تخضع دبلوماسية مصر والسودان وأثيوبيا لاختبار يبدو الأخير بشأن أزمة سد النهضة، على خلفية تصريحات وزير الخارجية المصري سامح شكري، الذي وضع أديس أبابا أمام موقف لا يحتمل المماطلة، إما تتراجع عن التعنت أو الذهاب إلى صدام. وذلك بعد عشر سنوات من التفاوض ومحاولة إيجاد حلول فنية وقانونية تقلل الآثار المخاطر المحتملة على إمدادات المياه لمصر والسودان.
الجولة الحالية لا تقرأ على أساس تفاوضي فني، بقدر ما هي تفاوض على تأجيل الملء الثاني للسد إلى حين الاتفاق على النقاط الفنية العالقة، وهو ما ترفضه أثيوبيا وتقول إنها ماضية في عملية الملء تحت أي ظروف في يوليو وأغسطس المقبلين.
وخلال يومين اجتمع ممثلو البلدان الثلاثة في عاصمة الكونغو الديمقراطية كينشاسا برعاية الاتحاد الأفريقي من دون الآلية الرباعية الدولية التي طلبتها مصر والسودان لتوسيع دائرة المراقبين لتشمل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للقيام بدور الوساطة واقتراح الحلول بدلاً من مجرد مراقبين في محاولة لتسهيل عملية التفاوض وفك الجمود بين مواقف الدول الثلاثة.
المواقف الثلاثية
ووسط الآمال المعلقة على الاجتماع في الخروج بحل توافقي، فإن مصر والسودان متمسكتان بضرورة تأجيل الملء إلى حين التوصل لاتفاق شامل ومتكامل بآلية قانونية تكون بمثابة معاهدة تلزم إثيوبيا بعدة إجراءات تقلل من الآثار المحتملة للسد خلال مراحل الملء والتشغيل على حد سواء.
لكن أثيوبيا لا تزال ترفض الذهاب بعيدًا في مفاوضات ذات أطراف دولية تكون نتائجها قانونية، وهو ما يضع المفاوضات التي دخلت يومها الثالث في مأزق، بانتظار مفاجأة لتدارك الجنوح لأي مواجهات قد تكون نتائجها وخيمة على المنطقة، وفقًا لتصريحات سابقة للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
وفي كلمته بالجلسة الافتتاحية للمفاوضات قال وزير الخارجية سامح شكري إن “مصر تفاوضت على مدار عشر سنوات بإرادة سياسية صادقة من أجل التوصل لاتفاق يحقق لإثيوبيا أهدافها التنموية ويحفظ في الوقت ذاته حقوق ومصالح دولتي المصب”، مؤكداً أنه “إذا توافرت الإرادة السياسية والنوايا الحسنة لدى كل الأطراف، فإنه سيكون بوسعنا أن نصل للاتفاق المنشود الذي سيفتح آفاق رحبة للتعاون والتكامل بين دول المنطقة وشعوبه”.
لا قبول لاتفاق جزئي
وترى القاهرة أن القبول بأي اتفاق جزئي لتمرير الملء الأول سيضر بالموقف القانوني لمصر والسودان وسيعطي إثيوبيا فرصًا للمناورة السياسية في أي أمور أخرى تتعلق بالمراحل المقبلة، وهو ما يعزز الموقف المصري بأهمية التوصل لاتفاق قانوني شامل وملزم في أعقاب الاجتماع الحالي.
ورغم الرفض الإثيوبي لفكرة الرباعية الدولية للوساطة والمراقبة على عملية التفاوض، إلا أن الموقف المصري والسودان لا يزال متمسك بهذا الشرط، لإنجاح أي مفاوضات مقبلة وعدم الخروج عن الأهداف الرئيسية للتفاوض.
وأكدت مصادر على اطلاع بالاجتماع الجاري في كينشاسا أن مصر طالبت بأهمية مشاركة خبراء وشركاء دوليين وتوسيع دورهم من أجل الفصل بين النزاعات المتوقعة بين الخبراء والمفاوضيين المحليين كما حدث في اجتماعات واشنطن العام الماضي.
ورغم وضوح الرؤية المصرية والسودانية إلا أن تصريحات المسؤولين الإثيوبيين تكشف عن استمرار سياسات أديس أبابا في إدارة الأزمة، وهو إتمام عملية الملء الثاني في موعدها سواء جرى التوصل لاتفاق من عدمه، وهو ما يقلل من فرص الاجتماع الحالي.
