لقطات ست تظهرها أحدث استطلاعات رأي الجمهور المصري في سنة 2020:
1- 85% من المصريين يرون في الإصلاح الاقتصادي والسياسي أهمية أكثر حاليًا من أي قضية تتعلق بالسياسة الخارجية؛ فثلث الشعب “يوافق بشدة” على ذلك. وتتوافق هذه النسب إلى حدّ ما مع نتائج السنوات الفائتة.
2- يعتبر ثلاثة أرباع المصريين أن حكومتهم “لا تبذل ما يكفي من الجهد” بهدف “تأمين الرعاية الصحية والطبية”.
3- إن التأييد الشعبي لمسألة “التطبيع” مع إسرائيل منخفض جدًا. فأولئك الذين يوافقون على أنه “يجب السماح للأشخاص الذين يرغبون في إقامة علاقات تجارية أو رياضية مع الإسرائيليين” لا تتجاوز نسبتهم 6%. وبالمقابل، فإن نصف الشعب المصري “يعارض بشدة” هذا الكلام، وربع المصريين فقط يؤيدون “اتفاقات أبراهام” مع إسرائيل؛ مع أن مصر كانت أول دولة عربية تقيم علاقات دبلوماسية معها، وتظهر نتائج الاستطلاع استياءً واسع النطاق من اتفاقيات السلام الأخيرة بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين -أو من احتمال ازدياد التعامل المصري مع الإسرائيليين؛ فالأغلبية (67%) رفضتها.
4- يعبر ثلاثة أرباع المصريين عن أنه “لحلّ خلافاتنا مع قطر، يجب على الطرفين تقديم تنازلات من أجل التوصل إلى اتفاق”. وهذه النسبة المرتفعة مماثلة لتلك التي تم تسجيلها في استطلاع العام 2017، بعدما نشب النزاع مباشرةً.
يختلف الأمر تمامًا في ما يتعلق بسوريا، فإن 10% فقط من المصريين يوافقون على ما يلي: “يجب أن نقبل حقيقة أن بشار الأسد سيبقى حاكمًا في سوريا ونعيد العلاقات الكاملة مع حكومته”.
5- انقسمت الآراء بشكل غير متوقع حول تركيا، حيث تقول الأغلبية (58٪) إن العلاقات الجيدة مع تركيا ليست مهمة بالنسبة لمصر. لكن أقلية كبيرة (39٪) من المصريين لا توافق على ذلك. ووصفت العلاقات الجيدة مع أنقرة على الأقل بأنها “مهمة إلى حد ما” لبلدهم.
6- 68% يعتبرون أن الحكومة المصرية لا تبذل الجهد الكافي في موضوع “الاهتمام بالرأي العام بشأن سياساتها”.
هذا غيض من فيض تدلنا عليه دراسات الرأي العام المصري والعربي، الذي ازداد الاهتمام به بشكل متصاعد منذ انتفاضات الربيع العربي 2010/2011؛ فقد فاجأ اندلاعها قبل عقد من الزمن معظم العالم -بما في ذلك العرب أنفسهم- بشكل شبه كامل.
ولكن بمجرد حدوث ذلك، بدأ الجميع في إيلاء اهتمام جديد لقضية الرأي العام العربي الأساسية. إلا أن المهملة منذ فترة طويلة، حيث لم تكن هذه هي المرة الأولى التي نفاجأ فيها بانفجار في “الشارع العربي”.
بعد عقد تقريبًا اندلعت الموجة الثانية من الربيع العربي، فهل توقعت استطلاعات الرأي ذلك أيضًا؟ لسوء الحظ، لا، لأن حكومتي السودان والجزائر لم تسمحا تقريبًا بإجراء اقتراع سياسي جاد، سواء من قبل خبراء داخليين أو خارجيين.
يطلق جون بولوك-أحد أهم خبراء استطلاعات الرأي في المنطقة مقولته: “حيث لا يمكنك قياس الرأي العام ، لا يهم كثيرًا (قياسه) – حتى الثورة! ويحذرنا أو يقدم لنا نصيحة عملية واحدة:” احذر من الأماكن التي لا توجد فيها انتخابات سياسية حقيقية!”.
