تدخل دولة الإمارات على خط الأزمة المحتدمة بين أطراف سد النهضة إثيوبيا ومصر والسودان، ووجود وفد أمريكي في منطقة القرن الأفريقي ربما يزور القاهرة هل يمثل مخارج مناسبة لأزمة سد النهضة، وهل وساطة أبو ظبي أولًا يمكن أن تكون تسوية جزئية مرتبطة بعملية الملء الثاني فقط في سبيل تهدئة المخاوف السودانية، أم أنها ستكون اتفاقات شاملة لحل الأزمة.

هل هذا المخارج ثانيًا تمثل المصالح المشتركة لدولتي المصب مصر والسودان، وإلى أي مدى ستكون تل أبيب ومصالحها حاضرة في هذا المشهد، وهل القبول المبدئي من جانب السودان للوساطة يشكل شرخًا في جدار وحدة الموقف المصري السوداني في هذه المرحلة، أم أن العاصمتين اكتسبتا الخبرة الكافية لإدراك أن الثقة أو محاولة احتواء أديس أبابا ضربًا من الجنون.

هذه الأسئلة والمخاوف طرحت بكثافة في المجال العام المصري، وتكثفت في الذهنية الشعبية قبل الرسمية خلال الساعات القليلة الماضية، وذلك بطبيعة حساسية ملف المياه لدى كل مصري، وربما ماعزز طرح هذه الأسئلة غياب ترحيب أو قبول مصري بالوساطة وبروز تصريحات الرئيس عبدالفتاح السيسي أمس بتأكيد الموقف المصري بأن يكون أي اتفاق مع إثيوبي بشأن سد النهضة، هو اتفاق قانوني ملزم، أي تكون له مرجعية يتم الاستناد إليها في حال أن أقدمت إثيوبيا على أي خرق لبنود الاتفاق، وألا يكون هذا الاتفاق استرشاديًا فقط كما تريد إِثيوبيا.

قرب الملء الثاني لبحيرة سد النهضة أسفر عن تضاغط بين الأطراف خصوصًا مع تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والتي قال فيها بعدم رغبته في حرب مع السودان بسبب أزمة الحدود، مغلفًا عباراته بمفردات عاطفية وجدت صداها الإيجابي على وسائل التواصل الاجتماعي السودانية، دون تخلي أحمد موقفه في تنفيذ الملء الثاني لبحيرة السد في موعده، على الرغم من عدم تنفيذ الإنشاءات المطلوبة لتحقيق هذا الهدف وهو تعلية الممر الأوسط لسد النهضة وهي العملية التي قد تستغرق شهرًا.

في هذا السياق قال آبي أحمد عبارة لافتة بالنسبة لي وهي أن عدم الملء يكلف إثيوبيا مليار دولار، في توقيت قال فيه المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية دينا مفتي إن الاتفاق بين الأطراف يمكن أن يسفر عن صيغة رابحة.

في هذا السياق من التصريحات يمكن إدراك أن الأغراض الإثيوبية تتمثل في فصل مساري مشكلة الحدود الإثيوبية السودانية عن مسار سد النهضة، وذلك في محاولة لفك وحدة الموقف المصري السوداني التي تبلورت مؤخرًا، ومحاولة إحداث شروخ فيه، خصوصًا وأن هذه الوحدة قد أسفرت عن تقارب علي الصعيد العسكري بين البلدين يبدو مهددًا لإثيوبيا، خصوصًا في ضوء تعاون سلاحي المهندسيين في الجيشين المصري والسوداني بدأت أولى خطواته الأسبوع الماضي، والذي سيكون له إنعكاس مباشر على القدرات السودانية في تعزيز السيطرة على كامل التراب الوطني السوداني في مناطق الفشقة الصغرى والكبرى التي تغمرها المياه في الخريف، والانخراط في مناورات نسور 3 بين سلاحي الجو المصري والسوداني. أما الغرض الإثيوبي الثاني فهو أن أي تأجيل للملء أو تفاهم فيه سيكون له ثمن مالي مدفوع، ولعله من هذه الزاوية يمكن أن يكون وجود أبوظبي هدفًا إثيوبيًا.

في المقابل فإن تدخل الإمارات ينقذ استثماراتها في إِثيوبيا سواء تلك التي تم استثمارها في سد النهضة، أو غيرها وفي كافة المجالات الزراعية والخدمية، حيث تبلغ هذه الاستثمارات 20 مليار دولار تم ضخها على مدى العقدين الأخيرين، فضلًا عن ذلك يحقق الوجود الإماراتي في المشهد تكملة لطوق وجوده ونفوذه في اليمن وتعزيزًا لمصالحه الاقتصادية في البحر الأحمر والممثلة في شركة دبي للموانيء، رغم أن إثيوبيا دولة ليست مشاطئة للبحر الأحمر، لكنها ذات نفوذ وتأثير على دول مفتاحية فيه كجيبوتي التي ترتبط معها بخطوط سكك حديدية، واتفاقات مؤثرة على الاقتصاد المحلي لجيبوتي.

وبطبيعة الحال الوساطة الإماراتية في حال نجاحها على المستوى الجزئي أو الشامل ستحقق وزنًا إقليميًا مضافًا للإمارات تحرص عليه أبو ظبي، خصوصًا في ضوء تراجع سعودي عن الوساطة في هذا الملف ربما لأسباب تبدو مؤقتة في مسار العلاقات الثنائية بين القاهرة والرياض.

ولعلي لا استبعد في هذا السياق أن يكون هناك وجودًا إسرائيليًا في المشهد الراهن مستندة في ذلك إلى عدد من الأسباب هي أولًا طبيعة الأطماع التاريخية في مياه النيل والتي تمت بلورتها في مشروع ليشع كالي وهو المشروع الذي يؤمن مليار متر مكعب من المياه لإسرائيل وحاول الرئيس الأسبق أنور السادات تنفيذه في إطار اتفاقات كامب ديفيد، لكنه تراجع تحت مظلة ضغوط داخلية كبيرة.

السبب الثاني مرتبط باهتمام إسرائيلي بعدم نشوب حرب بين السودان وإثيوبيا، وهو أمر كان أحد موضوعات زيارة رئيس المخابرات الإسرائيلي للخرطوم، أما السبب الثالث فهو التوجه الاستراتيجي الإماراتي بتحالف مع إسرائيل يحميها من إيران، وهو مايفسر سرعة التطبيع وعمقه بين الإمارات وإسرائيل وهو التطبيع المؤسس على علاقات غير معلنة استمرت لفترة طويلة.

وفيما يخص الموقف السوداني نستطيع أن نفهم دقة الموقف الذي تعيشه الخرطوم والارتباك الذي تعانيه، نظرًا لما يمثله الملء الثاني لبحيرة سد النهضة بلا اتفاق، ذلك أن السودان لاتملك قاعدة بيانات مناسبة تؤهلها للتعامل مع هذا الملء خصوصا فيما يتعلق بتوقيت تفريغ بحيرة سد الروصيرص، وهو ماجعل السودان مكشوفًا على المستوى الاستراتيجي مع الملء الأول بتوقف مياه الشرب عن العمل، والتأثيرات المضاعفة التي حدثت مع فيضان النيل.

من هنا رحب مجلس الوزراء السوداني مبدئيًا بالتفاعل مع الوساطة الإماراتية.

ولكن الخرطوم لم تتخل عن ممارسة أوراق الضغط التي تملكها على إثيوبيا، ذلك أن وفدًا من أبناء بني شنقول -إقليم سد النهضة- قدم طلبًا لبريطانيا دولة الاحتلال لوادي النيل مطلع القرن العشرين للانضمام إلى السودان، بناء على أن إثيوبيا قد خرقت اتفاقية 1902 والتي تم بموجبها ضم الإقليم لإثيوبيا مقابل عدم إنشاء سدود على نهر النيل. كما تملك الخرطوم أيضًا قدرة على التأثير في التفاعلات بين أديس أبابا والتيجراي بشكل قد يؤثر على موقف أديس أبابا في هذه المعادلة.

إجمالًا ربما يكون هناك اجتماعًا ثلاثيًا بين وزراء خارجية مصر والسودان وإثيوبيا في أبوظبي مطلع الأسبوع المقبل، وهو الاجتماع الذي قد يؤسس لتفاهمات جديدة وستكون نقطة التناقض الثانوي فيها بين مصر والسودان هي لهفة السودان على تحقيق اتفاق ولو جزئي نظرًا لطبيعة وحجم مخاطر الملء الثاني على الخرطوم، وإصرار مصر على أن يكون الاتفاق شاملًا، وسيكون المشكل الأساسي هنا احتمال دفع الإمارات وراء اتفاق جزئي، ما يهدد صورتها ويضرها في أذهان الشعب المصري، فضلًا عن حكومته.

المهم بالنسبة لنا إدراك أن إدارة هذا التناقض بين القاهرة والخرطوم يتطلب حكمة وصبر وسعة صدر من الطرفين إزاء بعضهما البعض، وإدراك أن مصالح دولتي المصب الاستراتيجية لا تنفصم لإنها ببساطة دولتي مصب كتب عليهما واقعيًا، وحدة الموقف وأن الإضرار بهذه الوحدة يجعل البلدين خاسرين معًا، ولعل تلاعب الرئيس المخلوع البشير بهذا الملف والتأخر السوداني في إدراك حجم مخاطر سد النهضة، ونجاح إثيوبيا في خديعة الطرفين حتى تم بناء مايزيد عن 70% من جسم السد، وعدم معرفة طبيعة معامل أمان السد كلها أثمان مدفوعة باهظة الثمن علينا وعلى أجيالنا القادمة في وادي النيل، من هنا نرفع الصوت عاليًا إحذروا الخديعة.