهاد واحد أو حتى اقتباس يمكن أن يعطي للكذبة أي سند.

لا يعني هذا عدم وجود قدر أو آخر من الجمود الذهني أو العجز عند بعض منتسبي الأيدولوجيات، فتلك سمة تلابس كل أنواع التفكير البشري، ولا صلة لها بالضرورة بالأنساق الأيديولوجية أو النظريات.

الانحياز والاستقلال؟ الدعوة إلى عدم الانحياز لفكرة أو جماعة أشبه بدعوة مستحيلة للسفر إلى الفضاء باستخدام الأحذية فقط. هذا الواقع الذي يشهد حروب يومية، في الاقتصاد والسياسة والعمل النقابة والثقافات، إن لم تحتل مقعد جوبيتر كبير الآلهة في الاساطير اليونانية لن تستطيع أن تخرج نفسك منه أو تتحرر من تأثيراته، ومن ثم تنحاز إلى جانب أو اتجاه تراه الأفضل -وفقًا لمرجعيتك وموقعك الاجتماعي- وبما أنك لست جوبتير فسوف يسحقك بدم بارد إن كنت رقم فردي هزيل منقطع الصلة بمن يساندك وتسانده إذا تلاقت مصلحتكما، تلك بديهية أشبه بالحاجة إلى الطعام عند الشعور بالجوع، للأسف نضطر إلى ذكرها. هكذا تدار الحروب والمعارك وتتقدم الأمم أو تحمي نفسها، وهكذا أيضًا تدور المعارك السياسية والاجتماعية بين طبقات المجتمع.

تلك الأفكار هي بالضبط ترجمة الموقف من الحزبية والتسيس، الذي أفضى حرفيًا إلى كوارث في مجري ثورة يناير، حين جري تمجيد (الشباب المستقل) وتعظيم فكرة (اللا حزبية) وتضخيم كل عابر طريق يقبل ويكرس هذا التفكيك في مجرى معركة مصيرية تواجه بالأصل قوى منظمة بإحكام.

تأمل تلك العبارة (كفاية انحياز ومنافسة. تعبنا وما وصلناش لحاجة).. أنها تساوي (كفاية حياة على الأرض نريد جنة الفردوس بوعودها الدينية)، هي وحدها التي تخلو من انحياز ومنافسة، والتي توفر راحة بدون تعب. ولكن بعد الموت. بالنسبة لنا لا زلنا عالقين في الحياة الأرضية.

في الواقع نحن بحاجة إلى ترابط أعمق بين كل الحالمين بوطن أفضل، ولن يتكون العمق بالمشاعر الرومانتيكية أو السباحة في بحيرة الذات بل بالتنظيم والنظريات والمرجعيات، إن الكل هو دائمًا أكبر في الفاعلية من مجرد مجموع أفراده، فردية الخواء المفككة لا تقدم في نهاية المطاف سوى حالة مرضية، نرجسية أو مركب العظمة والاضطهاد، حوائط مبكى، تعليقات فوقية معزولة.. أو لا شيء.