من وجهة نظر سياسية؛ الرأي العام المصري قابل للقياس، وهو مهم؛ إنه بالتأكيد ليس دليلاً مثاليًا، لا للتنبؤ ولا للتداول السياسي. لكن من الواضح أن استطلاعات الرأي يمكن أن تساعد في توضيح أين وكيف ومتي تختمر العواصف السياسية، وبنفس القدر من الأهمية، مناطق الهدوء المحتمل استمرارها. كما يمكنه المساعدة في تحديد فرص السياسة؛ فالهدف المركزي هو في إبقاء إصبعك على نبض الرأي العام من أجل المساهمة المنهجية في السياسات الرسمية؛ وليس مجرد التواصل لتعزيز تلك السياسات بعد وقوعها.
وأخيرًا؛ فإن من شأن مثل هذه الاعتبارات أن تعزز فهمنا لمكان وزمان احتمال حدوث الربيع العربي القادم؛ نعلم أنه حتى اليوم ، لا يزال حوالي نصف الجمهور العربي الذي شملهم استطلاع معهد واشنطن يبدون بعض التعاطف مع الاحتجاجات الشعبية الجماهيرية، خاصة فيما يتعلق بالفساد.
ويصبح هنا التساؤل مشروعًا: هل فقد المصريون بعد هذه السنوات، وبعدما رأوا مصير البلدان الأخري من حولهم إيمانهم بالاحتجاجات ودورها؟
مقارنةً باستياء الأغلبية المصرية من سياسات حكومتها في الآونة الأخيرة؛ فإن الآراء تنقسم حول ذلك: يعتبر 42% من المستطلعين أنه “من الجيد أن شوارعنا لا تشهد الآن مظاهرات كما في بعض البلدان العربية الأخرى”. ولكن ما يثير الدهشة أن نسبة الذين يعارضون هذا الرأي مرتفعة وتبلغ 54%.
وفي الوقت نفسه، توافق غالبية ضيقة تبلغ نسبتها 54% على الفكرة التالية أيضًا: “عندما أفكر في ما يحدث في اليمن أو سوريا، أشعر بأن وضعنا ليس سيئًا جدًا”،ولا يتوقع سوى الثلث أي نتائج إيجابية من “الاحتجاجات المناهضة للحكومة في العراق ولبنان”.
ولكن ماذا يمكن أن يقول المصريون حول المشاريع الضخمة التي تجري الآن: هل تفشل أم تنجح في الوفاء بوعود الساسة الذين يقفون وراءها؟
لا يمكن أن نقدم إجابة عن هذا السؤال لأن استطلاعات الرأي لم تختبره بعد. كما أن غياب مجال عام تعددي حر يمكن أن تناقش فيه هذه الموضوعات بجدية يفاقم الحيرة. إلا أن الأهم من وجهة نظري هو قدرة الدولة المصرية بحكم خبرتها التاريخية المتراكمة أن تتحرر من ازدرائها لفكرة الرأي العام وأهميته في صنع السياسة.
في علاقة الدولة المصرية الحديثة بجمهورها هناك عدد من الملاحظات الجديرة بالتوقف أمامها لأنها بمثابة المنظور الذي يحكم علاقتها بمجتمعها:
1- ظهرت الدولة الحديثة المركزية في مصر كما جسدتها خبرة محمد علي ١٨٠٥-١٨٤٠ منعزلة عن الجماعة -كما يري خالد فهمي في كتابه “كل رجال الباشا”-مفروضة عليها من أعلى، وخارجية عنها؛ أي أنها دولة “مفارِقة” -بتعبير طارق البشري-بالمعني الفلسفي للفظ “مفارق”، أو مستوردة بتعبير برتران بادي ،وهي منفصلة عن الأطر المرجعية السائدة في المجتمع والمكونة للجماعات البشرية والحاكمة للعلاقات والمعاملات، وصارت مهمتها التبشير بمرجعية جديدة، والأهم من ذلك أن الدولة لم تعد تستمد شرعيتها من المجتمع، ولكنها صارت هي ذاتها مصدر الشرعية، ولم تعد محكومة بشرعية وأطر مستمدة من نسق فلسفي أو فكري عقدي يعبر عن المجتمع ؛وإنما صارت هي الحاكمة للشرعية، وصار القانون من حيث هو إجراءات تصدر بها الأحكام والنظم هو المعبر عن الشرعية التي هي إرادة الدولة، وما تقوله الدولة هو الإطار المرجعي ذاته الذي يخلق القيم، وينشئ نموذج العلاقات؛ وسيطرت بذلك على الفكر والثقافة وصناعة العقول بدلاً من أن تكون نتاج لها.