كان وزير المياه والطاقة الاثيوبي، سيلاشي بيكيلي، قال في تدوينه على موقع “تويتر” قبيل بدأ الاجتماع إن بلاده تبذل جهودًا مضاعفة لبدء توليد الطاقة من سد النهضة أغسطس المقبل، بعد إتمام الملء الثاني لبحيرة السد.
منهجية التفاوض
أما منهجية المفاوضات فلا تزال سببًا للخلاف قبل أن تبدأ المباحثات الفعلية عل المستوى الفني أو القانوني لحسم البنود الخلافية التي نوقشت خلال الجولات الماضية تحت رعاية الاتحاد الأفريقي.
واقتصرت المباحثات التي امتدت لساعات طويلة منذ أمس الأحد في العاصمة الكونغولية على الخروج بتوافق حول منهجية التفاوض وخارطة الطريق بتوقيتات محددة وملزمة لحسم كافة البنود الفنية والقانونية العالقة من خلال وسطاء دوليين. بينما لم يقدم الجانب الكونغولي الذي يرعى المفاوضات أي مقترحات فاعلة حتى الآن لحسم اختلاف الرؤى حول منهجية المفاوضات.
وكان رئيس الكونغو الديمقراطية، فيلكس تشسيكيدي، أكد خلال افتتاح الاجتماعات أن لدى الدول الثلاث عزيمة لإنهاء الخلاف، مطالباً بتحويل ذلك الخلاف إلى فرصة للتقارب.
وأوضحت مصادر أن الاجتماعات التي عقدت أمس على المستوى الوزاري اقتصرت على عرض مواقف كل دولة، من دون بحث أي مقترحات للتوفيق بين مواقف الدول المتباينة.
وعقب الجلسة الافتتاحية عقدت جلسات منفردة للوفود الثلاثة مع المراقبين وممثلين الجهات الدولية. كما اجتمع وزيري الخارجية والمياه المصريين برئيس الكونغو لتسليم رسالة من الرئيس السيسي تؤكد حرص مصر على حل الخلافات العالقة مع إثيوبيا بالحوار وفق مبادئ الثقة المتبادلة وحسن النية.
سياسة إضاعة الوقت
ويرى مراقبون أن سير الاجتماعات منذ أمس يدخل في إطار مسلسل يهدف لإضاعة الوقت الذي تنتهجه أثيوبيا منذ بداية المفاوضات خاصة بعد التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ في مارس 2015، وذلك من أجل فرض الأمر الواقع وتمرير الملء الثاني والوفاء بالعهود التي قطعتها إدارة رئيس الوزراء أبي أحمد للشعب الإثيوبي بإتمام الملء في موعده وتوليد الطاقة مع قرب موعد انعقاد الانتخابات في أثيوبيا.
كان المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية دينا مفتي قد أثار في تصريحات مع قناة “الجزيرة” أمس الأول قضية بيع المياه خارج حوض نهر النيل، إذ أكد أن بلاده لا تمانع بيع المياه بشكل مباشر خارج أثيوبيا حال الانتهاء من تشييد سد النهضة وتشغيله، إلا أنه تراجع عنها وحاول تصحيح حديثه بالقول إن بلاده لا تمتلك فائض من المياه لتبيعه.
https://twitter.com/Eslll7970Gladii/status/1379035123115556871?s=20
ومن جانبه اتهم وزير الري السوداني، ياسر عباس، عبر بيان نشرته وزارة الخارجية السوداني، الجانب الإثيوبي برفع سقف التصعيد إلى المطالبة ببحث تقاسم مياه النيل، مطالباً بأهمية التوصل إلى اتفاق بين الدول الثلاث قبل التعبئة الثانية لسد النهضة الإثيوبي.
انتظار مفاجأة اللحظات الأخيرة
التقارير القادمة من كينشاسا تشير إلى إحباط يحيط بالجولة الحالية، غير أن الأمل لا يزال معقودًا على تدخل اللحظات الأخيرة للتوافق على خارطة طريق ومحددات جديدة للتفاوض لحسم بنود الاتفاقية الملزمة والشاملة خلال الأشهر القليلة المقبلة، قبيل أي اجراءات إثيوبية تتعلق بالملء الثاني.
ويرجع مراقبون سبب تقليل فرص نجاح هذه الجولة إلى ارتفاع حدة تصريحات الدول الثلاث واستمرار التعنت الإثيوبي في إتمام عملية الملء الثاني للسد دون الاكتراث بأهمية التوقيع على اتفاق مع مصر والسودان.
رغم ذلك تبقى الآمال معلقة على إمكانية حدوث اختراق في اللحظات الأخيرة، خاصة على صعيد ممارسة ضغوط دولية على أثيوبيا للتراجع عن موقفها التفاوضي المتشدد.