ابتسمت عندما قرأت تويت للكاتب والفيلسوف وعالم الأعصاب الأمريكي سام هاريس في مقال نشر في الأتلانتيك، قال فيه: “الإسلاموفوبيا: كلمة ابتكرها فاشيون، يستخدمها جبناء، كي يتلاعبوا بالبلهاء”.
كلمات قوية، جارحة بالأحرى، لكنها لا تضيع أي وقت في توجيه انتباهنا إلى جوهرها: التلاعب بهذا المفهوم واستغلاله.
الإسلاموفوبيا مصطلح أصبح رائجاً، يُستخدم لوقف أي نقاش جدي حول الحركات الأصولية الإسلامية السياسية، فكرها، تطرفها وأجندتها، أو حول الدين الإسلامي بصفة عامة.
في الواقع، نراها اليوم تستخدم لإسكات أي صوت ناقد للإسلام السياسي ولتشويه سمعته.
وقبل أن أشرح ما أعنيه، أود التأكيد أني لا أنكر وجود عنصرية معادية للمسلمين والمسلمات بسبب انتمائهن وانتمائهم الديني في بعض الأوساط داخل الدول الغربية. هذه العنصرية اُسميها كراهية المسلمين والمسلمات، وهي كراهية تمييزية يتعرض له الإنسان بسبب معتقداته الدينية.
ما أتحدث عنه هنا هو موضوع أخر.
حرية التعبير يجب دعمها دون تردد، أما كراهية المسلمين والمسلمات والتمييز الديني فتجب إدانتهما بلا تحفظ.
لتحري الدقة، اسمحن لي أن أذكر أن الفاشيين لم يَبتكروا هذا المصطلح.
البعض يقول إنه تم استخدامه لأول مرة من قبل رنيميد ترست ( Runnymede Trust)، وهو مركز أبحاث بريطاني يميل إلى اليسار، في تقرير نشره عام 1997 بعنوان “الإسلاموفوبيا: تحدي لنا جميعاً”. في هذا التقرير تم تعريف المصطلح على أنه نوع من “العداء للإسلام والمسلمين”، أو “طريقة مختصرة للإشارة إلى الرهاب أو الكراهية للإسلام – وبالتالي الخوف أو الكراهية لجميع المسلمين أو معظمهم”.
لكن محرر ذلك التقرير روبن ريتشاردسون يُنكر هذا “السبق” أو “الاتهام”، ويصر على أنه استخدم مصطلحا كان معروفاً من قبل. ويضيف أن أول استخدام معروف للكلمة كان بالفرنسية في عام 1910، واستخدمه ألان كويلين في كتابه بعنوان
La Politique Musulmane dans l’Afrique Occidentale Française. انتقد كويلين المستعمر الفرنسي ورؤيته لثقافات البلدان المعروفة الآن باسم بنين وبوركينا فاسو وكوت ديفوار وغيينا ومالي وموريتانيا والنيجر والسنغال.
المفكر الأمريكي الفلسطيني إدوارد سعيد كان أول من أستخدم الكلمة في اللغة الإنجليزية في عام 1985، وأشار إليها بطريقة عرضية، عندما أدان من أنتقد كتابه الاستشراق لفشله في رؤية الصلة “بين الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية”، وفهم أن “العداء تجاه الإسلام ومعاداة السامية” في التاريخ الغربي المسيحي “نشأ من نفس المصدر وتغذى على نفس التيار”.
في بريطانيا، كان الباحث البريطاني الباكستاني طارق مودود أول من أستخدم الكلمة في قراءته لكتاب سلمان رشدي، الآيات الشيطانية، وتحديداً في 16 ديسمبر 1991 في صحيفة الإندبندنت.
لم يرق الكتاب للمودود، وأنتقده نقداً حاداً، معتبرا الرواية “عملاً مرتزقاً متعمداً من أعمال الإسلاموفبيا“، مضيفاً إن المشكلة الحقيقة في هذا العمل الأدبي هو ما أسماه “بعدم الاحترام المتشدد”.
لم أندهش خلال بحثي عن تاريخ هذا المصطلح عندما وجدت إن سعيد ومودود كانا من السباقين إلى استخدامه في اللغة الإنجليزية.
فالأول كان أول من مهد لبروز لمدخل ما بعد الحداثة في الدراسات الأكاديمية، والثاني كان من المدافعين عن “حق المسلمين” في استخدام “محاكم الشريعة” في بريطانيا، مصراً على فكرة “المساواة من خلال التعددية، أي استخدام حقوق تميزية على أساس الاختلاف”. بكلمات أخرى، المسلم والمسلمة يختلفون عن البريطاني والبريطانية بسبب الهوية الدينية ويحتاجان لذلك إلى تطبيق الشريعة في حياتهما. يقول هذا وكأنه لا يدري أن الشريعة التي يرغب في تطبيقها تنتهك حقوق الإنسان، وتعامل المرأة كقاصر وتميز بينها وبين الرجل.
إذن، كما هو واضح من السرد السابق، لم يبتكر الفاشيون المصطلح، بل أكاديميون لهم ثقل واحترام. ورغم ذلك، فيمكن القول إنهم مهدوا السبيل من خلال مدخل ما بعد الحداثة، والنسبية الثقافية المرتبطة بها، لبروز الإسلاميين كمتحدثين باسم الجاليات الإسلامية المتعددة في الدول الغربية.
لن أقول إن من يستخدم هذا المصطلح جبان أو جبانة. لا. فمثل هذا القول غير صحيح ولا يتحرى الدقة أو الأمانة في الوصف.
الإسلاميون يستخدمون هذا المصطلح كثيرا لخدمة أجندتهم اليمنية السياسية الدينية المتطرفة.
