لما كان مرفق العدالة بما يوفره من إجراءات قضائية وقانونية أحد أكثر المرافق التي تضررت نتيجة للإجراءات المصاحبة لحالة الطوارئ المعلنة مع تفشي فيروس كورونا، أصبح موضوع “التقاضي عن بعد” هو الشغل الشاغل للمجتمع القانوني على مستوى العالم بأسره خلال العام المنصرم.

ونظرًا لما يثيره هذا الأمر من إشكاليات وتخوفات، تأتي هذه الورقة الصادرة عن مكتب خالد علي للقانون وأعمال المحاماه (دفاع) ومركز التنمية والدعم والإعلام (دام). كمحاولة لتسليط الضوء على إشكالية التقاضي عن بعد. بينما تطرح في سبيل حل معضلة هذا النوع من الإجراء القانوني 7 توصيات تراها ضرورية لضمان حقوق المتهمين أثناء مساءلتهم قضائيًا.

7 توصيات لإجراء تقاضي عن بعد متوافق مع حق الإنسان

وفق ورقة “دفاع-دام”، فإنه لابد وجود نص تشريعي قادر على صون كافة ضمانات المحاكمة العادلة. خلال إجراءات التقاضي عبر تقنية الفيديو كونفرانس. كما أنه لا يجوز الاعتماد على تقنية المحاكمات عن بعد كبديل عن المحاكمات الجنائية العادية. بل يجب أن تظل كإجراء استثنائي يمكن اللجوء عليه عندما تقتضي الحاجة فقط..

كذلك توصي الورقة بضرورة ضمان حق المتهم في الموافقة أو رفض عقد أي من إجراءات جلسات محاكمته عن بُعد. وذلك بعد استشارة محاميه بشكل سري وأمن. أيضًا لا يجوز فصل المتهم عن محاميه بأي شكل من الأشكال أثناء إجراء جلسات المحاكمات الجنائية عبر تقنية الفيديو كونفرانس. كما يجب أن يتوفر اتصال مباشر، وآمن، وسري بينهما، أثناء كافة إجراءات سير الدعوى الجنائية. إلى جانب ضرورة حفظ حق المتهم في مواجهة الشهود، ومناقشتهم، وسؤالهم بشكل مباشر.

وفيما يتعلق ببث الجلسات، تشير الورقة إلى أنه يجب أن يوفر بث حي عبر الإنترنت للمحاكمات التي تتم عن بُعد. ذلك حتى يستطيع الصحفيين وذوي الشأن متابعة إجراءات الدعوى عن كثب وبشفافية تامة. فيما توصي بضرورة إصدار إرشادات تعريفية للقضاة وأعضاء النيابة العامة والمحامين. ذلك لشرح كيفية إدارة الجلسات عن بُعد. وما هي الشروط الواجب توافرها في المحاكمات التي تعقد عبر تقنيات الفيديو.

التقاضي عن بعد.. واقع يحتاج لضمانات

تُذكّر ورقة “دفاع-دام” بأن المواثيق الدولية التي تمثل حجر الأساس للقانون الدولي لحقوق الإنسان في معظمها تمت صياغتها إبان انتهاء الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن الماضي. لذا فإنه عند صياغة نصوصها كان الافتراض الأساسي والبديهي هو التواجد المادي للمتهم في كافة مراحل المحاكمة. ولم يكن يتصور أن تتم إجراءات المحاكمة في غياب عنصرها الرئيسي وهو المتهم.

وتقول الورقة إنه نتيجة للتطور التقني الهائل الذي شهده مجال وسائل الاتصال، أصبح التقاضي عن بعد وإجراء المحاكمات عبر تقنيات الفيديو كونفرانس واقع عملي لا يجوز تجاهله. لكنه واقع لابد من أن تتوفر معه ضمانات قانونية وتقنية قادرة على تحقيق الغرض المنشود دون المساس بحقوق الإنسان.

كيف نطبق “التقاضي عن بعد” دون الإخلال بحقوق الإنسان؟

هنا، تخلص الورقة القانونية إلى أنه لا يجوز إجراء المحاكمات الجنائية عن بعد عبر وسائل الاتصال. إلا إذا ظهرت الحاجة الملحة لاتخاذ مثل هذه التدابير الاستثنائية. فبغض النظر عن حالة الطوارئ الصحية التي فرضتها جائحة كورونا. وما نتج عنها من توسع هائل في إجراء المحاكمات الجنائية عن بعد بالعديد من دول العالم. لا يمكن اعتماد محاكمات الفيديو كونفرانس كنظام مواز أو بديل في الظروف الطبيعية. ذلك لأن حضور المتهم المادي بشخصه في كافة مراحل المحاكمة الجنائية إحدى الضمانات الأساسية التي لا يجوز النزول عنها.

ووفق ذلك، فإن اللجوء إلى إجراءات التقاضي عن بعد في المسائل الجنائية يجب أن يتم بناءً على قرار من القاضي وحده. كما يجب أن يكون القرار مُسببًا بشكل مفصل. وبعد فحص شامل لكافة وقائع الدعوى وما تفرضه من ظروف. ومن الضروري أيضًا أن تتم دراسة كل حالة على حدة لبيان مدى مشروعية هذا الإجراء من عدمه، كما تشير الورقة القانونية.

ولما كان مبدأ علانية الجلسات يشكل إحدى الضمانات الرئيسية التي يجب توافرها في أي محاكمة جنائية. فإنه يفترض على الدول أن توفر كافة الإمكانات الفنية والتقنية التي من شأنها إتاحة منصات بث مرئي أو صوتي للجلسات. أو على أقل تقدير إتاحة تلك الخاصية لعدد قليل من الأفراد من ممثلي وسائل الإعلام وأصحاب المصلحة. وهو الأمر الذي من شأنه أن يفتح نافذة للجمهور لمتابعة وقائع المحاكمات بما يضمن نزاهة وسلامة إجراءاتها.

هنا، يبرز حق المتهم في التمثيل القانوني كأزمة رئيسية في محاكمات الفيديو كونفرانس. إذ يظل المتهم في محبسه خلال إجراءات المحاكمة وفقًا لهذه التقنية. بينما يظهر المحامي بشخصه أمام القاضي في قاعة المحكمة ليقوم بتقديم دفاعه. وهو الأمر الذي ينطوي على إخلال جسيم بضمانة الاتصال المباشر بين المتهم ومحاميه. وبالتالي، عندما تقتضي الضرورة اتخاذ إجراءات المحاكمة الجنائية عن بعد يجب ضمان وجود المتهم ومحاميه في مكان واحد. ذلك بما يسمح لهما بالتشاور بشكل مباشر وسري حول أوجه الدفاع والتفاصيل الأخرى المرتبطة بالدعوى الجنائية محل النظر.

هل عالجت التجارب السابقة الأمر؟

في إطار مناقشتها الضوابط اللازمة لحماية حقوق المتهم خلال إجراءات محاكمته عند بعد، تستعرض ورقة “دفاع-دام” تجارب 3 دول مختلفة: الولايات المتحدة وبريطانيا والمغرب. وهي تخلص في نهاية هذا العرض إلى عدة نتائج هامة:

رغم أن القدرات التكنولوجية المتاحة في الولايات المتاحة وفرت للنظام الأمريكي فرصة فريدة لاحتواء الأزمة التي واجهت منظومة العدالة خلال فترة كورونا. لكن ينبغي على المجتمع القانوني إيجاد حلول عملية وبديلة توفر للمُدعى عليه كافة ضمانات المحاكمة العادلة في منظومة العدالة الافتراضية. خاصة مع التفكير الجدي في تعميم الفكرة حتى مع انتهاء الأزمة الصحية الحالية. ذلك لأن هذه التجربة أخفقت في تقديم تمثيل قانوني فعال للمتهم في بعض الحالات. وأيضًا لم تعالج إشكالية ما يجب أن يتبع في حال رفض المتهم محاكمته عن بعد. وهو حق أصيل له في قانون المساعدة والإغاثة والأمن الاقتصادي الذي أصدره الكونجرس لمعالجة آثار كورونا.

المحاكم في المملكة المتحدة اعتادت استخدام أدوات العدالة عن بُعد بشكل تدريجي قبل تفشي الوباء بفترة طويلة، إلا أن قانون فيروس كورونا الذي صدر العام الماضي، أثار القلق بشأن التوسع في استخدام التقاضي عن بعد على نطاق أوسع. ذلك لأن القانون صدر في غياب تدقيق تشريعي متبع في الظروف العادية. وهو أمر آثار الشكوك بشأن آليات تعامل المحاكم مع هذا الوضع الجديد. وهو ما أظهره تقرير تقييم الأثر الخاص بالقانون على كل من الحياة العامة والإدارية. والذي ألمح في أكثر من موضع إلى احتمالية حدوث انتهاكات أكبر لحقوق الأفراد داخل منظومة العدالة. دون التطرق لشرح طبيعة هذه الانتهاكات وطرق تفاديها.

أعلنت المغرب في أبريل عام 2020 بدء تطبيق منظومة التقاضي عن بُعد في عقد جلسات الاستماع باستخدام تطبيق سكايب. وقد آثار هذا التوجه أيضًا العديد من المخاوف القانونية والحقوقية الخاصة بحقوق المتهمين في ضمانات المحاكمة العادلة المنصوص عليها بالمادة 120 من الدستور المغربي الصادر عام2011. وهذه الإشكاليات تتعلق بمبدأ الحضورية أمام القضاة، ومواجهة الشهود. فضلاً عن الإخلال بمبدأ الحق في الدفاع.

تقييم للتجربة المصرية في التقاضي عن بعد

في أكتوبر 2020، دشنت وزارة العدل ووزارة الاتصالات المرحلة الأولى من مشروع تجديد الحبس الاحتياطي عن بُعد. وهي الخطوة التي تعد الأولى من نوعها في طريق إنفاذ نظام إجراء المحاكمات الجنائية عن بُعد. ذلك بعد سنوات من إظهار الرغبة في تطبيق مثل هذا النموذج دون تشريع نيابي يتمم المسألة.

في الوقت نفسه، اقتصر النطاق الجغرافي لتلك المرحلة على جلسات تجديد الحبس الاحتياطي المنعقدة ما بين محكمة القاهرة الجديدة وعدد محدود من السجون المركزية. كإجراء تجريبي يهدف إلى دراسة كافة الجوانب التقنية واللوجستية التي قد تعيق تعميم إجراء جلسات تجديد الحبس الاحتياطي عن بُعد.

تقول الورقة القانونية إن الواقع العملي للممارسات القانونية والقضائية في مصر يشير إلى زيادة عدد المحبوسين احتياطيًا بشكل غير مسبوق منذ عام 2013. بالإضافة إلى طول مدة الحبس الاحتياطي، التي قد تصل إلى سنوات لعدد كبير من المحبوسين.

وفقًا لشهادات المحامين الذين اشتركوا في الإجراءات الجديدة الخاصة بجلسات تجديد الحبس الاحتياطي عن بعد، تواجدت هيئة المحكمة في غرفة المداولة، وفي مواجهتها شاشة -يعلوها كاميرا- ويظهر عليها المتهمون في حجرة بمحبسهم، وفي مواجهتهم شاشة أخرى يرون عليها هيئة المحكمة. فيما يتواجد المحامون وممثلي النيابة في غرفة المداولة مع هيئة المحكمة.

هذا الأمر يُظهر فصل المتهمين عن محاميهم بشكل واضح. ما يؤكد انقطاع الاتصال المباشر بينهم. ذلك الحق الذي اعتبرته المحكمة الدستورية العليا ضمانة أساسية من ضمانات حق الدفاع. فضلاً عن أن هذا النموذج لا يسمح للمحامين بالحديث مباشرة مع المتهمين قبل أو بعد الجلسة. كما أن وجود المتهمين في أماكن احتجازهم أثناء الجلسة قد يثنيهم عن الحديث عن أي انتهاكات أو مخالفات يتعرضون لها.

للاطلاع على الورقة القانونية.. اضغط هنا

مركز التنمية والدعم والإعلام (دام) مؤسسة مصرية تدعم حرية الرأي والتعبير وحرية الاعتقاد وتداول المعلومات والحق في المعرفة وتناهض الأفكار المتطرفة ونتائجها الإرهابية في كل الأيدولوجيات.

مكتب خالد علي للقانون وأعمال المحاماه (دفاع) يسعى إلى تعزيز التعاون والمشاركة مع كافة الكيانات القانونية الأخرى سواء كانت فردية أو جماعية لتعزيز سيادة القانون واحترام أحكام القضاء.