مفاوضات امتدت لعشر سنوات بين مصر وإثيوبيا على خلفية اعتزام الأخيرة بناء سد النهضة وتداعياته على حصة مصر من المياه خاصة في فترات ملء السد. وخلال عقد من الزمن، طرحت دولتا المصب العديد من الرؤى حول كيفية تعامل إثيوبيا مع السد. مع الاعتراف على أن سعيها لتدشين مشروعات عملاقة من أجل تحسين الأحوال الاقتصادية لشعبها حق مشروع لكن دون أن يجور أحد على حق الدول الآخرى.

خلال الأيام القليلة الماضية، أعلنت وزارة الخارجية المصرية، رفض إثيوبيا لجولة المفاوضات الأخيرة التي عقدت في كينشاسا. كما وصفت موقف إثيوبيا بالتعنت في أي محاولة للوصول إلى صيغة مرضية لكافة الأطراف.

وقالت الخارجية المصري في بيان لها: “رفضت إثيوبيا كذلك خلال الاجتماع كافة المقترحات والبدائل الأخرى التي طرحتها مصر وأيدتها السودان. من أجل تطوير العملية التفاوضية لتمكين الدول والأطراف المشاركة في المفاوضات كمراقبين من الانخراط بنشاط في المباحثات والمشاركة في تسيير المفاوضات وطرح حلول للقضايا الفنية والقانونية الخلافية”.

وتابع بيان الخارجية: “الموقف يكشف مجددًا عن غياب الإرادة السياسية لدى إثيوبيا. للتفاوض بحسن نية وسعيها للمماطلة والتسويف من خلال الاكتفاء بآلية تفاوضية شكلية وغير مجدية. وهو نهج مؤسف يعيه المفاوض المصري جيداً ولا ينطلي عليه”.

في المقابل، أصدرت إثيوبيا بيانًا للرد على الخارجية المصرية أكدت خلاله عزمها المضي في الملء الثاني لسد النهضة في يوليو المقبل. كما اتهمت مصر والسودان بتقويض المفاوضات.

وقالت الخارجية الإثيوبية: “لا يمكن لأديس آبابا الموافقة على أي اتفاق بشأن سد النهضة يحرم إثيوبيا من حقوقها المشروعة في استغلال مياه نهر النيل”.

انتهاء المفاوضات والخيارات كافة مطروحة

بدا واضحا تعنت الجانب الإثيوبي في التعامل مع سد النهضة على كونه مشروعا اقتصادي من شأنه أن يساهم بقوة في الاقتصاد الإثيوبي. على الجانب الآخر لم تعط بالاً لتداعيات ملء السد على الدول الأخرى وهم (مصر، والسودان)، وهو ما يضع مصر بالتحديد في أزمة كبيرة وتحدي جديد في ملف المياه.

فور أن وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود خرج الرئيس عبدالفتاح السيسي، في محاولة لطمئنة الشعب المصري والتلويح بأن الخيارات كافة مطروحة في سبيل حل الأزمة. وهو ما اعتبره البعض إعلان حرب ورسائل للداخل والخارج.

وقال السيسي: “حصة مصر من مياه النيل خط أحمر، والمساس بها قد يعرض المنطقة بأسرها لحالة من عدم الاستقرار. مياه مصر لا مساس بها والمساس بها خط أحمر وسيكون رد فعلنا حال المساس بها أمر سيؤثر على استقرار المنطقة بالكامل. ولا يظن أحد أنه بعيد عن قدراتنا”.

فبراير 2011 وبداية الأزمة

في فبراير 2011 أماطت إثيوبيا اللثام عن نيتها تدشين سد على النيل الأزرق، بسعة تخزينية تقدر بحوالي 16.5 مليار متر مكعب، ووضع حجر الأساس في أبريل من نفس العام، في العام ذاته طالبت مصر بضرورة الإطلاع على تصميم ودراسات السد رافعة حق الفيتو وجه الإثيوبيين بشأن توزيع المياه.

وفي مارس 2012، عقد وزير الري المصري أنذاك هشام قنديل، اجتماعا مع نظرائه من الجانب الإثيوبي والسوداني دون الوصول إلى رؤية واضحة ولكن تم وضع الأمر قيد الدراسة.

سد النهضة

2012 وتدشين لجنة دولية للمراجعة

سرعان ما أدركت مصر خطورة سد النهضة وتأثيراتها على مستقبل المياه في بلد الـ100 مليون. إذ عمدت إلى إنشاء لجنة دولية بغرض مراجعة وتقييم تقارير دراسة السد.

