كما كتب علماء الحملة الفرنسية عن مصر كتاب “وصف مصر” في أواخر القرن الـ18 وترجمه في مصر المترجم المعروف زهير الشايب. اجتهد كثير من الفنانين والأدباء والكتاب وبرعوا في وصف مصر عن طريق الدراما. ذلك من خلال أعمال فنية. خاصة بهم في التليفزيون أو السينما تابعناها وتأثرنا بها وملكت علينا قلوبنا وعقولنا وظللنا نتابعها لعقود متتالية وبشكل خاص في السبعينيات و الثمانينيات والتسعينيات.
ومن أبرز هؤلاء الكاتب والأديب أسامة أنور عكاشة، الذي برع في الفن القصصي وكتابة السيناريو والحوار لأهم مسلسلات الدراما المصرية طوال عقود ثلاثة.
وعكاشة من مواليد طنطا 27 يوليو العام 1941، حصل على ليسانس آداب قسم الدراسات النفسية والاجتماعية من جامعة عين شمس عام 1962، وكانت أولى محاولاته في مجال التأليف خلال هذه الفترة من دراسته الجامعية.
عمل مدرسًا بالتربية والتعليم في العام 1963، قبل أن يصبح عضوًا فنيًا بالعلاقات العامة في ديوان محافظة كفرالشيخ حتى عام 1966، كما عمل أخصائيًا اجتماعيًا ابجامعة الأزهر في الفترة من (1966-1982).
شكّل العام 1982 تغييرًا جذريًا في حياته، حينما قدم استقالته من العمل بالحكومة ليتفرغ للكتابة والتأليف، بعد انطلاقته الحقيقية بمسلسل “الشهد والدموع” العام 1981 للمخرج إسماعيل عبد الحافظ، الذي شكل معه الثنائي الأبرز في الدراما العربية وقدما عددًا من المسلسلات الناجحة فنيًا وجماهيريًا.
من أبرز أعماله: المشربية، ليالي الحلمية، ضمير أبلة حكمت، زيزينيا، الراية البيضا، وقال البحر، ريش على مفيش، أنا وأنت وبابا في المشمش، لما التّعلب فات، عصفور النار، وما زال النيل يجرى، أرابيسك، امرأة من زمن الحب، أميرة في عابدين، كناريا وشركاه، عفاريت السيالة، أحلام في البوابة، المصراوية، الحب وأشياء أخرى، رحلة السيد أبو العلا البشري، والحصار.
وفي المسرح كتب بعض المسرحيات الناجحة منها (القانون وسيادته) لمسرح الفن، و(البحر بيضحك ليه) لفرقة الفنانين المتحدين، و(الناس اللي في التالت) للمسرح القومي، ومسرحية (ولاد اللذين) للقطاع الخاص.
كما قـدم أسامة أنور عكاشة مجموعة من الأعمال الأدبية أهمها مجموعة قصصية بعنوان (خارج الدنيا) العام 1967 ورواية (أحلام فى برج بابل) العام 1973، ومجموعة قصصية بعنوان (مقاطع من أغنية قديمة) في العام 1985، ورواية (منخفض الهند الموسمي) العام 2000، ورواية (وهج الصيف) العام 2001، كما قام بتأليف عدد من الكتب منها كتاب (أوراق مسافر) في العام 1995، وكتاب (همس البحر، تباريح خريفية) في نفس العام.
أما فيما يتعلق بمسلسلاته، من منا ينسى (ليالي الحلمية) هذا العمل الملحمي الذي يشبه ثلاثية نجيب محفوظ، الذي قدم في 5 أجزاء عرضًا تاريخيًا لمصر منذ الملكية مرورًا بثورة 23 يوليو وحتى نهاية القرن العشرين، وشخوصها الرائعين الذين تمثلوا في لحم ودم وكانوا أبطالاً لهذا العمل الدرامي المهم. ومن أبرزهم سليم البدري، العمدة سليمان غانم، زينهم وطه السماحي. كما عرض المسلسل المقاومة الشعبية ضد الانجليز ،ثم ثورة 23 يوليو مرورًا بالانفتاح الساداتي وحرب 73 ثم كامب ديفيد والصلح مع إسرائيل والعلاقة الخاصة مع أمريكا.
