طرحت السعودية في أحدث أحاديثها على مسرح الأزمة اليمنية مبادرة وُصفت بـ”الميتة”، فلقيت تأييدًا شرقًا وغربًا، بيدْ أنها لم تجد موضعًا في حسابات جماعة أنصار الله، الحوثيين، المدعومين من إيران، والذين جاء ردهم عسكريًا.
اعتراف سعودي ضمني
المبادرة السعودية بدت وكأنها تعبر عن اعتراف سعودي ضمني بواقع أفرزته الحرب، عندما وضعت الحوثيين في موقف قوي ضمن أي مفاوضات سلام مستقبلية. بالنظر إلى بنودها التي تمثلت في وقف القتال على كل الجبهات ومراقبته من قبل قوات تابعة للأمم المتحدة، وإعادة فتح مطار صنعاء جزئيًا والسماح باستيراد الوقود والمواد الغذائية عبر ميناء الحُديدة، الواقع تحت سيطرة الحوثيين، ووضع آلية لاقتسام العائدات الجمركية للمطار والميناء بين الحكومة الشرعية والحوثيين، وفتح حساب مصرفي مشترك لدفع رواتب الموظفين الحكوميين عبر البلاد، ثم تأتي الخطوة الأخيرة عبر استئناف المفاوضات السياسية بين الطرفين.
تأييد دولي ورفض إيراني
حظيت المبادرة السعودية بتأييد دولي وإقليمي متزايد، شملت دول: الإمارات ومصر والبحرين وعمان والكويت والأردن وقطر على المستوى العربي، والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي غربيًا. لكن إيران اعتبرت المبادرة على لسان سفيرها في صنعاء حسن إيرلو “مشروع حرب دائمة” و”استمرار الاحتلال” وليس إنهاء للحرب.
المبادرة الجديدة ليست شيئًا سوى إعادة طرح قدمته السعودية في أبريل 2020، عندما وضعت أمام العالم اقتراحًا وصفته بالإنساني لدى تفشي وباء كورونا، واعتبره الحوثيون مراوغة سياسية، بيد أنه لم ينجح في وضع السلاح جانبًا.
مراوغة حوثية
الحوثيون لم يتأخروا كثيرًا في رفض المبادرة السعودية الحديثة، عبر تصريحات لكبير المفاوضين الحوثيين محمد عبد السلام، عندما اعتبرها في تدوينات على “تويتر” بــ”مبادرة مُوجَّهة للاستهلاك الإعلامي، غير جادة ولا جديد فيها”.
رغم ذلك ترك عبدالسلام الباب مشرّعا بقوله إن الحوثيين “سيواصلون المحادثات مع الرياض والولايات المتحدة وسلطنة عمان، الدولة الوسيط، في محاولة للتوصل إلى اتفاق سلام.
حديث السعودية الأخير لو بقي أخيرًا قد يرى فيه البعض مخرجًا من أضيق الأبواب المتاحة لحل سلمي للأزمة، كونه لا يقدم من وجهة نظر حوثية سوى ما هو بديهي تقاتل من أجله الجماعة المسلحة منذ بدء الأزمة
وحديث السعودية الأخير لو بقي أخيرًا قد يرى فيه البعض مخرجًا من أضيق الأبواب المتاحة لحل سلمي للأزمة، كونه لا يقدم من وجهة نظر حوثية سوى ما هو بديهي تقاتل من أجله الجماعة المسلحة منذ بدء الأزمة، وهو ما ترجمته تصريحات محمد عبد السلام بأن “فتح مطار صنعاء وميناء الحديدة حق من حقوقنا الإنسانية، وبالتالي لا ينبغي أن يستخدم كأداة للضغط علينا”.
الحوثيون يؤكدون شرعيتهم غير القابلة للنقصان ويشككون في نية من يراد أن يكون التفاوض معهم، بيد أن الرغبة السعودية تريد مرحلة لا هي انتقالية بوصفها خطوة نحو استقرار نهائي ولا هي بنود تفاوضية، لكونها هدنة ليست أكثر ومن ثم بدء تفاوض من نقطة الصفر، حسب مراقبين.