خلال اجتماع اللجنة، تم استعراض وثائق حول الأثار السلبية التي ستتأثر بها الدول المشاركة لإثيوبيا في مجرى النيل. إلا أن إثيوبيا وفي محاولة لقطع الطريق على مصر والسودان خرجت بتقرير يؤكد أن بناء السد البيئية استند على المعايير والمبادئ الدولية. كما زعمت أن السد من شأنه أن يقدم فوائد كثيرة لكافة الدول المشاركة في المياه.

في الوقت ذاته، خرج التقرير من اللجنة المشكلة من خبراء دوليين وممثلين من جهات خارجية يوصي بضرورة تغيير وتعديل أبعاد وحجم السد. لكونه من الممكن أن يسبب في قلة حصة مصر والسودان من المياه.

2013 والطامة الكبرى

كانت جماعة الإخوان المسلمين تولت زمام الحكم في مصر بعد انتخابات رئاسية جاءت بـ”محمد مرسي” في منصب الرئيس. وفي محاولة لبحث كيفية معالجة أزمة سد النهضة وتأثيراته. دعا “مرسي” إلى اجتماع مع القيادات السياسية من كافة الأطراف وتم إذاعة اللقاء على الهواء مباشرة دون علم الحضور.

خلال الاجتماع، طرح الحضور عدد من الحلول العدائية في حق إثيوبيا. فمنهم من اقترح ضرب السد بشكل مباشر لإغلاق الطريق أمام الإثيوبيين. بينما ذهب آخرون إلى العمل على دعم المتمردين في الداخل الإثيوبي من أجل زعزعة الاستقرار.

مثل اللقاء القشة التي قصمت ظهر البعير. وتسبب في إحراج كبير لمؤسسات الدولة، وهو ما دفع الحكومة إلى الخروج ببيان تعتذر فيه عن الخطأ والإحراج الذي حدث بعرض الاجتماع. وحمل هجومًا حاد على إثيوبيا.

وأكدت الحكومة خلال البيان على حرصها على حسن الجوار والاحترام المتبادل والسعي لتحقيق المصالح المشتركة دون إيذاء أي من الطرفين الآخرين.

وبدأت منذ تلك اللحظة حالة من الشد والجذب والحرب الإعلامية بين مصر وإثيوبيا، إلا أنه مع تزايد حدة التوتر في الداخل المصري واندلاع ثورة 30 يونيو وما سبقها من حالة عدم الاستقرار، في الوقت ذاته كانت إثيوبيا تتخذ خطواتها من أجل بناء السد.

وثيقة مبادئ سد النهضة

في مارس 2015، عقدت قمة ثلاثية إفريقية في العاصمة السودانية جمعت (مصر، وإثيوبيا، والسودان)، وخلالها تم التوقيع على وثيقة مبادئ سد النهضة.

تضمنت الوثيقة 10 مبادئ أساسية بداية من التعاون المشترك بين البلدان الثلاثة، والتنمية والتكامل الاقتصادي. كما نصت على التعهد بشكل حاسم بعدم الإضرار بأي دولة. كذلك الاستخدام المنصف للمياه، والتعاون في الملء الأول لخزان السد، وبناء الثقة بين الدول الثلاث. بالإضافة إلى تبادل المعلومات والبيانات بشكل مستمر، وآمان السد، واحترام السيادة. وأخيرًا الحل السلمي للنزاعات.

محاولة التفاف إثيوبيا

مع بداية تنفيذ سد النهضة ووضع التصاميم النهائية، من قبل المكتب الفرنسي “بي.أر.إل” والعلم على وضع ما تم تسميته بالأسس الاسترشادية لقواعد ملء خزان سد النهضة. وحسب الاتفاق المبرم بين الدول الثلاث يتم إرسال بيانات وتقارير بشكل دائم مستمر عن تحركات إثيوبيا. عمدت الأخيرة إلى إرسال نسخة إلى مصر والسودان.

كانت المفاجأة الكبرى في خروج المكتب الفرنسي في بيان يوم 12 مارس 2017. أكد فيه أن إثيوبيا أرسلت تقريرًا منقوصًا إلى مصر والسودان. كذلك شدد على أن المعلومات التي تم طلبها من الجانب الإثيوبي تعنت في التعاون مع المكتب.

وصف البعض ما يحدث من الجانب الإثيوبي بالالتفاف حول وثيقة المبادئ وعدم تعاون كامل مع الأطراف المعنية ومحاولة إثيوبيا الانفراد بالعمل على سد النهضة. دون احترام حقوق الآخرين.

ومن جانبها، أكدت مصر، في بيان صحفي، أن الجانب الإثيوبي يمارس الألاعيب فيما يخص الاتفاق المبرم بين الدول الثلاث، مؤكدة أن كافة محاولات مصر للوصول إلى حل يضمن حقها في المياه وعدم انتقاص حصتها وصلت إلى طريق مسدود، ليخرج السيسي ليلوح لأول مرة بأهمية الازمة قائلا: «مياه النيل مسألة حياة أو موت لشعب كامل».

عام القسم الأشهر في العالم

عندما تولي آبي أحمد منصب رئيس وزراء إثيوبيا، دعي لاجتماع مشترك مع الرئيس السيسي. كذلك طالبه بإرسال رسالة طمئنة للشعب المصري المتخوف على حصته من المياه.

وخلال مؤتمر صحفي تم إذاعته على القنوات المصرية، ظهر السيسي برفقة آبي أحمد. وأقسم الأخير أمام الشعب المصري بعدم المساس أو الإضرار بمصالح مصر. كما ردد رئيس وزراء إثيوبيا خلف السيسي: “والله لن نقوم بأي ضرر بمياه مصر”. آجلاً سيدرك المصريين أن آبي أحمد حنث بقسمه.

 المفاوضات تصل لطريق مسدود والتلويح بالحرب

في أكتوبر 2019، خرجت وزارة الري المصرية ببيان أكدت فيه أن المفاوضات مع إثيوبيا وصلت إلى طريق مسدود نتيجة لتشدد الجانب الإثيوبي. وعدم تعاونه الكامل مع الجانب المصري.

يبدو أن آبي أحمد يكسب أرضية سياسية ويلعب بورقة سد النهضة لتكون سبيلًا لجمع الشعب الإثيوبي على قلب رجل واحد. حيث خرج خلال حضوره في 22 أكتوبر 2019. خلال حضوره جلسة لمجلس النواب الإثيوبي أكد خلاله إن بناء سد النهضة أمرًا لا يمكن الوقوف في وجهه. مشددًا على أن إثيوبيا ماضية في بناء السد ولو تكلف الأمر الدخول في حرب وحشد الملايين لها.

تلقف الجميع رسائل أبي أحمد بشيء من الجدية. خاصة أن الأخير لوح بأوراق الحرب كاملة. كما قال: “في حال راح البعض لاستخدام الصواريخ لتدمير السد، سيكون لدينا القنابل من أجل الرد على أي طرف”.

وساطة أمريكية

في عام 2020، عقد لقاء بين وزراء خارجية مصر والسودان وإثيوبيا، والولايات المتحدة الأمريكية وموفد عن البنك الدولي. في محاولة للوصول إلى اتفاق يضمن حق الجميع في المياه.

واتفق الحضور خلال الاجتماع على 6 نقاط أساسية، على رأسها ملء السد على مراحل، تعبئة خزان السد خلال موسم الأمطار. بالإضافة إلى العمل على الإنجاز السريع لملء السد وتوليد الكهرباء.

إلا أنه سرعان ما خرج بيان من الجانب الإثيوبي يتهم الولايات المتحدة الأمريكية بالانحياز ضد مقدرات الشعب الإثيوبي.

مصر تطلب تدخل مجلس الأمن

فى العام ذاته، تقدمت مصر بطلب إلى مجلس الأمن بالأمم المتحدة. طالبت فيها المجلس ضرورة التدخل من أجل تأكيد أهمية مواصلة الدول الثلاث مصر وأثيوبيا والسودان التفاوض بحسن نية تنفيذًا لالتزاماتها وفق قواعد القانون الدولي.

لم تلتفت إثيوبيا إلى طلب مصر لمجلس الأمن بالتدخل. إذ أعلنت في 27 يونيو 2020، انها تستعد لملء السد خلال أسبوعين.

دق طبول الحرب

المتابع لما وصلت إليه المفاوضات بين الأطراف الثلاثة، يدرك جيدًا أنه لا سبيل للبحث عن حل تفاوضي سلمي يضمن حقوق الجميع. وأن كافة البلدان ستسعى بكل أدواتها من أجل تحقيق الأمن المائي لشعوبها. ما يؤدي بالتبعية إلى حالة من عدم الاستقرار في المنطقة بأكملها.