زمان، في “أيام الشقاوة”، كنا نشارك كثيرًا في وقفات ومناسبات من أجل فلسطين، وكنا نهتف “فلسطين عربية”، وما أن نهتف بها، حتى كان أصحاب اللحى يرفعون أصواتهم فوق أصواتنا هاتفين “فلسطين إسلامية”، وبعد أن يرددوها مرة أو اثنتين، كانوا يأخذون في ترديد الكلمة منفردة مرارًا “إسلامية، إسلامية، إسلامية” إلى أن تسكت بقية الأصوات تعبا أو استسلامًا.

عبثًا كنا نشرح، أو نحاول أن نشرح لهم آنذاك، أن صفة “العربية” أعمّ وأشمل، وأنها تضم تحت جناحها كل المنتمين لقضية فلسطين أو المتضررين مما جرى لها، مسلمين كانوا أو مسيحيين، أو حتى غير ذلك. لكننا بالطبع، بهذا الشرح، كنا نحرث البحر، فالهاتفين بالـ “إسلامية” لا يجهلون ما نقول، وهم عامدون متعمدون، أن يحتكروا القضية، والتعبير عنها، فعلوا ذلك في التظاهرات والمؤتمرات القاهرية البريئة، وفعلوه – فيما بعد – بالقوة والدم على الأرض في غزة.

ولهذا، لم أستطع تمالك نفسي من الابتسام، حين قرأت المنشورات المتلاحقة، للداعية عبد الله رشدي، التي كتبها بعد موكب المومياوات الملكي المهيب. ابتسمت، لأنه كان يكتب في كل منشور أن هويتنا “عربية إسلامية”، فقد كنت أعرف، كما يعرف هو، أن الـ “عربية” ليست ولم تكن أبدًا هي المشكلة، وإنما هو “يحشرها” في حديثه، ليخفف من وقع كلمة “إسلامية” التي هي المراد والمغزى والمضمون.

وقضية الهوية لم تكن أبدًا في حد ذاتها مشكلة من حيث كونها علامات ثقافية تميّز الجماعات البشرية عن بعضها البعض، ومثل أسمائنا وآبائنا وأماكن ميلادنا فإن هويتنا كذلك ليس لنا يد في اختيارها، ثم أنها تتجاوز انتماءنا الشخصي، فالمصريّ مثلاً حتى لو كان مسيحيًا فإن في هويته عنصر إسلامي، وإن كان مسلمًا سّنيًا فإن تأثيرات الفاطميين تركت فيه تأثيرها الشيعيّ، ولو كان “متفرنجًا” يتحدث خمس لغات فإن هذا لا ينفي عربية لسانه الأم، ولو كان ملحدًا أو لا دينيًا فإنه لا يستطيع أن يمحو من نفسه التأثير الديني الذي نشأ فيه، إنها، كباطن الأرض، طبقات فوق طبقات، وكنسيج الثوب خيوط متداخلة في خيوط، ولا تنشأ المشكلة إلا حين تنشأ النزعة الفاشية، والفاشية إن كانت في نشأتها الأوروبية اختارت البعد القومي الوطني، فإنها هنا، بعد فاشيات وطنية خجولة في بدايات القرن العشرين، وجدت مستقرّها في البعد الديني، وتمددت عبر الجماعات الإسلامية مهما اختلفت أسمائها.

وكما أن إيمان المرء بدينه ليس مشكلة في حد ذاته، بل المشكلة محاولته فرض اعتقاده على الآخرين، فإن الهوية أصابها من الإسلام السياسي ما أصاب الإسلام نفسه، إذ لا تكون الهوية متحققة في نظر هذا التيار إلا بفرضها في الحيّز العام على الآخرين، لا فرضها فحسب، بل التوجس من أي تعبير هوياتي مختلف، حتى لو كان من مشتركين في نفس الجنسية بل نفس العقيدة، فإذا بالاهتمام بالآثار “خطيئة”، وإذا بالفراعنة “كفرة” و”حضارة عفنة”، وإذا بموكب المومياوات الملكي “بضعة جثث تتجول في الشوارع”، وبالطبع، فإن التوجس والرفض والتحريم ينطبق على ما صاحب هذا كله، فثمة موسيقى هي في نظرهم حرام، واختلاط بين الجنسين، ونساء تغني، وتماثيل وتوابيت ورقصات. وإذا بهذا الحدث الفني الثقافي المذهل، الذي احتبست أمامه أنفاس مئات ملايين المشاهدين حول العالم، يتحول، في أفضل الأحوال، إلى شيء مكروه، ومهدد “للهوية”، فإذا كان هناك من يعتبر نفسه متحدثا باسم الإسلام، فعليه أن يترك “العربية” في حالها، فعن طريق الثقافة العربية امتد بعض أهم روافد الفن والثقافة المصرية، في المسرح والصحافة والطباعة منذ نهايات القرن التاسع عشر، وقد نشأ الفكر القومي العربي في الشام على يد مفكرين مسيحيين، ليجمع لا ليفرّق، ليُغني الهوية، لا ليحصرها في لحية ونقاب.