السنوات الماضية حملت بُعدًا تلاشى مع المبادرة السعودية الجديدة، يتمثل في اعتراف أحد طرفي الأزمة (السعودية) بالآخر باعتباره شريكًا سياسيًا يصلح التفاوض معه (وهم الحوثيون)، الأمر نفسه ينطبق على الحوثيين الذين اعتبروا دائمًا السعودية معتدي ليس طرفًا على الأقل من ناحية قوة تأثيره على غرار طهران التي تشاركها الجماعة المسلحة تفاصيل الوضع اليمني باعتبارها شريكًا استراتيجيًا لها، غير أنّ لهجتها هذه المرة رغم الرفض المتكرر يخلو من إخراج السعودية خارج المعادلة.
قصف في ذكرى العصف
انتظر الحوثيون أيامًا معدودة تخللتها تصريحات مكثفة وجهود دولية وإقليمية، لتعلن الجماعة عن رد عملي بعملية عسكرية في ذكرى عاصفة الحزم بعنوان “عملية يوم الصمود الوطني” استهدفت فيها بالطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية مناطق في العمق السعودي.
وحلت قبل يومين الذكرى السادسة لإطلاق ما يُسمى بـ”عاصفة الحزم” وهي العملية العسكرية التي شنتها قوات التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية في عام 2015 ضد الجماعة الحوثية.
ترجم هذا الرد الموقف الحوثي بشكل أكثر وضوحًا بعيدًا عن البيانات والتصريحات وهو رسالة تسبق جهودًا أمريكية مرتقبة في المنطقة
المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة اليمنية التابعة للحوثيين العميد يحيى سريع، قال إن العملية التي جاءت في 25 مارس (ذكرى عاصفة الحزم)، نُفذت بثماني عشرة طائرة مسيّرة وثمانية صواريخ باليستية استهدفت مقرات شركة أرامكو في رأس التنورة، ورابغ، وينبع، وجازان. كما استهدفت قاعدة الملك عبد العزيز في الدمام باثنتي عشرة طائرة مسيرة نوع صماد 3 وثمانية صواريخ باليستية من نوع ذو الفقار وبدر، وسعير، واستهداف مواقع عسكرية أخرى في نجران وعسير بستّ طائرات مسيّرة من نوع قاصف K2.
ترجم هذا الرد الموقف الحوثي بشكل أكثر وضوحًا بعيدًا عن البيانات والتصريحات، وهو ما اعتبره مراقبون رسالة تسبق جهودًا أمريكية مرتقبة في المنطقة، وتعبر عن رؤية جماعة أنصار الله التي قرأت المبادرة السعودية على نحو يوحي بضعف أبدته المملكة في تعاطيها مع الأزمة.
السعودية تتوعد
المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع السعودية العميد الركن تركي المالكي، اعتبر هذا الهجوم لاسيما عقب مبادرة المملكة “استمرارًا للوصاية الإيرانية على القرار السياسي والعسكري للميليشيات”.
حسنًا قرأ المتحدث العسكري السعودي عندما ربط العملية العسكرية بالطرح السياسي لبلاده باعتبارها ردًا ميدانيًا، لذلك هدد برد عسكري للمملكة على الهجوم الحوثي، وقال إن “وزارة الدفاع ستتخذ الإجراءات اللازمة والرادعة لحماية مقدراتها ومكتسباتها الوطنية بما يحفظ أمن الطاقة العالمي”.
مهمة أمريكية
هذه التطورات تأتي وسط جولة شرق أوسطية للمبعوث الأمريكي الخاص إلى اليمن تيم ليندركنغ، من أجل الضغط باتجاه قبول مبادرة وقف إطلاق النار.
الخارجية الأمريكية قالت إن مبعوثها الخاص توجه الجمعة إلى الشرق الأوسط لإجراء محادثات بشأن تسوية الأزمة اليمنية، تشمل لقاءات مع قيادات الحوثي. كما أن المبعوث الأمريكي والآخر الأممي مارتن غريفيث سيلتقيان كبار القادة الإقليميين للهدف نفسه.
سواء كانت فرصة جادة أم مناورة، فإن السعودية قد وضعت الحوثيين في موقف محرج أمام الأطراف الدولية والإقليمية بصفتهم رافضين للحل السياسي
وسواء كانت فرصة جادة أم مناورة، فإن السعودية قد وضعت الحوثيين في موقف محرج أمام الأطراف الدولية والإقليمية بصفتهم رافضين للحل السياسي، وهو الطرح الذي رجح خبراء أن يكون هدف المبادرة منذ ولادتها. متابعون قالوا إن المملكة وتحت ضغط من إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن أرادت أن تقول إن الحوثيين هم من يرفضون الحل، وتنفض يدها عن المطالب المستمرة بإنهاء الأزمة.
وتعاقبت ثلاث إدارات على الحكم في الولايات المتحدة خلال الأزمة اليمنية جميعها أيّدت الموقف السعودي وحقه في الدفاع عن أرضه، ووضع دونالد ترامب جماعة الحوثي على قائمة الإرهاب، لكن بايدن لاغى التوجه بحذف الجماعة من القائمة، ومنذ وقتها وتتحدث إدارته عن حل في أفق الازمة.
ورقة مأرب
المبادرة تزامنت مع هجوم مكثف لقوات الحوثي على مدينة مأرب، التي تعد آخر معقل في شمال اليمن للحكومة المدعومة سعوديًا، وأسفرت الهجمات عن سيطرة حوثية على كثير من المناطق وقطع خطوط إمداد بعض الجبهات.
لذلك يرى مراقبون أن الحوثيين لن يدخلوا محادثات سلام قبل السيطرة على مأرب التي يحاولون كسبها عسكريًا منذ أكثر منذ عام ونصف العام. ذلك أن إتمام هذه المهمة بمثابة السيطرة على كامل الشمال اليمني وهو ما يعدُ ضربة قوية إلى الحكومة اليمنية ويضعف موقفها التفاوضي مستقبلا.
وكان ينظر إلى مأرب الصحراوية (120 كيلومترا شرق صنعاء) على أنها ملاذ آمن للفارين من القتال في أماكن أخرى من البلاد، خاصة في المواجهات بتخوم العاصمة، وهو ما يجعل جبهات الحكومة وقوات الانتقالي الجنوبي مكشوفة على مجهول.
مقاومة النظام السابق
في الأثناء عاد طيف النظام السابق مجددًا كأحد اللاعبين على الساحة اليمنية، بمشروع عسكري جديد يهدف إلى “استعادة الدولة”. هكذا تحسس العقيد طارق صالح الذي أطلق الكيان وسماه “المقاومة الوطنية”، خطى السعودية بالإشارة إلى تأييده لمبادرتها خلال مؤتمر إشهار الكيان وهو أحد التشكيلات المسلحة العسكرية المناهضة لجماعة الحوثي.
وطارق صالح هو نجل شقيق الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، الذي قتل أثناء خروج موكبه من العاصمة صنعاء، بعدما قصف الحوثيون منزله، في ديسمبر 2017.
وقال طارق صالح إن الكيان الجديد يحشد الجهود لاستعادة العاصمة صنعاء، بدعم من “المقاومة الجنوبية” (قوات مدعومة إماراتيا)، داعيا جميع الأطراف لتوحيد الجهود والجبهات صوب العاصمة صنعاء.
خريطة السيطرة الميدانية
يمكن تصنيف الأطراف الأخرى المقابلة لجماعة الحوثي إلى أربع أطراف هي: الحكومة المدعومة سعوديا، وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيا، والقوات المشتركة التي تلتقي أو تبتعد قليلا مع قوات ألوية العمالقة السلفية، والطرف الرابع يتمثل في تنظيمي القاعدة وداعش.
خريطة السيطرة الميدانية تأتي من حيث المساحة الجغرافية في صالح الطرف المناهض للحوثيين بأطرافه الأربعة آنفذ الذكر، بيد أنها مناطق صحراوية في أغلبها لكنها غنية بالنفط، خاصة محافظات مأرب وشبوة وحضرموت، إضافة محافظة المهرة.
نفوذ الحوثيين
يسيطر الحوثيون على محافظة صعدة شمالي اليمن، ومعظم محافظات البلاد المكتظة بالسكان بما فيها العاصمة صنعاء ومدينة الحديدة التي تحوي ميناء استراتيجيا.
مناطق الحكومة
وتسيطر الحكومة المدعومة سعوديًا على أجزاء من أبين والجوف، ووجودها في محافظة عدن العاصمة المؤقتة يبقى صوريًا، بسبب سيطرة قوات الانتقالي الجنوبي على المدينة. ويقيم الرئيس هادي في العاصمة السعودية منذ وصوله إليها فارا من مدينة عدن نهاية مارس 2015.
الجنوبيون وتشكيلاتهم
أما المجلس الانتقالي الجنوبي الذي أعلن انفصال جنوب اليمن عن شماله منتصف 2017، يسيطر على مدينة عدن ومحافظة لحج وأجزاء من محافظتي الضالع وأبين، وجزيرة سقطرى.
ويضمن المجلس الانتقالي الجنوبي ولاء قوات الحزام الأمني المنتشرة في محافظات عدن ولحج وأبين وجزء من محافظة الضالع، وقوات النخبة الشبوانية المنتشرة في أجزاء من محافظة شبوة، وقوات النخبة الحضرمية المنتشرة في مدن ساحل حضرموت.
النظام السابق والقوات المشتركة
كان الرئيس السابق على عبدالله صالح متحالفا مع الحوثيين حتى عام 2017، عندما غادر حلفهم واندلعت مواجهات بين قوات الطرفين في العاصمة صنعاء، انتهت بمقتل صالح وفرار ابن شقيقه طارق.
وبدعم إماراتي شكل طارق صالح قوات ضخمة فرضت سيطرتها على حساب قوات العمالقة السلفية في الساحل الغربي، خاصة في تخول الحديدية. انضم طارق صالح بقواته المستحدثة إلى القوات المشتركة التي تقاتل على الساحل الممتد من مضيق باب المندب حتى الحديدة.
القاعدة وداعش
في بلد ظل يوصف بأنه واحد من قلاع المحافظة يبقى تنظيما القاعدة وداعش الأقل ظهورا في المشهد هناك خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعدما فقد تنظيم القاعدة محافظة أبين التي سيطر عليها في العام 2012، والانسحاب من مدينة المكلا في العام 2016 بعدما أجرى تفاهمات مع زعماء قبليين محليين، وبعدها اختفى أثره إلا قليلا عندما يظهر عبر مناوشات محدودة مع القوات الجنوبية. أما تنظيم “داعش” فتلاشى تماما منذ العام 2015، بعدما أعلن وجوده في محافظة البيضاء.
برهنت الأطراف المتصارعة على أن السلاح هو أقصر الطرق إلى السلطة، وها هي السلطة ليست بحاجة إلى السياسة فلما البقاء تحت رحمتها؟، هكذا يعتقد المتحاربون
أفق مظلم
من يرصدون التغيرات الاجتماعية ويؤمنون أن التغيير هو مظهر الحياة الأوضح لن يكون عسيرًا عليه فهم ما يجري في اليمن، لا التغيير وقع ولا السلاح وُضع، ومن ثم لا تغييرًا في الأفق. إذ برهنت الأطراف المتصارعة على أن السلاح هو أقصر الطرق إلى السلطة، وها هي السلطة ليست بحاجة إلى السياسة فلما البقاء تحت رحمتها؟، هكذا يقول المتحاربون.