هناك إرهاب معولم قد يضرب في أي مكان من العالم، وهناك في المقابل حرب عالمية على الإرهاب تشتعل بمقدار وتنطفئ بمقدار، وقد اصطلح عليها البعض بالحرب العالمية الرابعة، على اعتبار أن الحرب العالمية الثالثة هي الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي إبان النصف الثاني من القرن العشرين.
لا شك أن تاريخ البشرية مليء بالحروب، بيد أن هناك معطى جديد اليوم: في تاريخ الحروب كان كل طرف من الأطراف المتحاربة يعتبر انتصاره مجرّد وسيلة لأجل تحقيق السلام الذي هو الغاية والمنى، لكننا اليوم نجد أنفسنا أمام مقاتلين يعتبرون الموت غاية في ذاته ! فقد ورد في أدبيات الإخوان المسلمين شعار شهير يقول، “الموت في سبيل الله أسمى أمانينا”.
وطالما الأمر متعلق بالجماعة الأم لفصائل الإسلام السياسي كافة، لم يعد الموت “في سبيل الله” عند هذه الفصائل مجرّد وسيلة لغاية أخرى من الغايات الدنيوية كما هو حال سائر الإيديولوجيات القتالية، بل أصبح الموت غاية في ذاته: الموت من أجل الموت !
انطلاقا من هذا المنظور، ستبدو حالة الاستنفار والجاهزية للقتال “في سبيل الله” كأنها تمثل الحالة الطبيعية للإنسان المسلم، وبناء عليه لا غرابة أن تتسم مجمل مفاهيم الإسلام السياسي بالطابع العسكري، من قبيل مفاهيم اللواء، الجماعة، البنيان، البيعة، الاحتراب، التدافع، الغزوات، الولاء، الشهادة، الجهاد، التمكين، وغيرها.
يبقى السؤال، إذا كانت المفاوضات والتسويات هي الأفق الممكن للحل السياسي لأي حرب كيفما كانت شدّتها، ومهما بلغت ضراوتها، فهل في الإمكان إجراء مفاوضات مع طرف يعتبر القتال هو الحالة الطبيعية للإنسان؟ وكما يفسر ذلك عبد السلام فرج، فإن “كتب عليكم القتال” تُفهم قياسا على “كتب عليكم الصيام”، كلاهما فرض عين على الإنسان المسلم.
حين يكون القتال هو الوضع “الطبيعي” يصبح السلام مجرّد هدنة “استثنائية” حتى ولو استغرقت سنوات طويلة، والمحصلة أن الأفق الوحيد لأي تسوية سياسية ممكنة مع الإرهاب المعولم سيكون هو الهدنة غير المعلنة، على أمل أن يتكفل الزمن بتغيير القناعات!
اقرأ أيضًا.. لماذا أنتم مشلولون أمام إرهاب يسيء لدينكم؟!
فهل ستكون القوى الأساسية في العالم مستعدة لهدنة غير معلنة تضمن غض الطرف عن تصريف الأيديولوجيا القتالية داخل بعض مناطق التوتر مقابل الأمن في مناطق أخرى، ولو إلى حين؟ هل سنشهد تسويات غير معلنة، ومكلفة في النهاية، لا سيما بالنظر إلى ضعف التنسيق الدولي؟
لدينا ما يكفي من الأمثلة، من بينها المثال التالي:
لعل رغبة بعض الدول الغربية، ومعها بعض الدول العربية، في التخلص من نظام بشار الأسد قد ضمنت لتنظيم داعش في بداية الأزمة نوعا من الهدنة غير المعلنة قبل أن تتداعى الهدنة إلى الانهيار المدوي، والذي كان متوقعا منذ البداية لكل من يملك حسا سليما. وفي النهاية قد يكون رهان تنظيم داعش وأشباهه هو العودة إلى هدنة غير معلنة وطويلة الأمد هذه المرة، أو لعلها تتجدد تبعا للضرورات التي تبيح المحظورات. فهل سيتحقق هذا الرهان، أم لا بديل عن مواصلة الحرب على الجبهات كافة؟
لا يمكن إعلان النصر قبل نهاية الحرب، غير أن الحرب لم تنته بعد. ومن يستبق الأحداث متحدثا عن الانتصار على الإرهاب، بسبب بعض التفاصيل الجزئية، فهو -على افتراض حسن النوايا- مجانب للصواب. الهاربون من داعش كثيرون، العائدون منها كثيرون، لكن المجندين كثيرون أيضا، وبؤر التوتر لا تزال مرشحة لمزيد من الاشتعال لا سيما في الصحاري الكبرى، وأبرز الشيوخ المسؤولين عن تجنيد الشباب الذاهب إلى جبهات القتال أو العائد منها لا يزالون يصولون ويجولون في مختلف عواصم البلاد الإسلامية.
