روت لي (س) أن أمها لا تحميها حين يضربها أبوها أو أخوها، تكتفي بدور المتفرج، على الرغم أن الأم تعاني عجزًا بسيطًا في إحدى ساقيها، بعد كسر لم يعالج بشكل سليم. هذا الكسر نتج عن ضرب الأخ الأصغر للأم حين وجدها تضحك مع جارتها وكان أخو الجارة يقف على مقربة.

(س) التي لا تجد مبررًا لضرب أباها وأخاها لها تقف عاجزة عن فهم صمت الأم، التي ذاقت ويلات العنف في صغرها.

 أما (ن) فلم تكن قد بلغت الثامنة عشر بعد حين تقدم لها الشاب العشريني، وحين ثارت أختها الكبرى، وذكرت أن هذه زيجة فاشلة لصغر سن الفتاة، وعدم توفر الوقت ليتعارفا بشكل جيد، اجتمعت نساء العائلة تنصح (ن) بعدم الاستماع لها فهي عانس قاربت الثلاثين ولم تتزوج وتغار منك، تزوجت (ن) وبعد عام ونصف حصلت على لقب مطلقة وأم لرضيع.

الحكايات متعددة وإن اختلف الفاعلون والمفعول بهم، إخصائيو علم النفس يرجعون الأمر أن ثمة مشكلات يواجها الفرد وذكريات سيئة لا يمكنه التخلص منها، وفي بعض الحالات يسعى صاحب الخبرات السيئة لإسقاط خبراته على الآخرين، حتى يذوقون ما عاش.

ذلك أننا جميعًا نمر بتجارب موجعة طيلة حياتنا، بعضها تجارب لا يفارق أثرها النفس، فتُدفن في اللاوعي، ومع مرور الوقت، يتعافى البعض من آثارها، ولكن البعض الآخر تصاحبه الخبرات السيئة بتفاصيلها ودرجة الخوف منها، وتؤثر عليه نفسيًّا لشهور وربما لسنوات عديدة، فيما يُعرف باضطراب ما بعد الصدمة PTSD، لذلك اهتمت دراسات وأبحاث علمية بالبحث في إمكانية محو الذكريات السيئة، من أجل التخفيف عن هؤلاء الموجوعين.

من الدراسات تبدو ظاهرة غير مرتبطة بجندر، بينما نلاحظ خاصة في مجتمعنا الشرقي أن النساء متقدمات في ذلك، فكثيرات مما عانين من ضغوط او مشكلات وتحاول إيقاع الأخريات بنفس الأمر، فيمكن أن تكون مطلقة وتدفع معارفها أو صديقاتها للطلاق، أو فشلت في عملها فتساهم بنصائحها في إفساد عمل أخريات وهكذا، فلماذا تضطلع النساء بإعادة تدوير الكراهية والأذى في بلادنا؟

تأسيس العنف

إننا مجتمع يتعامل غالبيته مع المرأة على اعتبار أنها غنيمة يستغلها المحيطون في كل ما ينفعهم ولا يهم المرأة نفسها، ففي التنشئة تعمد العقلية الشعبية إلى العنف لتوجيه الفتاة مكثفة في المثل الشعبي “اكسر للبنت ضلع يطلع لها 24ضلع” هذا المثل الشعبي ركيزة أساسية في الوعي القائم على العنف تجاه المرأة التي يرى فيها نبتة معوجة، كسر أحد فروعها لا يعني إلا أنه صلاح أكبر لها.

أما مثل “البنت إما جبرها أو قبرها” فهو حالة من استمرار الاجبار والعنف ضد البنات، فالكثيرون رجالًا ونساء قد يعيبون على رجل أن زوجته تُشاركه الرأي، أو أنها صاحبة قرار في البيت، ويأتي ذلك انتقاصًا من رجولته.

يؤسس الوعي الجمعي الكثير من العنف وحفر الكراهية بداخل النساء، تلك الكراهية التي لا تتمكن الكثيرات من الإفلات منها بدون مساعدة من طبيب.

اقرأ أيضا:

بعد فتاة مطروح وإسراء عماد.. أسئلة العنف ضد المرأة في مصر

الدفع نحو الخرس

فتسعى بعض النساء لتدوير ما يشعرنا به ومشاركة الآخريات نفس الأسى وتجربة الألم، فنجد امرأة تدفع وتخطط لصديقتها حتى يطالها الانكسار والحزن بأشكال مختلفة، فالفتاة التي تضمر حقدًا تجاه صديقتها تعيد إفراز ما امتصته في حياتها، أما سياسة الكتمان وتجريم أن تبوح الفتاة بما تشعر وتعبر عن أفكارها فيخلق نساء خرس، لا يتمكن من تفريغ الطاقات السلبية التي تُختزن بداخلهن منتجة نفوس مشوهة.

ربما البوح يخفف من الأضرار النفسية للإنسان الذي يعاني ضغوطًا قد تصل حد الأذى، لكن المجتمع لا يسمح للفتاة على الأخص بالكلام أو التعبير، ومن بينها التأسيس للمثل “السكوت علامة الرضا” فحتى الصمت لا يُختبر ولا يُسمح لها بالإعلان عن صوتها فالبنت المهذبة لا ترفع صوتها، وهو بالأخص يؤسس أنه على الفتاة حتى تتصف بالأخلاق ألا تنطق.

قد تعاني بعض النساء من أذى أخريات، وضرر يلحقن بهن سواء عن قصد أو عن حُسن نية، لكنه إجمالًا تُعيد المرأة تقديم خبراتها والتي تتسم بالخذلان والكثير من الكراهية التي يغرسها المحيطون بها، ومن ثم تصير صفة تميل إلى التعميم أن المرأة عدوة المرأة، وهي صفة وإن صحت في النتيجة إلا أنها نتيجة طبيعية لكل ما تُلاقيه المرأة من تعنيف وعنف وقهر حتى في أبسط حقوقها وهو البوح، ولأن اللجوء لطلب المساعدة من اختصاصيين تتطلب أن يصير الوضع مرضي، وأن تعرف المرأة حقيقة ما تشعر به، فإن هذه الخطوة قد لا تتحقق لدى الكثيرات، بينما يستمر العقل الجمعي في التأصيل للعنف ضد المرأة في سلوكياته وطريقة تنشئة الفتيات، مهما بدا مؤخرًا إقبالًا من بعض الذكور لإنجاب فتيات وتدليلهن كنوع من المحبة التي تُشير إلى ملكية أخرى، فالقبول الحالي لكون المولود أنثى لا يعني بالضرورة تنشئة نفسية سليمة.

فهل تتوقف النساء قليلًا قبل الاستماع إلى نصائح ودفع بعض النساء لهن نحو فعل شيء؟ فينبغي أن تخوض كل فتاة تجربتها بنفسها، دون أن تتحمل تبعات تجارب الآخريات، ربما يكون ذلك طريقًا للإفلات من عدوى الكراهية المتربصة في اللاوعي.