رحلت نوال السعداوي، وقد خلف موتها عاصفة تشبه الكثير من العواصف التي أثارتها في حياتها، ولكنها عواصف العلم والشجاعة وليست تلك العواصف التي يحب أصحابها إثارتها عمدا لتظل أسمائهم تتردد في دوائر الصحافة والإعلام.

لم تكن عواصف نوال مفتعلة بل كانت مستحقة، فقد كانت أول من تصدت لفكرة ختان الإناث، حتى جاء على مصر يوم جعلت فيه الختان جريمة. لقد قاومت نوال السلطة الذكورية الأبوية البطريركية بكل أشكالها الراسخة في الديانات السماوية وحتى الأساطير القديمة محاولة تحرير النساء وهي ترى أن لا سبيل إلى تحرير المرأة إلا التخلص من هذه السلطة الأبوية غير أن تلك السلطة البطريركية لا ترتبط بالمجتمع وحده بل بنظام رأسمالي عالمي يرى في المرأة سلعة.

رحلت نوال وقد استفز رحيلها التيارات الإسلامية التي اعتادت الشماتة وهي التي أزعجهم حضورها طوال سنوات طويلة عملت فيها على هز سلطتهم التي تعزز حضور الذكور في الفقه وفي الحياة العامة. هذا العداء الجلي بين السعداوي والإسلاميين أثلج صدور الأقباط الذين يؤمنون دائما بمبدأ عدو عدوي صديقي وهو الأمر الذى لا يمكن أن يكون صحيحا في حالة نوال السعداوي نهائيا.

هل تصلح أفكار نوال السعداوي للتطبيق في النظام الكنسي؟

لم تتطرق نوال في كتاباتها ومعاركها إلى المرأة في الكنيسة القبطية بل تفرغت إلى محاربة الدور المرسوم لها في الإسلام خاصة في نسخته الوهابية، ربما ذلك لأسباب متعددة أهمها إن نوال نفسها ولدت مسلمة أو إن هذا الدين هو دين الأغلبية في الشرق الأوسط، والدين الذى شكل البنية الثقافية الذكورية التي تصدت لها نوال ولكنها لم تلتفت طوال حياتها الفكرية إلى طبيعة دور المرأة في الكنائس التقليدية ذات النظام الأبوي البطريركي هيكليا.

إذا مددنا خط أفكار نوال على استقامته سنرى معارك أشد ضراوة مع الكنيسة القبطية التي يرى تيار غير قليل فيها أن المرأة نجسة ورثت الخطية الأصلية عن حواء التي تسببت في طرد آدم من الجنة، لذلك فلا يحق لها التناول من سر الأفخارستيا أحد أسرار الكنيسة السبعة وهي حائض ذلك لأن الحيض نجاسة، ولا يحق لها دخول الكنيسة وهي نفساء للأسباب نفسها بل إن تعميد المولود الذكر يتم بعد مرور 40 يوما والأنثى بعد 80 يوما وهي كلها أفكار لا ترضي نوال التي تصدت لكافة أشكال التمييز ضد المرأة سواء في الدين أو المعتقد أو في الحياة العامة.

في صلاة تحليل المرأة التي ترتل قبل سر التعميد، يقال في الصلاة الأولى: “طهِّرهـا مـن أدناسها، لتتجدَّد نفسها وجسدها وروحها … ”

وفي الصلاة الثَّانية: “بارك عبدتك وحللها من كلِّ نجاسـة غريبة من طُهرك …”.

احتلت قضية طهارة المرأة جانبا من النقاشات الكنسية الأعوام الماضية حين أصدر الأنبا بفنوتيوس مطران سمالوط كتابه “المرأة في المسيحية” يؤكد فيه طهارة المرأة ويبيح لها التناول من الأسرار المقدسة أثناء الحيض وهو الأمر الذى تسبب في اشتباكات كلامية لا تنتهي بين آباء الكنيسة الذين رأوا أن المرأة نجسة طوال فترة حيضها وأن هذا ما تسلموه من آباء الكنيسة وفي عقيدتها المستقيمة.

معركة مطران سمالوط حول طهارة المرأة

تعود قضية “نجاسة المرأة” أثناء الحيض والنفاس حيث كان اليهود يحرمون الاقتراب من المرأة فى فترة حيضها وخلال أربعين يوما من ولادتها، إلا أن الكنيسة القبطية واستنادًا إلى أقوال الآباء الأوائل ما زالت تتبع الشريعة  نفسها وهو الأمر الذى تصدى له الأنبا بفنوتيوس فى كتابه “المرأة فى المسيحية”.

يطرح الكتاب سؤالًا مهمًا: هل تتناول المرأة أثناء الدورة الشهرية؟، ويجيب الأنبا بفنوتيوس قائلًا: هناك فرقا كبيرا بالطبع بين أقوال الآباء وتعاليمهم أو رسائلهم وبين القوانين الكنسية التى أقرتها المجامع المسكونية (العالمية) أو المكانية (المحلية)، فأقوال الآباء وتعاليمهم ليست ملزمة للكنيسة مثل القوانين الكنسية المعتمدة، فهذه الآراء قابلة للنقد أو حتى الرفض، لأنه ربما تكون هذه الآراء تخص أمورا لها ظروفها غير موجودة الآن، وأيضًا الآباء غير معصومين من الخطأ، خاصة إذا كانت هذه التعاليم أو حتى القوانين لا تتوافق مع الفهم السليم لنصوص الكتاب المقدس أو لم تأخذ بها المجامع المسكونية (العالمية) أو المجامع المكانية (المحلية).