ما الذي يحدث؟
مجمل الأمر أن إنجازات أمنية هنا قد تقابلها إخفاقات أمنية هناك، وأن بعض الإنجازات الثقافية هنا –وهي متواضعة في آخر التحليل- قد تقابلها نكسات ثقافية هناك، وأن مناطق جديدة مرشحة لأن تصبح بؤرا للتوتر، وأن الصحاري الكبرى قد تكون هي الأكثر ترشحا لاحتضان قلاع الجهاديين الجدد، من ضمنها منطقة الصحراء الكبرى الممتدة بين موريتانيا ومالي والنيجر وتشاد، وربما أبعد من ذلك قليلا أو كثيرا.
عموما، لا وجود لوصفة سحرية لأجل حسم الحرب على الإرهاب بنحو نهائي وحاسم، هذا مؤكد، لكن هل يمكننا أن نراهن على تقديم بعض التنازلات كما تتوهم بعض السلطات في عديد من دول العالم الإسلامي؟ هذا هو السؤال الأهم الآن.
لكن، ما المطلوب؟
البرامج المطلوبة كبيرة، والمشاريع المنتظرة كثيرة، لكن المؤكد في كل الأحوال أن التطرف مثل نار جهنم التي كلما أعطيتها توقدت واشتدّت ثم قالت: هل من مزيد؟ إنه درس أنور السادات، درس السعودية، درس السودان، وربما الدرس نفسه في كل مكان.
أما بعد، هل في وسعنا إجراء تقييم أولي أو مرحلي لحرب لا يبدو أنها ستنتهي في الأجل القريب؟
ثمة ثلاث ثغرات كبرى:
أولا، لعل المجتمعات الإسلامية التي تمثل البيئة الحاضنة للإرهاب المعولم، وهي معنية بمحاربة الإرهاب، غير جاهزة كما ينبغي وبما يكفي، أو ليس بعد. وتتمثل عدم الجاهزية في ثلاثة مستويات وهي، (أ) غياب خطاب ديني إصلاحي واضح وقادر على إزاحة خطاب الكراهية والتهييج، (ب) ضعف دولة الحق والقانون باعتبارها الأداة الأساسية لكسب الحرب على الفتنة والتطرّف، (ج) ضعف مستوى الحريات الفردية وتدهور قدرات المجتمع المدني.
ثانيا، غلبة الطابع الانفعالي الغوغائي على الخطاب الديني السائد، مع تهييج متواصل للانفعالات السلبية وغرائز الانحطاط من قبيل انفعالات الكراهية والغيرة والحمية والنصرة والغضب والذنب، وهي المشاعر التي تشل قدرة الإنسان على التفكير والفرح والحياة. في المقابل، لا تقيس السلطات الحاكمة وسطية الخطاب الديني سوى بمقياس واحد: الموقف من الحاكم. وهو مقياس صوري ومخادع كما تؤكد معظم التجارب.
ثالثا، لا شكّ أنّ قوانين المجتمعات الأوروبية في مسائل الأمن والجريمة والعقاب ونحو ذلك، تتناسب مع مستوى تطور ثقافة الحرية والمسؤولية والالتزام داخل المجتمعات الحديثة، ذلك التطور هو المنحى العام لروح الحداثة السياسية في آخر المطاف، غير أن هذه الرّوح لا تتناغم مع بعض الخطابات الدينية لدينا والتي تراهن على قيم التقية والبراء والتستر والكتمان. هنا بالذّات يكمن سوء التفاهم الثقافي الكبير بين قوانين الغرب ومفاهيم عدد من المسلمين الذين يعيشون داخل المجتمعات الغربية، ما يجعل من إصلاح الإسلام داخل المجتمعات الغربية الحديثة أولوية قصوى.
عدم استحضار تلك الثغرات معناه أن الحرب على التطرف الديني قد تستغرق زمنا طويلا.
الطامة الكبرى –لكي لا ننسى- أننا نوشك أن نشهد طفرة جديدة في مجال أسلحة الدمار الشامل، الذكية، والقابلة للاستعمال الفردي أو ضمن مجموعات عمل بدائية. وهذا أخشى ما يجب علينا أن نخشاه.