من المأثورات المشهورة عن أديبنا الراحل يوسف إدريس، قوله “إن كل كمية الحرية المعطاة في الوطن العربي لا تكفي كاتبًا واحدًا”. وقد مرت عقود أربعة على الأقل على قوله هذا فلم تتسع تلك الحرية بل ضاقت. وقد بقي بعضها متاحًا لبعض الرواد بفضل مكانتهم وتأثيرهم حتى أخذت ترحل برحيلهم رويدًا رويدًا، فلا سينمائي اليوم يجرؤ على مغامرات يوسف شاهين ولا ممثل يقدر على بعض “إفيهات” عادل إمام (له طول العمر)، ولا أديب يمكنه أن يستدعي السماء إلى الحارة كما دأب نجيب محفوظ، ولا نسوية قادرة على إطلاق آراء كالتي لم تكن نوال السعداوي تخشى أن تصرّح بها.
لم تكن السعداوي تبادر مباشرة إلى استفزاز المشاعر الدينية. لكنها لم تكن تتراجع إذا تم ابتزازها بالدين، وكلما تخيّل محاور أو مناظر أنه قد حاصرها متصوّرًا أنها ستعمد إلى تلطيف كلامها، وجدها قد واصلت حديثها بابتسامتها الهادئة، عابرة فوق الخط الذي حاول أن يرسمه لها المحاور والتلفاز والمجتمع والدين والسياسة، وليس في نبرتها وجل ولا اعتذارية مقيتة طالما شهدناهما في عالمي الفكر والسياسة. ولهذا فإن أسوأ ما يفعله بعض من ينعونها، هو أن يسترحموا الناس أو السماء من أجلها، فقد عاشت 90 عامًا لم تسترحم أحدًا، حتى وهي ظلمة زنزانة سجن القناطر، ولم تخش وهي على شفا الموت أن تصفه بما رأته فيه: إنه غير موجود. قالتها قاصدة المعنى العلمي، لكنه رأي يصلح أيضًا بالمعنى الفلسفي.
كما أنه ليس مما يفيها قدرها الاكتفاء بالقول إنها “كانت تقول وتفعل ما آمنت به”، فتلك ليست قيمة خيّرة في ذاتها، لأن المتطرفين والإرهابيين يفعلون أيضًا ما يؤمنون به. ولا يمكن في مجال الفكر، وخاصة إزاء شخصية منحازة كالسعداوي أن تكون محايدًا، بل لقد قالت نوال وفعلت ما آمنت به “في سبيل المرأة والإنسان”، في سبيل العالم الموجود والواقع المعاش ومكافحة الظلم المحسوس، إن ختان الإناث وظلمهن وطبقية المجتمع والنظام الأبوي وجرائم الشرف، كلها حقائق دموية تدفع النساء حياتهن في نيرها، والكفاح ضد تلك المظالم ليس مجرد “أفكار آمنت بها السعداوي”، بل فعل مارسته وحققت فيه الكثير، إنه “تغيير العالم وليس الاكتفاء بتفسيره” كما تقول الماركسية، وهو تغيير لا يمكن ألا يكون لك موقف منه.
ثم إن الاعتذار باسمها والاسترحام من أجلها والدفاع عن “إيمانها” لن يفعل سوى أن يضلل فهم أفكارها ويصعّب مهمة من يأتي بعدها، ثم أنه بلا فائدة لأن خصومها يعرفون حقيقة من يهاجمون، وهم يتعللون بالدفاع عن السماء والدين لأنهم خلف ذلك السطح يريدون الحفاظ على ما يتصورون أنه حقهم في جسد الأنثى، المشوّه بالختان والمغطى بالحجاب والنقاب وكافة وسائل العزل والحجب.
وقد كتب البعض معتقدًا أنه يوما ما سيعرف من يشتمون السعداوي قيمتها وفضلها، لابد من تذكير هؤلاء أن أولئك لا يزالون يهاجمون هدى شعراوي إلى اليوم، ومن يعرف منهم درية شفيق ونبوية موسى وسيزا نبراوي لا يوفر هجومه عليهن، فلا تأمل في هؤلاء خيرا ولا تنتظر منهم فهمًا، فالأهم أن المرأة خلعت البرقع وخرجت للتعليم ثم للعمل وتقلدت المناصب واليوم تتحدى التحرش وتتصدى للختان، هذا هو إرث السعداوي وسالفاتها العظيمات، إن القافلة تسير، ببطء ولكن بثبات، ولا تلتفت إلى العواء.