والصراع بين البك علي البدري الذي يرمز للرأسمالية الصناعية ما قبل يوليو ، والعمدة سليمان غانم وهو الذي يرمز للإقطاع الزراعي والصراع الذي شهدناه سويًا بينهما على الصدارة ونيل عضوية مجلس النواب سواء في المرحلة الملكية أو مرحلة ثورة يوليو 1952 وما بعدها.
والجيل الثاني الذي مثله علي البدري وناجي السماحي واللذين أمنا بشعارات ثورة يوليو الناصرية ودخلا تنظيمها الشبابي، والأول انقلبت عليه المجن بعد انقلاب السادات في 1971 ليدفع الثمن محبوسًا في سجونه، وليخرج بعد ذلك متراجعًا عن أفكاره الثورية ومؤمنا بقواعد اللعبة الرأسمالية في زمن الانفتاح.
أما الثاني وهو نموذج “ناجي السماحي ” فظل على مواقفه المبدئية من خلال موقعه في النيابة العامة ضد الفساد حتى قتل على أيدي أحد رجال الأعمال أثناء التحقيق في فساده المالي. كما قتل أبوه الفدائي في الإسماعيلية على أيدي الاحتلال الإنجليزي. .
أيضًا عرضت رحلة أبو العلا البشري التغيرات الكبيرة التي حصلت في مصر، بطغيان المادة على كل شيء، بالمخالفة للقيم النبيلة التي يرمز لها بطل المسلسل، والذي قام بدوره الرائع محمود مرس، الرجل المنتمي لمدرسة وزارة الري المصرية إحدى المؤسسات المصرية العريقة، والذي يحاول صبغ المجتمع وخاصة أقاربه بهذه القيم النبيلة، بينما يواجه صدمة التحول في السبعينيات سواء في المجال الاقتصادي (نموذج مهران بك) رمز الرأسمالية المستغلة، أو نموذج الفن العشوائي، أو استغلال القانون للكسب المالي من خلال رجل القانون.
أيضًا شاهدنا مسلسل الشهد والدموع، الذي عرض دراما الصراع بين الأخوة والبحث عن الحق الضائع، والذي انتقل للأجيال التالية. وكذلك الشهد والدموع الذي عرض أيضًا التفاعلات الاجتماعية والسياسية في فترة تاريخية معينة بدأت منذ ما قبل ثورة 23 يوليو 1952. واستمرت طوال حقبة الانفتاح الساداتي، وبعدها، تمثلت في قيام الأخ بسرقة أموال أخيه بعد موت الأب، ثم موت الأخ، لتظل أجيال تحمل ميراث من الكراهية والغضب بسبب ما قام به، أصبحت في نفس الوقت مسؤولة عن حل هذا الصراع.
منذ أول مسلسلاته في السبعينيات “المشربية”، وأبواب المدينة وعصفور النار وحتى رحيله كان عكاشة مهمومًا بالمجتمع المصري، هو هنا أشبه بدور مؤرخ يصف الحياة والتفاعلات السياسية والتاريخية المصرية عبر الدراما، ويخيل لي أنه من أبرز من استغل الدراما لعرض رؤيته السياسية والفكرية، وبالتالي من أبرز من وصفوا مصر بالدراما.
كانت أسئلة كبيرة تشغله وهي الهوية خاصة بعد الجدل الذي تسببت فيه تغيرات المرحلة الساداتية من نبذ للقومية العربية، ومحاولات التوجه لهوية متوسطية أو فرعونية كتبرير للصلح مع العدو.
أيضًا سؤال العدالة الاجتماعية وعودة الحقوق إلى أصحابها كانت شغله الشاغل في كثير من الاعمال الدرامية ومن أبرزها الشهد والدموع، وقال البحر.
أيضًا فكرة الحفاظ على التراث والمعمار التاريخي والصراع بين القبح والجمال، كان واضحًا في أبرز أعماله “المشربية”، و”أرابيسك”، و”الراية البيضاء”. ويلاحظ أن العديد من شخصيات أعمال عكاشة هي أشخاص ذات سمات إنسانية واقعية.
