ساعات عصيبة شهدها ممر قناة السويس الملاحي، عندما حبس العالم أنفاسه، بانتظار منْ بمقدروه أن يزيح الجلطة من شريان أحد أهم الممرات الملاحية بالعالم. تكررت المحاولات وحدّق الجميع أمام شاشات التلفاز متابعين أخبارًا تتحدث في مجملها عن “مناورات” تعويم السفينة، ونجحت المهمة. لكن أنباء الانفراجة السعيدة تجاهلت- إلا قليلا- دور البطل في الفيلم الواقعي شديد التعقيد.
العمال والفنيون هم أبطال القصة، ذلك أنهم أثبتوا أن المستحيل مجرد كلمة في القاموس، فها هو العالم يقول إن المهمة ربما تستغرق أسابيع ولا أمل في عودة الملاحة قبل هذا الموعد لكنّ المصريين كان لهم كلمة أخرى، كتبتها مشقة وسهر ليالٍ سبع.
الثلاثاء الماضي، توقفت حركة الملاحة في اتجاهي قناة السويس بعدما جنحت السفينة البنمية العملاقة “إيفر جيفين”، وهو ما هدد 12% من حركة التجارة العالمية، فاستغرق الأمر 7 أيام وعادت الملاحة مرة أخرى مساء الاثنين لطبيعتها.
شارك في تعويم السفينة 10 قاطرات بينها 9 مصرية، بالإضافة إلى الكراكة “مشهور”.
أبطال مهمة التعويم
“الحمدلله ربنا كلل مجهودنا.. قالوا جامدة وريح عتيه.. قلنا الهيئة رجالة قوية.. قالوا سفينة جانحة وحديدية.. كنا أبطال وطلعنا قد المسؤولية”.. بتلك الكلمات احتفل الفني كريم عبد المنعم مع زملائة بالكراكة مشهور وسط قناة السويس رافعًا علم مصر.
كريم، يعمل فني وأمين مخزن بطاقم الكراكة مشهور، يتحدث لـ”مصر 360″، عن الأيام التي قضاها في مهمة التعويم، قضى منهم 5 أيام في عمل متواصل. يقول: “مجهود جبار من رجالة وطاقم الكراركة مشهور وقاطرات التحركات. بدأت عملية التكريك والتعميق أسفل السفينة الجانحة وبمسافة آمنة لسلامة السفينة”.
عمل مضني وشاق استمر لـ5 أيام من الحفر والتكريك سهلت عملية القطر لتعود السفينة لمسارها الطبيعي. وعن تلك اللحظات يقول عبد المنعم: “عملية التعويم تمت على مرحلتين بواسطة قاطرتين هولندية، وذلك بسبب العوامل الجوية والمد والجزر حيث بدأ القطر فجر الاثنين واستمر حتى عصر اليوم وبالفعل نجحت المهمة وتم قطر السفينة إلى منطقة البحيرات بواسطة قاطرات الهيئة للاطمئنان على سلامة السفينة وفحصها فنيا”.
عادت الحياة مرة أخرى للقناة وانتظمت حركة الملاحة، ولكن قبل ذلك تركت تلك المهمة في نفوس المشاركين في المهمة فرحة عارمة، حين شاهدت عيناهم بداية تحرك السفينة بنجاح: “دموع فرح وكأنه نصر أكتوبر”.
انتقل عبد المنعم للعمل بالهيئة منذ 3 سنوات، ولكنه لم يعلم أن القدر سيقوده ليكون أحد أبطال مهمة التعويم ليقول: “إنجاز عظيم شرفت أني عايشته وكنت ضمن هذا الأسطول العظيم لهيئة قناة السويس”.
مهمة الكراكة مشهور.. مجابهة المستحيل
ومن جانبه، روى الفني الكهربائي بالكراكة مشهور محمد عبده، والذي تحرك فور علمه بالحادث بعد ورود التعليمات: “أول ما وصلنا كنا معتقدين أنها عملية شحط عادي، ولكن اتضح لنا من حجم المركب أنها مأساة فالسفينة مستقرة بمسافة 70 متلاً على الأرض، والغاطس بأكمله كان على ضفة القناة، وكان من الصعب أن تقطرها القاطرات وتنتهي الحادثة”.
تابع عبده، الساعات الـ 48 الشاقة التي قضاها بجوار السفينة، والتي شعر خلالها بالخوف والخطر: “بدأنا نشغل الكراكة للتعمق أسفل السفينة. في آخر مرحلة لخروج السفينة كانت الكراكة وصلت أسفل السفينة، كنت أرفع عيني لأعلي لا أرى غير السفينة، كانت مهمة خطرة جدا”.
محمد.. حارس الخطر أسفل السفينة
يقف محمد ابن محافظة الإسماعيلية ويعمل في القناة منذ 9 سنوات، أسفل السفينة لمتابعة عمل الكراكة حتى لا تصطدم بالمركب تفاديًا لأي خطأ أو خسائر معرضًا حياته للخطر. وهنا شعر محمد بالخوف لأول مرة في البحر، نظرا لتواجده أسفل السفينة بالكراكة مشهور والتي كان على متنها أكثر من 60 عاملا وفنيا، التي كانت مهددة بالانزلاق من السفينة نظرا للتربة وضخامة المركب وحمولتها الزائدة: “الحمدلله عدت على خير”.
بمجرد خروح المركب تلاشت تلك المشاعر وتحولت إلى أحساس منفرد، فرحة عارمة، خاصة أن محمد وزملاءه في قسم الصيانة نجحوا في الحفاظ على المعدات والتي استمرت 6 أيام في عمل متواصل. ويقول: “شعرنا بأننا قمنا بعمل بطولي واستطعنا أن نفرح مصر بأكملها وأننا ساعدنا في عودة الملاحة مرة أخرى لطبيعتها، من الفرحة لم نستطع النوم، البعض هربت منه دموع الفرحة بجانب إطلاق الصافرات”.
وصل إلى علم محمد وزملائه أخبار المساعدات الخارجية من دول أخرى، والتي كان من بينها أمريكا وقطر وتركيا، وهو ما رفضه في قرارة نفسه. قائلا: “بنغير على شغلنا وإحنا كمصريين قادرين نصلح ما حدث بمفردنا وبمعدات الهيئة، فالكراكة مشهور هي الأكبر في الشرق الأوسط، وكانت الرئيسية في خروج المركب والمعدة الأجنبية الهولندية كانت مساعدة فقط”.
7 أيام في البحر
فرحة عارمة ظلت مسيطرة على محمد جهاد عامل بحري بهيئة قناة السويس، والتي بدت عليه واضحه وهو يروى ما عاشه، على مدار 7 أيام. إذ يقول: “لا ننام صبح وليل مواصلين العمل والكل متواجد ومتابع بداية من الفريق أسامة ربيع والمهندسين والمديرين وأطراف التحركات التي تقطر السفينة”.
السفينة مسجلة أعطال
ويقول جهاد إن السفينة كانت مسجلة أعطال قبل دخولها القناة ثم وقع بها عطل، وظهر على الموقع أنها قامت بالتجنيح يمينًا ويسارًا، ثم استقرت ودخلت على البر من الأمام مسافة 60 متر ومن الخلف 40 متر، حيث يبلغ طولها 400 متر.
يعود جهاد مرة أخرى ليتذكر بداية الأيام السبعة بقوله: “تلقينا تعليمات بالتوجه إلى السويس لضرورة التعامل مع سفينة جانحة، وتحتاج إلى كراكة مشهور، وبالفعل تم التعامل مع الأمر بنجاح، فالكل كان يدا واحدة، فالهدف كان هو تحريك السفينة في أسرع وقت ممكن”.
7 أيام متواصلة في البحر لم يبرح أحد مكانه، للحفاظ على اسم قناة السويس، متخطين الصعاب التي واجهتهم، وعنها يقول جهاد: “طول المركب 400 متر في منطقة ضيقة بجانب تيار المياه الشديدة وشدة الرياح بخلاف الحمولة الزائدة كانت 249 ألف طن، ولككنا نجحنا”.
غلق القناة لمدة 6 أيام، كان حدث له صدى عالمي نظرا لتأثيره المباشر خاصة على الجانب الاقتصادي، والذي خلف وراءه أبطالاً عايشوا ملحمه حقيقة، وعنها قال الفريق أسامة ربيع إن ما حدث حالة تدرس نظرا للتحديات الشديدة التي واجهت الفرق المساعدة.
لانش الجسات.. مهمة التشريح الدقيق لعملية التكريك
وصف طه سمير بحري الذي يعمل على لانش جاسات العمل على تعويم السفينة بـ”خلية النحل” فكل فرد يعلم مهمته في مواجهة معركة طاحنة مع الوقت. وعن تلك المهمة: “أنا فرد في إدارة كركات هيئة قناة السويس، أي عين الإدارة، والكراكة تحت المياه وقسم المساحة في إدارة الكراكات هو المسؤول عن تحديد مكان التكريك باستخدام لانش الجسات”.
عمل سمير المحدد كان “تحديد الأعماق تحت بدن السفينة عن طريق الموجات الصوتية وتحديد المسافة بين المركب وبين حفار الكراكة حتى لا يقع أي ضرر على السفينة، وهو ما يوضح مدى احترافية العاملين بالهيئة”.
يطلق سمير على نفسه ابن الهيئة، حيث بدأ العمل منذ 2013 ويقول: “بدأنا التعامل مع المركب من قبل إدارة التحركات يوم الثلاثاء ثم بدأ التعامل إدارة الكراكات من اليوم التالي”.
لم يترك سمير عمله على طول تلك الفترة نظرا لحساسية موقفه حيث يقول: “لا نستطيع ترك الكراكة تعمل بجوار المركب إلا وقسم المساحة موجود، خوفا من أن يقع ضرر على المركب تؤدي إلى كارثة أخرى”. وتابع: “فخور أني كنت متواجدا في هذا الإنجاز العظيم”.
رفض المساعدة الخارجية: مهمتنا ونحن قادرون
وعلى متن الكراكة مشهور، تواصلنا مع أحمد سليمان، فني ميكانيكي، والذي كانت الاحتفالات بها مستمرة وتظهر أصواتها في الخلفية، بعد أن نجحت في اتمام مهمتها. ويقول سليمان :”أنا موجود على الكراكة منذ 48 ساعة، مكملا للمجهود المشترك الذي قام به الزملاء، فالكل بذل مجهودا”.
شعر سليمان، والذي كان دوره صيانة الحفار، بالتفاؤل حين استقل اللانش الذي سيصل به إلى الكراكة متابعا: “كلنا كان عندنا تفاؤل والكل كان بيقول إحنا اللي هنطلع المركب”.
“محدش يقبل بأي تدخل حتى لو هنتعب وتعبنا يتضاعف”، جاءت تلك الكلمات الرافضة حين علم سليمان أن مجهودات خارجية سوف تقدم إليهم للمساعدة. ولكنه أصر مع باقي زملائه على التفوق على أنفسهم وعلى الوقت لعودة المالحة مرة أخرى بالقناة.