2- هناك نزوع دائم ومستمر منذ محمد علي للهيمنة علي المجتمع بجميع الأشكال والصور، وهناك نظرة ريبة وتشكك إلى أية فاعلية مجتمعية تنشأ مستقلة عن أجهزة الدولة الرسمية، ويصبح هدف هذه الأجهزة هو مصادرة هذا الاستقلال والقضاء عليه بمجموعة من السياسات والقوانين والاجراءات التي تحد من فاعليتها أولاً، فإن لم يؤت ذلك أكله يصبح المطروح هو نزع الشرعية القانونية عن هذا الكيان تمهيدًا لاستخدام القمع ضده، ودون نظر إلي حجم شرعيته المجتمعية التي لا تتأتي من الدولة وإنما نتاج قيامه ببعض الأدوار لصالح المجتمع.
3- نحن بازاء تناقض جوهري في الدولة المصرية منذ التسعينيات من القرن الماضي؛ حين انسحبت عن كثير من المهام التي اضطلعت بها بعد 52 تحت دعاوى التحرر الاقتصادي وبرامج إعادة التكيف الهيكلي، ويفاقم من هذه المعضلة أن الدولة تحاول حتى الآن -وقد نجحت إلى حد كبير، ولكن لا ندري إلى متى- في الفصل بين التحرر الاقتصادي وكلٍّ من التحرر الاجتماعي والسياسي، وفاقم المعضلة بعد 2013 أن النيوليبرالية تجري بأدوات الدولة ومن مادتها دون السماح بدور مستقل للقطاع الخاص كما تنص روشتة المؤسسات الدولية.
في ظل برامج الصندوق الدولي تنسحب الدولة عن أداء كثير من مهامها تاركة المجال لآليات السوق ليقوم بهذا الدور ،وللمجتمع ليملأ هذا الفراغ ولكنها لا تنسحب إلا وقد قيدت كثيرًا من فاعلياته بحجج مختلفة ،ولم تترك لمؤسساته غير الدور الخيري الإغاثي فقط.
فهل يمكن لهذه الصيغة أن تستمر في المستقبل؟
لا يمكن أن نحتم هذا المقال دون إشارة إلى الوصم الدائم للرأي العام من النخب المصرية رسمية ومثقفة؛ بأنه قاصر ،تحت دعاوي متعددة منها الأمية والجهل وعدم معرفته لصالحه، ولا نكاد نجد إجماعًا بين الحكومة والمعارضة، والإسلاميين والعلمانيين إلا حول هذه النقطة. وبهذا يمكن أن نفهم لماذا كانت طبيعة الدولة المصرية كما تخيلها قطاع عريض من النخبة ذات طبيعة شمولية تتحكم في المجتمع وتهيمن عليه.
ينصحنا جون بولوك في مقاله الهام عن الربيع العربي والرأي العام ضمن أهم إصدار بمناسبة عقد من الربيع العربي تنشره أهم مراكز التفكير الإسرائيلية بـ: “إذن ، يجب أن يكون دور استطلاعات الرأي العام على مدى العقد المقبل هو تتبع أين ومتى يتضاءل الاختلاف بين الحكام والمحكومين ، وأين ومتى يتسع إلى درجة احتمال الإصابة المؤلمة لكليهما”.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا