توسعت الجهات القضائية المصرية في السنوات الأخيرة في استخدام سلاح حظر النشر، تجاوزت فيه حدود القضايا ذات الطبيعة السرية كتلك المتعلقة بأمن البلاد، لتصل إلى قضايا متعلقة بالجرائم المجتمعية كان بطلها موظفون رسميون، في ظل امتلاك الجهات سلطة إصدار قرارات بحظر النشر دون التقيد بنوع القضية أو الملابسات المحيطة بها، مما أضر في النهاية بحق المواطن في المعرفة.
من هذا المنطلق، قدمت مؤسسة حرية الفكر والتعبير، ورقة عمل حول القضايا التي قررت بها الدولة حظر النشر، مع فئة بعينها من المتهمين، وهم الموظفون الرسميون، مؤكدة أن حظر النشر قيد لا يجوز التوسع فيه أو استخدامه بشكل تعسفي.
اعتمدت الورقة على رصد بيانات وأخبار حول قرارات حظر النشر، إضافة إلى المواد القانونية المنظِّمة لمسألة حظر النشر داخل القانون المصري.
ما هو حظر النشر في القانون المصري؟
حظر النشر يعرف في القانون المصري بأنه قرارٌ بمنع تناول واقعة ما في كافة وسائل الإعلام مقروءة، مرئية، أو مسموعة، من كافة الجهات المعنية بالقضية، سواء في ذلك الصحافة والنيابة والقضاة والمحامين.
يطبق حظر النشر بنصوصٍ مباشرة في القانون المصري أو بقرارٍ يصدر عن سلطة التحقيق، مكتب النائب العام، أو المحكمة، أي الهيئة القضائية التي تنظر في هذه القضايا.
تنص المادة 68 من القانون على أن المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية، وينظم القانون ضوابط الحصول عليها وإتاحتها وسريتها، وقواعد إيداعها وحفظها، والتظلم من رفض إعطائها، كما يحدد عقوبة حجب المعلومات أو إعطاء معلومات مغلوطة عمدًا، وهو ما يؤكد أن الأصل هو النشر، وفقا لما أكدته المؤسسة، فيعتبر المشر عبر وسائل الإعلام، وسيلة بين المواطنين والسلطات، ليتمكن المواطنون من خلالها من مراقبة أداء المؤسسات في الدولة، وذكرت المؤسسة أنه إذا غاب هذا الحق أو قُيِّد بشكل تعسفي، فيكون الحق الدستوري للمواطنين في الوصول إلى المعلومات قد تم انتهاكه.
المؤسسة ترى أن المشرع يتدخل في معظم الأنظمة القانونية للنص على حظر نشر بعض المواد التي تمس أمن البلاد وسلامتها، منها الخرائط والمعلومات العسكرية، أو المواد التي تنتهك خصوصية المواطنين وتمس حياتهم الخاصة، ولكن قد يتدخل المشرع أحيانًا لتقرير حظر نشرٍ لبعض الأمور التي يتركها عامة ومبهمة ويترك تفسير هذه الأحكام لإحدى سلطات الدولة، وهو الوضع في مصر، حيث تملك النيابة العامة والجهات القضائية سلطة إصدار قرارات بحظر النشر دون التقيد بنوع القضية أو الملابسات المحيطة بها.
لماذا يتم اللجوء لحظر النشر؟
يستخدم منع النشر، لحفظ سير التحقيقات حتى لا تؤثر أي آراء خارجية على سير الدعوى المنظورة، والحيلولة دون التأثير على حيادية حكم القضاء لتحقيق العدالة في هذه القضايا، وكذلك بهدف حماية الأمن القومي للبلاد والحفاظ على الثقة بهيئات الدولة ومراعاة النظام العام والآداب العامة، ولكن على أرض الواقع فوفقا للمؤسسة قرارات حظر النشر تصدر دون سبب تفصيلي لها، وتتضمن أسبابا تتعلق بالأمن القومي دون تفسير أكثر من ذلك.
ويتم تطبيق حظر النشر في مصر بطريقتين، الأولى، بقرارات استثنائية يصدرها النائب العام أو الجهة القضائية المنوط بها النظر في القضية بمنع نشرٍ مطلق أو منع نشرِ معلومات بعينها في قضية ما.
أما الطريقة الثانية، فهي التي تتم في القضايا والموضوعات التي أقر القانون المصري بنصوص مباشرة بحظر النشر فيها، وهو منع تام ومطلق ولا يستدعي إصدار قرارات استثنائية، وفي الحالتين، لا يسري حظر النشر على منطوق الأحكام التي تصدرها المحكمة. وتختلف الأسباب التي من المفترض أن تكون الدافع الحقيقي وراء تقنين الحظر، مثل حماية الحياة الخاصة، أو تأمين الأسرار العسكرية، أو فيما يخص مؤسسات أو أوقات معينة.
على سبيل المثال، حظر المشرع نشر جلسات مجلس الشعب العلنية أو السرية، بسبب سوء النية، ولم يوضح ما المقصود بسوء النية، وأيضا حظر نشر التحقيقات الابتدائية للنيابة، وجلسات المحاكمات السرية أو العلنية، ليصبح المصطلح المستخدم عرضة للتأويل، وفقا للمؤسسة.
“سوء النية” في القانون المصري
من يخالف تلك القرارات، فيتعرض للحبس، بمدة لا تزيد على سنة وغرامة لا تقل عن خمس آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه، أما عبارة سوء النية أو سوء القصد، فتكررت في القانون في المواد (187) من قانون العقوبات، والتي تشير إلى أن منع أي معلومات من شأنها التأثير في القضاة الذين ينظرون في الدعوى أو غيرهم من الموظفين المكلفين بالتحقيق أو التي قد تؤثر في الشهود، وفي المادة (188) من قانون العقوبات على منع نشر أخبار كاذبة أو شائعات أو أوراق مزورة بسوء نية مما يسبب إلحاق الضرر بالمصلحة العامة.
حظر النشر والموظفون الرسميون
وتابع التقرير أن قرارات النيابة العامة بحظر النشر شملت قضايا فساد مالي أو إداري، أو قضايا مخلة بالشرف تتضمن أشكالًا من الاعتداء الجنسي من قِبَل موظفي الدولة، ومؤسساتها في بعض الأحيان، فضلًا عن جرائم قتل وتعذيب، وغيرها، والعامل المشترك في جميع هذه القضايا هو أن المتهم فيها أحد المنتمين إلى السلطات الرسمية، مثل الوزراء، والقضاة، والضباط، وكبار الموظفين.
مثلا، أصدرت محكمة الجنايات في فبراير الماضي، قرارًا بحظر النشر بعد أقل من 10 أيام على تداول وقوع جريمة خطف فتاة واغتصابها، وذلك بعد اتهام قاضٍ بمحكمة الاستئناف واثنين من أصدقائه بارتكاب الجريمة، وتداول الصحف للخبر. حظرت النيابة العامة النشر في قضيةٍ كان المتهم الأساسي فيها هو القاضي رامي عبدالهادي، حيث واجه اتهامات بطلبه الحصول على رشوة جنسية من إحدى السيدات مقابل الحكم لها في قضية منظورة أمامه، وقد تم التعتيم على ماجريات هذه القضية بعد التحقيقات، ثم أُغلقت القضية بتقديم عبدالهادي استقالته.
وفي 2012 أصدر رئيس هيئة القضاء العسكري، اللواء عادل محمود المرسي، قرارًا بحظر النشر في القضية المعروفة إعلاميًّا بقضية بـ”كشوف العذرية”، ورغم أن الاعتداء الجنسي الذي قام به ضباط وجنود بالقوات المسلحة على مواطنات مصريات بإخضاعهن للكشف على عذريتهن قسرًا، على خلفية احتجازهن تعسفيًّا في المتحف المصري، بعد تظاهرهن.
اقرأ أيضا:
مخدرات الاغتصاب الوجه المظلم في حفلات أثرياء مصر
ليس لحماية الضحايا
قالت المؤسسة، إن الاعتداءات الجنسية ما بين تحرش واغتصاب، واستغلال المنصب للحصول على رِشًا جنسية، كلها اتهامات وردت في قضايا صدر فيما يخصها قرارات بحظر النشر، ويظهر فيما بعد أن هذا الحظر ليس حماية للضحايا، أو الناجيات من تلك الاعتداءات، ولكن يأتي الحظر لأن الطرف الآخر من القضية، يعمل موظفًا عامًّا في الحكومة المصرية.
وتابعت المؤسسة في ورقة العمل، أن قرارات حظر النشر، صدرت في قضايا فساد مالي وإداري أيضا، فخلال فترة حكم الرئيس الأسبق مبارك أصدرت سلطات التحقيق قرارت بحظر النشر في 10 قضايا على الأقل، كان من بينها قضية محمد فودة، سكرتير وزير الثقافة الأسبق. والذي ألقي القبض عليه عام 1997.
وبعد ثورة يناير، جاء قرار حظر النشر الذى أصدره المستشار أحمد رفعت رئيس الدائرة الخامسة جنايات القاهرة فى قضية محاكمة مبارك والعادلي، و6 من مساعديه بتهمة قتل المتظاهرين والإضرار بالمال العام من خلال تصدير الغاز إلى إسرائيل، كما قررت محكمة جنايات الجيزة بتاريخ 3 نوفمبر 2012 حظر النشر في القضية المشهورة إعلاميًّا باسم “سخرة المجندين” المتهم فيها اللواء حبيب العادلي وزير الداخلية الأسبق، وعدد من معاونيه، وترى المؤسسة أن تلك القرارات حاءت مخالفة للمبادئ التي قامت عليها الثورة.
وتوالت تلك القرارات وصولا لعهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، ففي 2014 أصدر النائب العام قرارًا بحظر النشر في قضية تلقِّي رشوة، والمتهم فيها رئيس هيئة موانئ بورسعيد وستة متهمين آخرين وتم إصدار الحكم عليه بالسجن المشدد لخمس سنوات، وفي 2017 في قضية رشوة وزارة الزراعة المتهم فيها وزير الزراعة صلاح هلال و3 آخرون من أفراد عائلته، صدر قرار حظر النشر فيها القائم بأعمال النائب العام، وقد تم الحكم على المتهم ومدير مكتبه بالسجن عشر سنوات وبغرامة تقدر بمليون جنيه.
ضباط الشرطة متهمون بالقتل والتعذيب
قرارت حظر النشر، صدرت لحماية ضباط متهمين في جرائم قتل وتعذيب، ففي 22 أكتوبر 2011، حظرت محكمة جنايات الإسكندرية النشر في قضية مقتل خالد سعيد على يد الشرطة المصرية، وكان المتهمان قد حكم عليهما بالسجن لمدة 7 سنوات، لكنهما استأنفا الحكم، ثم أطلق سراحهما لانتهاء فترة الاحتجاز الوقائي.
كما أصدر النائب العام في عام 2015 قرارات بحظر النشر في قضيتي مقتل شيماء الصباغ ومقتل المحامي كريم حمدي، حيث تم اتهام أحد ضباط الأمن المركزي بقتل الناشطة السياسية شيماء الصباغ خلال اشتراكها في وقفة سلمية، وحكم عليه بالسجن 15 عامًا، ثم تم الطعن على الحكم وتمت إعادة المحاكمة ليصبح الحكم 10 سنوات بالسجن المشدد.
وأيضا قضية مقتل المحامي كريم حمدي والذي تم تبرئة المتهمين فيها، كان قد اتهم ضابطا الأمن بتعذيب حمدي حتى القتل، وعقب مرور عشرة أشهر تم الحكم على المتهمينِ بالسجن المشدد 5 سنوات، وبتاريخ 1 أكتوبر 2016 “قبلت محكمة النقض، الطعن المقدم من الضابطين على الحكم الصادر بحقهما من محكمة الجنايات بالسجن المشدد 5 سنوات، وقررت إعادة محاكمتهما أمام دائرة جنايات أخرى”، وبتاريخ 5 إبريل 2017 انتهى الأمر ببراءة المتهمينِ.
كيف انتهت القضايا التي تم حظر النشر فيها؟
البراءة كانت نهاية للقضايا التي صدت خلالها قرارات بحظر النشر، وفقا للتتبع الذي ذكرته ورقة العمل التي صدرت عن المؤسسة، لتصدر تساؤلاها، هل يتم استخدام حظر النشر في تلك القضايا كمقدمة للعبث بأدلتها؟ بما يحتويه ذلك على إفلات للجناة من العقاب وإهدار لحق المجتمع في العدالة ومعرفة الحقيقة، بل وإهدار لقيمة القانون نفسه، وما تحققه العقوبات المطبقة على المجرمين من ردع عام لغيرهم وردع خاص لهم، يمنعهم من العودة إلى تكرار الجرم.
لتجيب الورقة “قد تكون الإجابة بنعم وقد تكون بلا، إذ إن حظر النشر عادة ما يثير الشبهات، بدلًا من إتاحة وتداول المعلومات وترسيخ الحق في المعرفة للجمهور فيما يتعلق بالقضايا التي تنظرها السلطة القضائية، وخصوصًا في القضايا التي يتم اتهام موظفين رسميين فيها سواء من نفس السلطة القضائية أو من غيرها من سلطات الدولة”.