يجذب الجدل الذي أثاره مسلسل “الملك” وانتهى بوقف تصويره ومنع عرضه في رمضان المقبل بعدما تضمن المقطع الدعائي له أخطاء تاريخية متكررة. الانتباه إلى إشكالية تتعلق بالاعتماد على الرواية كمصدر أساسي لصناعة الدراما. بالإضافة إلى مدى قدرتها وحدها على تناول وقائع تاريخية بعيدة زمنيًا.

المسلسل مأخوذ عن “كفاح طيبة” آخر رواية في الثلاثية التاريخية الفرعونية التي أصدرها نجيب محفوظ. وتضمنت “عبث الأقدار” و“رادوبيس”. والتي كتبها أديب نوبل عام 1943 وتوقف بعدها عن كتابة قصص فرعونية لمدة 40 عامًا. حتى عاد كتب “أمام العرش” عام 1983 و“العائش في الحقيقة” عام 1985.

“الملك” ملحمة نجيب محفوظ

لا يمكن لأحد أن يشكك في رسم محفوظ بكلماته ملحمة فنية تتسم بالدقة والبراعة في الوصف لتحرير مصر من الهكسوس. لكن خياله الروائي يبدو أنه طغى على الشق التاريخي. حينما استحدث بعض السياقات لتحرير الوقائع التاريخية من الجمود. مثل قصة حب رومانسية بين أحمس وبنت ملك الهكسوس. والذي ضحى به من أجل وطنه.

تمثل النقطة خلافًا لمحفوظ مع المؤرخين يتعلق بالمنطق التاريخي. فلا يمكن لحاكم تربى على كره المحتل الأجنبي الذي قتل والده بأبشع صورة. كما قضت أسرته ما يزيد على قرن وعقد من أجل التحرر. أن يتعلق ببنت مغتصب أرضه. خاصة أن زوجته الأساسية “نفرتاري” كانت في كتفه في المعركة والتنظيم لها. كذلك وصلت نفوذه إلى اعتبارها إلهة في مصر القديمة.

السياق الذي قتل فيه والد أحمس يؤكد في عرف المؤرخين استحالة أن يتقبل بعلاقة مع ابنة ملك الهكسوس. ففي بحث أجراه الدكتور زاهي حواس والدكتورة سحر سليم، أستاذة الآشعة بجامعة القاهرة ونشرته مجلة Frontiers in Medicine. عن الملك سقنن رع (تاعا الثاني) تبين أنه قتل خلال معركة مع الهكسوس. وتم تكبيل يديه من الخلف وضربه بمختلف الأسلحة (فأس وحربة وعدة خناجر) على رأسه. حتى تهشمت في إعدام احتفالي شاركت فيه عدد كبير من الجنود وتركت جثته في العراء حتى أوشكت على التعفن. قبل أن يتم العثور عليها وتحنيطها.

الملك

“كفاح طيبة”

لم يكن سعي نجيب محفوظ في الروايات الفرعونية التي كتبها إلى رصد تاريخي بالمعنى المفهوم ولم يدقق الأحداث من الناحية التاريخية. فقد كان همه وطنيًا معاصرًا أو بمعنى آخر إسقاطات على الواقع. ومن ثم فالتاريخ عند نجيب محفوظ مجرد إطار تاريخي لمضمون تقدمي. كما يرى الدكتور طه وادي في كتابه صورة المرأة في الرواية المعاصرة.

كتب محفوظ” كفاح طيبة” في وقت كانت الحرب العالمية الثانية مشتعلة والمصريون يبحثون عن التحرر الوطني ومحصورون بين اليأس والرجاء. فقدم لهم رواية طمأنة تقول لهم إن أصالة الشعب المصري موجودة وصبره سينتهى بالانتصار. حتى لو ظن الجميع أنه لن تقوم قائمة. وربما يكون قصة حب أحمس إسقاطًا على ضرورة تخلي بعض الرموز الوطنية عن أهوائها ومن أجل الوطن.

كذلك تحاول “كفاح طيبة” أن توجه رسالة من الماضي إلى الحاضر، وهى دعوة للمصريين المعاصرين إلى التخلص من المحتلين والمستغلين. كما تخلصت مصر القديمة من الهكسوس عبر الاستعداد. فجسد رؤيته من خلال الفعل الإنساني بالإعداد العسكرى وبالحرب وصولا إلى الانتصار.

لماذا الخطأ؟

حينما تمتلئ الرواية بالإسقاطات، يجب على صانع الدراما أن يبحث عن مصادر أخرى للفهم والتمحيص. خاصة أن المعلومات متوفرة. فمومياء أحمس تم اكتشافها في خبيئة الدير البحري عام 1881م بالأقصر. ولديه عدة تماثيل تظهر بنيته الشكلية وملامح وجه. فقد كان صغير السن بلحية ورأس حليقتين وبشرة داكنة. وتظهر أيضًا تماثيله الصغيرة بمتحف الأقصر معالم شكله.