يشير الكاتب والسيناريست الراحل وحيد حامد إلى أنه في اعقاب كتابة عكاشة مسلسل الشهد والدموع أصبح للسيناريست مكانة كبيرة واصبح للمرة الأولى في تاريخ الدراما يصبح اسم كاتب السيناريو ضمانة لجودة المسلسل والتترات تبدأ باسمه قبل اسم المخرج والنجوم وهي نقطة تحول مهمة.
ويرى البعض إلى أن هذا المشروع الذي بدأه عكاشة كان يندرج ضمن البحث عن أصول وجذور الطبقة الوسطى المصرية وعلاقة تلك الطبقة بالقوى السياسية من سلطة أو مال أو شبكة ممتدة من الأخلاق والأفكار والمبادئ. “هشام بنشاوي ـ مدخل إلى دراما أسامة أنور عكاشة”.
أعماله السينمائية:
قام عكاشة بكتابة السيناريو والحوار لعدد من الاعمال السينمائية المهمة من أبرزها كتيبة الإعدام، الهجامة، تحت الصفر، دماء على الإسفلت، الطعم والسنارة، والإسكندراني.
كتيبة الإعدام يبدأ من حيث انتهى الصراع مع العدو الصهيوني، في السويس هنا مسرح الأحداث قبل حرب 73 حيث يقوم فرج الاكتع وهو عامل بسيط ينقل ويشتري الاحتياجات للمواطنين هناك ويمارس خيانته طمعًا في الأموال ليقوم بإبلاغ الإسرائيليين عن أموال المرتبات الخاصة بالجيش المصري هناك ومكان أبرز الفدائيين ليتم اغتيالهم، ويتم تلفيق القضية لبطل الفيلم وهو (حسن عز الرجال)، والذي كان يعمل بالبنك المودع بها هذه الأموال، وتبدأ رحلة البطل بالبحث عن براءته للمجتمع ويبحث عن المجرم والخائن الذين قدم الفدائيين قربانًا للعدو نظير المال، حيث يقتنع ضابطا الشرطة -المكلفين بقضيته- ببراءته ويدعمانه ضد الخائن الذي أصبح رجل أعمال بفضل انفتاح السبعينيات، حيث ينتهي العمل بقتل رجل الأعمال الخائن على يد الرباعي (بنت الشهيد سيد الغريب وضابطي الشرطة وحسن عز الرجال)، ليترك مؤلف الفيلم النهاية جدلية بمشهد لمحاكمة الأربعة الذي احتفى بهم جمهور جلسة محاكمتهم لقصاصهم لبلدهم من الخائن.
أيضًا قدم عكاشة فيلم “دماء على الأسفلت” والذي عرض لعدد من التغيرات الاجتماعية من خلال أسرة البطل الذي سافر ليعمل في منظمة دولية بالخارج بحثا عن الرزق، بينما تواجه أسرته وضعًا متفسخًا، حيث تعمل شقيقته في الدعارة، ويصبح شقيقه مدمنًا، ويتم محاكمة والده في تهمة ظالمة بسرقة أوراق إحدى القضايا في ظل أوضاع اقتصادية منحازة للأغنياء على حساب الفقراء في ظل غياب العدالة الاجتماعية بالمجتمع.
كذلك، في فيلم الهجامة يتحدث أسامة أنور عكاشة عن انتفاضة يناير من خلال تفاعل بين لصة وشقيقتها الطالبة الجامعية تتفاعل مع الحركة الطلابية في الجامعة، يتم حبسهن معًا في أعقاب الانتفاضة، وتبدأ إحداهن بإقناع نوسة الهجامة بطلة الفيلم بعدالة قضيتهن لتقتنع بالقضية العامة للبلد، وبعدها تتحول من هجامة إلى سيدة أعمال.
في النهاية، يمكن القول أن عكاشة من أبرز من وصفوا مصر دراميًا خاصة الدراما التليفزيونية وأن أسامة تفرد بين أبناء جيله بصنع دراما تهتم بالإنسان وعلاقته بالتحولات المجتمعية والسياسية في المجتمع، وهي تدفع المشاهد لإعمال عقله وذهنه في واقعه الحياتي.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا