دخلت ليبيا سريعًا حراك ما بعد حكومة الوفاق لقطع الطريق على أي عودة للوجوه القديمة التي حاربت خلال الأشهر الماضية على تخوم العاصمة سواء من شرق أو غرب البلا، في استجابة لمعطىً سياسي جسده اتفاق جنيف.
وبعد جولات إقليمية ودولية شملت القاهرة وباريس وبرلين ومراكش وأبو ظبي وغيرها، حطت رحال الأطراف الليبية في جنيف مطلع العام الجاري لتنتهي إلى صيغة توافقية جرى على أساسها انتخاب مجلس رئاسي وحكومة جديدة تضع حدًا لقتال كان طرفاه قوات المشير خليفة حفتر القادمة من الشرق وقوات تابعة لحكومة الوفاق آنذاك مدعومة من تركيا.
حكومة عبدالحميد الدبيبة التي تسلمت مقاليد الحكم قبل أسبوعين، تسير على خطة للوصول لانتخابات عامة بنهاية العام، يراها مراقبون مهمة “الرجل المستحيل”؛ بسبب ضيق الوقت وتشعب المتطلبات سواء تهيئة البلاد لوجيستيًا أو أمنيًا لتكون قادرة تأمين وصول المنتخبين لصناديق الاقتراع. ومن ثم حماية اختياراتهم في السلطة الجديدة التي يراد لها أن تكون آخر شيء انتقالي في البلاد.
المناصب السيادية
الاختبار الثاني للنخبة السياسية في ليبيا بدأ أمس مع تلقي ملفات المرشحين للمناصب السيادية القيادية في الدولة، وهي الخطوة التي تسبق اختيار الأسماء التي ستتولاها، وسط منافسة شرسة وعراك افتراضي حول الأسماء التي تشير المؤشرات إلى أنها ستكون ترشيحات ضخمة.
والمناصب السيادية هي: محافظ مصرف ليبيا المركزي ونائبه، ورئيس ديوان المحاسبة ووكيله، ورئيس هيئة الرقابة الإدارية ووكيله، ورئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ووكيله، ورئيس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات وعضو مجلس المفوضية.
المآخذ التي رفعت على مقتضيات اختيار السلطة التنفيذية الجديدة هي نفسها المرفوعة في وجه الاستحقاق الحالي، وهو الارتضاء بالمحاصصة والمناطقية في اختيار المرشحين للمناصب السيادية. هذا تحديدا أثير بعد جلسات حوار بين مجلسي الدولة والنواب عقدت في مدينة بوزنيقة المغربية، وتوصلت إلى اتفاق حول توزيع هذه المناصب مناطقيًا، بحيث يجرى اختيار منصبي محافظ المصرف المركزي ورئاسة هيئة الرقابة الإدارية من مرشحي إقليم برقة ومنح إقليم طرابلس مناصب المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، والنائب العام، وديوان المحاسبة، في حين يتولى إقليم فزان منصبي المحكمة العليا وهيئة مكافحة الفساد.
اختبار المحاصصة
السير قدما في تغيير الوجوه الحالية خطوة يعتبرها مراقبون إيجابية، بيد أنها فرصة لاختبار فكر المحاصصة الذي استحوذ على عقول النخبة والأطراف الليبية، وأفرز حكومة مجهولة المصير، وهو ما يجعل فرصة نسخ الطريقة نفسها القائمة على توزيع الغنائم بمثابة الدوران إلى الخلف في عملية سياسية يراها الكثيرون فرصة أخيرة للحل السياسي.
المناصب السيادية وهي رأس الدولة إنْ خُدّرت فلا أمل في إصلاح قريب، وتسييس المؤسسات الكبرى خير دليل على أن دولة بلا أنياب كمن يحرث في الماء، هكذا يطرح مراقبون للوضع في ليبيا مساوئ المحاصصة على الطاولة للتحذير من خطر اعتمادها مجددا.
المناصب السيادية وهي رأس الدولة إنْ خُدّرت فلا أمل في إصلاح قريب وتسييس المؤسسات الكبرى خير دليل على أن دولة بلا أنياب كمن يحرث في الماء
القضاء والنيابة والمؤسسات الاقتصادية والسياسية هي رأس الحربة في حرب لا يتوقع أكثر المتفائلين أن يكون أمدها قصيرًا في بلد ممزق بفعل عوامل كثيرة على رأسها فكر لا يعتمد على الكفاءة.
مع بدء تلقي طلبات الترشح فإن مئات الأسماء قد طفت على السطح جميعهم يرى في نفسه يوسفَ جديدًا يطلب أن يكون على خزائن ليبيا، وآخرون يرونها حقًا مناطقيًا لا نقاش فيه. هذا واحد من الاختبارات الصعبة أمام ليبيا الغنية بفعل الجغرافية والثروات الطبيعية، الفقيرة بفعل السياسة.
تقليم أظافر أمراء الحرب
في سياق موازٍ، يبدو أن وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية خالد التيجاني قد بدأ محاولة تقليم أظافر أمراء الحرب بإصدار قرار يقضي بإعادة هيكلة الوزارة، وهي المحاولة التي تأتي تحت بند توحيد المؤسسة الأمنية التي ستطال أيضًا الأطراف الأمنية في الشرق.
الوزير أقال كبار قادة الوزارة ومنهم على سبيل المثال محمد المداغي مساعد وكيل الوزارة للشؤون الأمنية الذي عيّنه الوزير السابق فتحي باشاغا في وقت كان الحرب يشتد بأطراف العاصمة. وكلف الوزير التيجاني قيادات جديدة بأغلب المديريات والتي شملت لأول مرة توزيعًا مبنيًا على المحاصصة بين الأقاليم الثلاثة (طرابلس وبرقة وفزان).
تفكيك الميليشيات
هذه الخطوة تفتح الباب أمام تحدٍ آخر قَبِلته الحكومة الجديدة منذ اليوم الأول لتنصيبها، وهو الذهاب بعيدًا في مسألة حل الميليشيات، خاصة في غرب ليبيا، بيد أن تلك الخطوة تحتاج وقتا يفوق الأشهر المعدودة المحددة قبل إجراء انتخابات عامة، لاسيما أن مجموعات غرب ليبيا المسلحة بعضها يعض أصابع الآخر، تقترب الأيديولوجيا بينهم وتبتعد المصالح، وهو ما يطرح السؤال: من يستطيع جمع شتات مختلط من المجموعات المسلمحة لا يحكمها رابط واحد، هم فصائل ومجموعات بأهداف وأجندات متعددة، فهذا إسلامي موغل في تطرفه وآخر يعلي خطابا يقول إنه وسطي، وآخر يحمل سلاحه بأموال أجنبية، من يجمع الأوراق المختلطة في سلة واحدة ومن ثمّ تقييد أيديها الممسكة بالسلاح.
معادلة الميليشات في غرب ليبيا، عصيّة على فهم المراقبين القريبين لكهفهم، فماذا عن سياسيين قادمين من خلفية محاصصة، هذه أم العضال في ليبيا.
دبيبة والأطراف المسلحة.. أي الطرفين في جيب صاحبه؟
أي الطرفين في جيب صاحبه؟ أو بمعنى آخر هل باستطاعة حكومة دبيبة السيطرة على المجموعات المسحلة ومن ثم تحجيم دورها وصولاً إلى نزع كامل للسلاح وحصره بيد الأجهزة الأمنية، وهو أحد مبادئ اتفاق جنيف؟ أم أن اليد الطولى للمتأبطين للبنادق يسيرون أمام حكومة لا تزال في مهدها سواء من ناحية تجربة الحكم أو تجربة الديمقراطية؟ باعتبارها مختلفة عن سابقتها التي فشلت في الحصول على ثقة مجلس النواب وهو الإجراء الذي حازته الحكومة المنبثقة عن جنيف وغيرها من جولات الحوار السياسي.
ما مقتضيات وموعد طي صفحة الميليشات، هل يسبق الاستحقاق الانتخابي المرتقب أم بعده؟ لا ضامن على حماية الديمقراطية إذا تأجل الشق الأمني، هكذا يقول المراقبون، وهو الاختبار الذي تبقى الحكومة الجديدة رهينة الفصل فيه.
هل يكون تقاسم الحكم تجربة مثالية هذه المرة، بعدما ضربت الانشقاقات حكومة الوفاق سابقة العهد، هذه واحدة من التحديات الأخرى التي من المقرر أن تعمل عليها حكومة الوحدة الوطنية، الذي يشير مضمون اسمها إلى الحفاظ على ليبيا موحدة، بمقتضيات عدم التفرقة بين المناطق في كافة تفاصيل الحكم سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، لا إقصاء ولا انفراد بقرار دون أن يكون جمعيًا.
الواضح في المشهد أن إجماعًا وطنيًا وإقليميًا يحيط بالحكومة الجديدة لدفعها في اتجاه تنفيذ أجندة تنتهي بإجراء انتخابات وفق مبدأ ديمقراطي لا غيره. هكذا تتشابه بدايات الحكومات لكن النهاية تبقى مفتوحة على سيناريوهات تحكمها الظروف الأمنية في المقام الأول
الواضح في المشهد أن إجماعًا وطنيًا وإقليميًا يحيط بالحكومة الجديدة لدفعها في اتجاه تنفيذ أجندة تنتهي بإجراء انتخابات وفق مبدأ ديمقراطي لا غيره. هكذا تتشابه بدايات الحكومات لكن النهاية تبقى مفتوحة على سيناريوهات تحكمها الظروف الأمنية في المقام الأول.
المشهد السابق هو الوجه الآخر للتشاؤم حيال المستقبل، يبدأ في التفكك مع مؤشرات ميدانية تمهد الطريق لاستقرار دائم، من بينها عودة سفارات غربية للعاصمة طرابلس، وإطلاق سراح عسكريين تابعين لقوات شرق ليبيا احتجزتهم قوات غرب البلاد في خضم المواجهات الأخيرة، ثم سباق دولي وإقليمي على الفوز بنصيب من كعكة إعادة الإعمار.
انفتاح دولي.. عودة سفارتي فرنسا واليونان والصين
بدت المواقف الدولية منفتحة أكثر على الإيمان باستقرار أمني في ليبيا، حيث علنت الحكومة اليونانية اليوم الخميس أن رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس سيزور ليبيا الثلاثاء المقبل ويعيد فتح السفارة اليونانية المغلقة منذ 6 أعوام في طرابلس.
وأغلقت السفارة اليونانية في طرابلس في يوليو 2014 حين قامت فرقاطة تابعة للبحرية اليوناني بإجلاء حوالى 200 يوناني وأجانب آخرين من البلد الذي كان يشهد فوضى آنذاك. وفي دليل آخر على تحسن الوضع، أعادت فرنسا في 29 مارس فتح سفارتها في العاصمة الليبية بعد إغلاقها عام 2014 لدواع أمنية.
دبيبة يتحدث عن توحيد 80% من مؤسسات ليبيا خلال أسبوعين
أما الحكومة الجديدة التي تتجسد مهمتها في توحيد مؤسسات الدولة والإشراف على المرحلة الانتقالية إلى حين حلول الانتخابات المرتقبة في 24 ديسمبر، فيقول رئيسها عبد الحميد دبيبة إن 80% من مؤسسات ليبيا توحدت فى أقل من شهر.
وأضاف دبيبة فى حوار مع صحيفة “كورييرى ديلا سيرا” الإيطالية، أن من بين المؤسسات التى توحدت فعلا الحكومة والبرلمان والبنك المركزى، ووكالة الطاقة وكذلك الوزارات المختلفة، متحدثا عن العمل للانتهاء من إعداد الدستور الجديد ووضع قانون الانتخابات.
إطلاق 120 أسيرًا من قوات شرق ليبيا
مؤشر آخر على هدو عسكري يسود البلتد، أطلقت السلطات في مدينة الزاوية غرب ليبيا، تسيطر عليها قوات موالية للإسلاميين، سراح 120 عنصرًا من قوات شرق ليبيا التي أسرتها قبل عامين.
أشرف على عملية الإفراج نائب رئيس المجلس الرئاسي عبد الله اللافي، الذي أطلق رسائل من هناك بقوله إن الإفراج مبادرة لـ”الصلح والتسامح” الهادفة إلى مضي الليبيين قدما في “المصالحة الوطنية”.
سباق إعادة الإعمار
المؤشر الآخر الأبرز على عودة الاستقرار تدريجيا يتمثل في بدء التنافس بين عدد من الدول والمؤسسات الدولية على مشروعات إعادة الإعماروالتي بدأتها روسيا والصين وإيطاليا.
في هذا الإطار قال القائم بأعمال سفارة الصين لدى ليبيا وانغ تشيمين إن بلاده تدرس عودة العمل في سفارتها بطرابلس قريبا، مؤكدا أن الشركات الصينية تستعد للعودة إلى ليبيا.