يحفظ الفراعنة تاريخهم كله على جداريات المعابد وهو فن نجى من ناهبي الكنوز. يصور معاركهم وأسلحتهم وملابسهم، ولكل عصر منها، تكتيكات خاصة بالمعارك ولا يجوز الخلط بينها. ولدى أحمس بالذات واحدة من أشهر الجداريات الفرعونية تظهر العجلات الحربية وتطورها واعتماد في المقام الأول عليها في المعركة مع القوس وهو أمر لم يظهر في المقطع الدعائي للعمل.

أحمس الأول

الملابس البيضاء وأهميتها التاريخية

تؤكد الجداريات أن ملابس النساء كانت باللون الأبيض، وليس الأسود كما ظهر في المقطع الدعائي للعمل. بينما يسهل العثور على الدراسات التاريخية حول أصول الهكسوس الأسيوية. إذ تئكد جميعها طبيعة شكلية لهم تختلف تمامًا عن الصورة المقدمة في العمل.

تحمل الملابس أهمية خاصة في الدراما التاريخية وتحمل تأثيرات سيكلولوجية كثيرة. فهوية الصورة تحقق الحضور التاريخي للشخصيات من خلال الأزياء فتوفر الإيهام للمشاهد. وتعينه في فهم وتفسير الشخصيات وتمنح هوية الشخصية متوافقًا مع أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية. كما تميز الشخصية من الناحية المعاصرة أو التاريخية.

تبدو الأمور بسيطة في نظر صناع الدراما لكنها شديدة الأهمية بالنسبة لكتاب التاريخ، فلقطة ظهور حاكم طيبة بالصعيد مرتديا تاج الشمال الأحمر ، وبجواره زوجته التي كانت ترتدي تاج الملكة نفرتيتي الذي لم يظهر الا في أسرة أخناتون بعد عدة عقود، قد تبدو للمخرج أمرًا عاديًا لكنها تشكل تصورات أجيال عن عصر لم يشاهدونه .

وللتيجان أهمية كبيرة تتعدى فكرة التعبير عن الملك فلها دلالات أخرى عن امتداد سلطان الفرعون وتدعيم نفوذه واثبات لأحقيته في الحكم ، كما أنه له قدسية باعتباره رابطة بين الملوك والمعبودات وتثبت تأييد المعبودات له ورعايتهم له، كما تحمل دلالات معنوية عن انتصار الملك وقدرته على اعدائه وحماية بلاده وتأمين حدودها.
ويؤكد السياق التاريخي وجداريات التي تناولت أحمس انه ارتدى تاج “الخبرش الأزرق” الذي يحمل دلالات عن قوة الفرعون الحربية وانتصاراته من أجل تحرير بلاده، وليس الأحمر كما ظهر في المسلسل في بعض مشاهد البرومو التي تضمنت أيضًا ظهور الفرعون في المعركة دون تاج على رأسه من الأساس.

لماذا الاستسهال؟

يتكرر الأمر ذاته بظهور شقيق أحمس الأكبر كامس الذي يظهر، خائنا رباه الهكسوس تحت مظلتهم، وهو خطأ كبير خاصة إذا ما تم الرجوع للدراسات التاريخية التي تشير لدوره، فكامس حينما تولى العرش كان لديه نية لتوحيد البلاد والحرب، وقال لرجاله: كيف أعرف حدودي سلطاتي وهناك حاكم في أورايس (مدينة في الشرقية حالياً) وأخر في كوش (النوبة)، وأجلس شريكا بين آسيوي ونوبي وحكم كل من جزء من مصر..

كما كان لوالدته “اع حتب” في تهيئة البلاد المعركة التي كانت وصية على العرش بعد وفاة زوجها، أثناء طفولة كامس واحمس وكان الاخير في التاسعة من عمره، فأعادت جمع الجنود الفارين، ومنحها أحمس بعد انتصار نوط الشجاعة في مقبرتها (3 زجاجات ذهبية) لتصبح أول قائدة عسكرية في العالم”.

أحمس الأول

 

إشكاليات التاريخ

الإشكالية الأساسية في الدراما والسينما التاريخية تأثيرها الكبير في البشر، فالمصريون يتعاملون مع المعلومة الفنية كأنها تاريخ، ولا يقبلون تغييرها مهما تشدق المؤرخون بزيفها.، فمكتبة كلية الإعلام بجامعة القاهرة ممتلئة بالدراسات التي تؤكد التأثيرات القوية للدراما التاريخية على الشباب والأطفال على حد سواء.

تخلص غالبية الدراسات أن الجيل الجديد من الشباب لم يقرأ التاريخ حتى يعقد مقارنةً جادة وواعية بين ما يشاهده وما حدث بالفعل من وقائع التاريخ. لعل ذلك هو ما حدا بالبعض ممن يُطلقون على أنفسهم لقب (مؤرخ) إلى الظهور بخطابٍ إعلامي مغاير عن بعض الشخصيات التاريخية التي تبدو للناس أنها إيجابية وكال لها الاتهامات معتمدًا على عدم قراءة الناس للتاريخ واستقائهم المعلومات عن هذه الشخصيات التاريخية من الأفلام والمسلسلات.

لا تزال عشرات الأجيال تعتقد بأن القائد عيسى العوام في فيلم الناصر صلاح الدين كان مسيحيا وأحب “لويزا” رغم أنه كان مسلما ولا ينسون جملة صلاح الدين: “هل هنأتم اخيكم عيسي بعيد الميلاد المجيد”.

لا يعرف غالبية المصريين الكثير عن علي أحمد باكثير أو رائعته و”إسلاماه”، لكنهم يتذكرون تفاصيل الفيلم الذي يحمل الاسم ذاته رغم التغييرات التي أدخلها فريق العمل من أجل السياق الدرامى التي حرفت بعض من أحداثها، ورسمت علاقات مغايرة خاصة بين بييرس وقطز.

مومياء أحمس الأول

استسهال درامي

لا يكفي المقطع الدعائي الصادر عن مسلسل “الملك” في الحكم على تفاصيله بالكامل لكنه يشي بقدر كبير من الاستسهال في التناول، فخلال “البرومو” الذي لا يستمر سوي عدة دقائق ظهرت أخطاء فجة تقترب من أصابع البدين الاثنين.

يقدم المقطع الدعائي الهكسوس، مرتدين دروعًا من الحديد ترتبط بعصر النبي داوود التي ظهرت بعد عدة قرون من عصر أحمس، وظهور الجنود بغطاء رأس ملكي “نِمس” مخصص للملك وأسرته فقط، وارتداء بعضهم خوذ لحماية الرأس، التي عرفت في عصور لاحقة.

يبدو الاستسهال في ترك معابد الأقصر بجمالها وصنعوا بديلا مستعارا لها غربي الشكل والهوى، وحاولوا تغليب الجمال على السياق التاريخي، فقدموا درعا يحمل نسرًا لم تعرفه مصر القديمة، وجاء الملك مرتديا ملابسا من الكتان كانت مخصصة للفقراء وليس الأغنياء.

مومياء ولوحة

لأحمس لوحة عظيمة بمعبد “الكرنك” تكشف أعماله العظيمة، كما توجد لوحتين أخريين لـ”نفربرت” في السنة الثانية والعشرين من حكم “أحمس ” أيضًا وسجل عليهما مآثره ومآثر زوجته “نفرتاري” بصورة بارزة تفوق ألقاب زوجها والتي ظل اسمها منقوشًا وحدها في محجر مرمر في وادي أسيوط، وكانت تُقدَّس أكثرَ من زوجها حتى عهد الأسرة الواحدة والعشرين، وكانت آلهة طيبة العظام ولها طائفة خاصة من الكهنة تقوم على خدمتها ومحراب مقدَّس يُوضَع على سفينة مقدَّسة، يُحمَل على الأكتاف في الاحتفال بالأعياد العظيمة،

كما توجد مومياء لأحمس تظهر تفاصيل جسده جيدًا وتؤكد أنه كان رجل قوي الجسم عريض الصدر والأكتاف طوله حوالي 1.7 متر أسود الشهر مجعدة له ثنايا بارزة بعض الشيء (وجنة مرتفعة) وتلك من مميزات الأسرة كلها سواء في زوجته أو بناته أو حتى ابنه.

في المكتبة الأكاديمية يوجد كتاب كفاح بعنوان “كفاح شعب مصر ضد الهكسوس وعودة الروح” للدكتور عبد الحليم نور الدين، رئيس مصلحة الآثار المصرية وأستاذ اللغة المصرية القديمة بكلية الآثار جامعة القاهرة. وعميد كلية الآثار والسياحة، جامعة 6 أكتوبر، والذي يتضمن رصدا تفصيليًا لفترة الهكسوس وأصولهم وكفاح المصريين ضدهم، بل وتعدى الأمر إلى الجذور التاريخية للصراع وكيف نشب وأسباب الهزيمة والانتثار فيما يعد.

ما يثير السخرية هو الصخب الذي صادف الفيلم الأمريكي “آلهة مصر” الذي قدم الملوك والآلهة كأصحاب بشرة بيضاء، وهو ما تم اعتباره اساءة للتاريخ الفرعوني بأكمله، وحينها هاجم العالم كله الفيلم، ليأتي عمل محلي صرف ليقع في الأخطاء ذاتها.