لكن هناك الكثيرين والكثيرات ممن يستخدمن المصطلح بنية صافية صادقة. أشخاص من ذوي النوايا الحسنة، ممن يشعرن بقلق بالغ من اليمين المتطرف وعُنصريته ضد المسلمين والمسلمات. أنا لا أعنيهم في هذا النقاش. في الواقع، أحييهم وأحترمهن بسبب مواقفهم ومواقفهن هذه. رجوتهم فقط أن ينتبهوا إلى الطريقة التي يتم بها التلاعب بمصطلح الإسلاموفوبيا للقبول بمشروع سياسي ديني متطرف للحركات الإسلامية الأصولية، من اجل انتهاك حق إنساني عزيز، الحق في التعبير. تمنيت عليهم وعليهن أن يدافعن عن هذا الحق بنفس القوة التي يقفن بها في مواجهة اليمين المتطرف العنصري.
هذا ما أعنيه بكلمة التلاعب والاستغلال. فالإسلاموفوبيا أصبحت تستخدم بشكل منهجي لقمع وإسكات أي نقد لسلوك الإسلاميين، أجندتهم، أو قراءتهم الأصولية للدين.
هذا التلاعب والاستغلال نراه في تقارير تمولها جماعات إسلامية ودول داعمة للجماعات الإسلامية كتركيا مثلا. تلك التقارير توزع الاتهامات بالإسلاموفوبيا بالجملة. وتتعمد استخدام استراتيجية خلط البيض. البيض الجيد بالبيض الفاسد. بكلمات أخرى، فإن هذه التقارير تنتقد يمينيين متطرفين معروفين بعنصريتهم وعدائهم للمسلمين، وهؤلاء يجب بالفعل انتقادهم والتصدي لهم. ثم تخلط مع هؤلاء أسماء شخصيات معروفة من المثقفين والمثقفات والخبراء والخبيرات، والسياسيين والسياسيات ومراكز التفكير، ممن ينتقدون وينتقدن الحركات الإسلامية السياسية الأصولية والتطرف الديني في أعمالهم وكتاباتهن.
في الفصل السابع من هذا الكتاب حكيت لكما عزيزتي القارئة، عزيزي القارئ، عن سياسية سويدية مخضرمة كانت عضوة في الحزب الاشتراكي الديمقراطي. اضطرت إلى ترك موقعها في البرلمان وفي الحزب لأنها انتقدت سلوكاً غير ديمقراطي لجماعات منتسبة للإخوان المسلمين. قلت لكما إنها اضطرت إلى التوقف عن العمل السياسي. ما لم اقله لكما هو أنها حتى اليوم بعد مرور العديد من السنوات على ما حدث، تصر على عدم الكشف عن هويتها. قالت لي: لا أريد لأحفادي أن يمروا بما مر به أبنائي.
اضطرت إلى ترك موقعها المرموق لأنها حاولت أن تعقد اجتماعات لنقاش مشاكل مجتمعية في أحياء تقطنها غالبية مهاجرة مسلمة، وبالتعاون مع مجموعة من النساء ممن يعشن في هذه الأحياء، اللاتي يعانين من ضغوط وتمييز ضدهن في أحيائهن المغلقة. لكن لأن هذه الاجتماعات لم يتم تنظيمها من قبل المجموعة الإخوانية المتحكمة في المنطقة، فقد تم تعطيلها، إيقافها، وترهيب من حاول المشاركة فيها.
أعضاء هذه الجماعة الإخوانية نجحوا في إيقاف أي نقاش قبل أن يبدأ. كانوا يأتون ويعطّلون الاجتماعات: “إما ننظم هذه الاجتماعات، أو لن يتم عقد أي اجتماع”. كانت تلك هي الرسالة التي عبرت عنها أفعالهم.
ولأن هذه السياسية الإنسانة اضطرت إلى استدعاء الشرطة في احد هذه الاجتماعات بسبب ما يحدث منهم، تقدمت بشكوى إلى حزبها، الحزب الاشتراكي الديمقراطي.
كيف كانت ردة فعل الحزب الاشتراكي الديمقراطي إذن مما حدث؟ كان بإمكان الحزب النظر في هذه المشكلة وتداعياتها والاعتراف بوجود تنوع داخل المجتمعات المسلمة وأنه لا يحق لأي مجموعة احتكار العمل المجتمعي. كان بإمكانه فتح تحقيق في الموضوع. كان بإمكانه نقد هذا التصرف غير الديمقراطي.
بدلاً من ذلك، تم إلقاء اللوم بشكل مباشر عليها هي، وصَمت الحزب أمام حملة تشوية شرسة شنها الإخوان المسلمون عليها، اتهموها بأنها عنصرية ومعادية للإسلام!
والحمقى، قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، صمتوا وحذوا حذو الجماعة وأدانوا هذه السياسية المخضرمة.
وكان صمتهم مؤلماً.
فأن يهاجمها الإخوان المسلمون أمر مفهوم، أما أن يصمت زملائها وزميلاتها ممن يعرفن تاريخها في الدفاع عن الأقليات والنساء والمهمشين، فكان امرأ غير محتمل.
لكنه صمت الإسلاموفوبيا. معجون بالخوف والجبن. صمت الجبناء.
خافوا أن يُّشهر بهم كما حدث لها، فابتلعوا ألسنتهم وصمتوا.
وصمتهم جعلهم شركاء في نشر ثقافة خوف: “إما أن تصمت، أو سنلقنك درساً يصبح معلماً لغيرك”.
هذا هو الصمت الذي أعنيه.
صمت الإسلاموفوبيا.
معجون بالخوف والجبن.
صمت الجبناء.
وللحديث بقية.