لو كنت ممن أسعدهم الحظ – أو أتعسهم – بمشاهدة المسلسل التلفزيوني الألماني المعقد والكئيب “ظلام” ( Dark)، فإن فكرة “العود الأبدي” ليست غريبة عليك، وهي باختصار تكرار كل ما يجري معك وحولك، الماضي والحاضر والمستقبل، إلى الأبد. كل ما حدث وسوف يحدث محكوم عليه بأن يُعاد إلى مالانهاية، كل ما تتصوره جديدا هو ليس كذلك بل حدث من قبل وسيحدث مجددا، كل فكرة فكرت فيها وكل فعل أقدمت عليه، كل انتصار وهزيمة وصواب وخطأ وحب وأسى وفرح وحزن وخذلان وميلاد وموت، كلها نسخة واحدة يعاد طبعها مرارا وتكرارا، وأنت لست إلا المسار الذي تمشي فيه هذه الأحداث لتنسخ نفسها مرة بعد مرة.
في المسلسل “Dark” تتكرر الأحداث كل فترة زمنية قصيرة للغاية مقدارها ثلاثة وثلاثين عاما، هذا مفهوم لدواعي الدراما، أما الفكرة الأصلية التي صاغها نيتشه، مستندا إلى أصول في بعض الحضارات القديمة، فهي تتناول زمن الكون نفسه، لو فكرت فيها على هذا النحو فلن تجدها بهذه الغرابة، فإذا كان الكون قد نشأ من انفجار عظيم من نقطة متناهية الصغر قبل 13 مليار سنة، وإذا كان الكون لا يزال يتمدد بفعل قوة هذا الانفجار، وإذا كان يمكن بعد نهاية هذا التمدد أن يعود إلى التقلص إلى النقطة الصغيرة نفسها، فلا شيء يمنع انفجاره على نفس النحو مجددا، بالطريقة ذاتها، صانعًا الأجرام والمجرات نفسها بقوانينه الفيزائية الصارمة، فتنشأ فيه الحياة مجددا من نفس الخلية، وتتطور على النحو نفسه، لنعيش كل شيء من جديد. في الواقع، لا شيء ينفي أن يكون ذلك قد وقع من قبل، أو أنه حتما سوف يقع من بعد.
لكننا في حياتنا اليومية، وعلى طريقة المسلسل الألماني، نتعامل مع فترات زمنية قصيرة للغاية من عمر الكون، ربما أقصر من أن يلاحظها الكون نفسه، ربما لهذا نطلق أيضا على حوادثنا اسم “المسلسل”، فنقول مسلسل حوادث الطرق، مسلسل قتل الزوجات أو الأزواج، وبالطبع، مسلسل حوادث القطارات، وهو الأكثر ألمًا، فعلى غرار المثل الشعبي عن النمل وخفّ الجمل، فإن حادثة القطار من طبيعتها أنها تحصد الضحايا بالعشرات، وللأسف فإنها تتكرر في مدى زمني أقل كثيرا، إنها لا تمهلنا الأعوام الثلاثة والثلاثين التي تنتظرها في مسلسل Dark.
اقرأ أيضًا.. نوال السعداوي.. رحيل “غير المعتذرة”
لكنك ولا شك مع كل حادثة قطار جديدة تشعر بذلك “العود الأبدي” حتى وإن لم تكن سمعت عنه، فتسمع من جديد كلمات “المزلقان” و”السيمافور” والفرامل ومساعد السائق وبرج المراقبة، تسمع عن التحقيقات وتحليل المخدرات وقرار الحبس الاحتياطي، تسمع عن التعويضات والتأمينات والمعونات وطابور المواطنين المتبرعين بالدماء في مراكز الصحة، تسمع عن عربات الإسعاف والمطافىء وجهود قوات الدفاع المدني وأهالي المنطقة، تسمع عن المحاسبة والعقاب وتغيير الوزير أو مدير الهيئة أو رئيس القطار، تسمع الكلمات نفسها فتختلط عليك الحوادث والسنوات ووجوه الضحايا وخطوط القطارات.
ثم تسمع النقاش نفسه عن تطوير السكة الحديد والمبالغ التي كان يمكنها إنفاقها هنا لكنها أنفقت هناك، عن استيراد القطارات الأسباني بدلا من الفرنساوي أو الصيني بدلا من الياباني، وتشعر بأن كل ذلك لا يغير شيئًا، ولا نقول بأنك “تشعر” بأنك عشت هذا كله لأنك بالفعل قد عشته كله. لكنك هذه المرة قد تفكر بأن هناك ما هو أهم من كل ما سبق، أو ما يقع وراءه كل ذلك، وهو قيمة الحياة نفسها.
وليس المقصود هنا قيمة حياة الفقراء مقابل الأغنياء، فهذه – للأسف الشديد – من حقائق المجتمع الطبقي، لكن المقصود هو قيمة الحياة عموما في مقابل الموت، القدسية الغائبة لحياة يعتبرها المجتمع المتدين بطبعه مجرد ممر إلى العالم الآخر، فإذا به يُهملها بوعي أو بغير وعي، ويكمن هذا الإهمال في كافة تفاصيل الحياة، قد تعثر على هذا الإهمال في مستشفى استثماري ضخم أو في عيادة محلية صغيرة، في فندق خمسة نجوم أو مطبخ مطعم شعبي.
ليس غريبا إذًا أن هناك كتابًا هائلًا اسمه “الشهادة” تضاف إليه صفحات جديدة مع كل حادثة، فتجد الأسئلة التي تشغل الناس: هل الغريق شهيد؟ هل ضحية الحريق شهيد؟ المبطون؟ المبتلى؟ ثم أخيرًا؛ هل ضحية فيروس كورونا شهيد؟
قد تبدو فكرة “العود الأبدي” كئيبة لأنها توحي بحتمية المسار، لكن ما يخفف منها هو جهلنا بذلك المسار، فمن قال أن مسارنا المحتوم هو الفشل؟ لماذا لا نكون من الأمم التي حولت هزيمتها انتصارا وتراجعها تقدما؟ إننا لن نعرف الحقيقة قبل موعدها، لكن الأكيد أن الحياة لا تعطي نفسها لمن ينشغل بالموت بأكثر.