ويتساءل مطران سمالوط فى كتابه: عندما تحدث إفرازات من الجسد دون إرادة فإن ما نختبره هو جانب ضرورى تحتمه الطبيعة، فما هى الخطيئة، إذا كان الله الذى صنع الجسد هو الذى شاء وخلق القنوات التى تفرز هذه الإفرازات؟

ويضيف: التناول مثل أى طعام نأكله ويتحول فينا إلى لحم وعظام ويطرد الجسم الإنسانى ما لا يريد أو ما لا تقوى أجهزة الهضم على امتصاصه، نحن نأكل لكى نتحول إلى المسيح وإلى حياته الغالبة للموت لا لكى يتحول هو فينا بواسطة أجهزة الهضم إلى طعام بائد.

كذلك، فإن المطران قد تساءل أيضًا عن التمييز فى قضية المعمودية بين الذكر الذى يعمد بعد أربعين يومًا من ولادته والأنثى التى تعمد بعد ثمانين يومًا متعجبًا من جدوى التمييز.

وإباحة تناول المرأة فى فترة الحيض التى انتصر لها مطران سمالوط كانت قد شغلت ذهن القس يوئيل المقارى الراهب بدير أبو مقار وأصدر عنها كتابًا منذ شهور، أورد فيه آراء بعض آباء الكنيسة مثل القديس أثناسيوس الرسولى، والقديس يوحنا ذهبى الفم، وبعض آراء آباء العصر الحديث مثل المطران جورج خضر مطران جبل لبنان والقمص داوود لمعى كاهن كنيسة العذراء بمصر الجديدة والقس بطرس سامى كاهن كنيسة مارمرقس بالمعادى والباحثتين ماريا فوتينيه ودونا رزق.

ويفسر الراهب يوئيل قول، القديس أثناسيوس الرسولى، فيقول “إذا كنا نحن ذرية الله حسب ما جاء فى أعمال الرسل الإلهية فليس فى أنفسنا شىء نجس ولكننا حين نرتكب الخطية وهى أكثر الأشياء قذارة فعندئذ فقط تجلب على أنفسنا الدنس، مشيرا إلى أن القديس اثناسيوس اعتبر أن الإفرازات هى قانون الطبيعة بالنسبة للجسد وليست دنسا فى حد ذاته.

أما المطران جورج حبش فطالب الكنيسة بالتحرر من الرؤية الذكورية مؤكدا أن منع المرأة من التناول أثناء نزول الدم يؤيد تلك الذكورية لأن النصوص المسيحية الأولى لا تجعل حائلا بين الحيض وممارسة الأسرار المقدسة بل إن منع المرأة جاء فى سفر اللاويين ولا علاقة له بالمسيحية.

المرأة في الكنيسة.. لا صوت لها

لا تؤمن الكنيسة القبطية بكهنوت المرأة، فسر الكهنوت يخصص للرجال فقط لأن المسيح لم يختار رسولات إناث من بين تلاميذ مكتفيا بالذكور وهي نفس العقيدة التي تتبعها الكنائس التقليدية بينما تحررت الكنائس المصلحة مثل الكنيسة الإنجيلية من تلك الرؤية وأصبحت رسامة المرأة أمرا واقعا في العديد من دول العالم المتقدم بينما شهدت فلسطين رسامة أول قسيسة في الكنيسة اللوثرية وهي أحد الكنائس البروتستانتية أيضا.

أما في الكنيسة القبطية، فإن المرأة يحق لها تولي منصب رئيسة دير للسيدات لكن هذا لا يمنحها حق عضوية المجمع المقدس، رغم أن زملائها رؤساء الأديرة هم أعضاء في المجمع المقدس الهيئة العليا للكنيسة، ومن ثم فإن المرأة لا يحق لها التصويت على القضايا التي تخص مستقبل الكنيسة أو واقعها مكتفية بالخضوع إلى السلطة الباباوية.

في التسعينات من القرن الماضي أثارت المؤرخة القبطية الشهيرة أيرس حبيب المصري جدلا جديدا حين تقدمت مع 35 من زميلاتها من النساء المتعلمات بطلب إلى البابا شنودة تطلب فيه إدراجها ضمن من يحق لهم التصويت على اختيار البطريرك، إلا أن طلبها قوبل بالرفض، رغم كونها أحد أهم المؤرخات في تاريخ الكنيسة المعاصر ثم امتد الصراع إلى منع كتبها من مكتبات الكنائس.

كل هذه الأفكار وأكثر كانت ستجعل من نوال السعداوي أشد أعداء السلطة البطريركية الكنسية التي تضع المرأة في مرتبة ثانية روحيا وإداريا، ومن ثم فإن مبدأ عدو عدوي صديقي الذى يتبعه الأقباط مع الكثير ممن يتصدوا للإسلاميين قد يخونهم هذه المرة، لأن عداوة نوال السعداوي مع تلك الأفكار لن تقتصر على الإسلاميين فقط بل ستمتد لتشمل كل الأفكار الشبيهة التي تحط من شأن المرأة.