1- التعنت الأثيوبي ودموع التماسيح

أكثر من عشر سنوات من التفاوض حول سد النهضة -المشروع الأثيوبي الذي يهدد استمرار الحياة في مصر والسودان- وتعثر متواصل بفعل الإصرار الأثيوبي على أن تكون المفاوضات من خلال الاتحاد الأفريقي فقط رغم فشله المتكرر في حل النزاعات، حيث لا يملك آليات لذلك. مصر والسودان ذهبا من قبل للولايات المتحدة والآن يطالبان بلجنة رباعية تضم الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. وهو ما ترفضه أثيوبيا، ويدعونا ذلك إلى تأمل تطور العلاقات المصرية الأفريقية.

علاقات مصر الأفريقية ومسيرة طويلة

أيام الرئيس عبد الناصر كانت السياسة المصرية تعمل في عدة دوائر سياسية؛ الدائرة العربية والدائرة الأفريقية ودائرة دول باندونج وعدم الانحياز. وكانت مصر حاضرة وبشدة في قلب أفريقيا، واحتضنت القاهرة العشرات من حركات التحرر الوطني الأفريقية. كما تلقى العديد من الزعماء الأفارقة تعليمهم الجامعي في القاهرة.

كانت التجربة الناصرية داعمة لبومدين في الجزائر وجوليس نيريري في تنزانيا وباتريس لومومبا في الكونغو -اغتيل عام 1961- ثم التجربة الليبية في 1969. وقد بلور نيريري نظرية تشبه الناصرية سماها “الأوجاما” استهلمها من التجربة الناصرية التي اخذت عن التجربة الاشتراكية مع التمصير.

ثم جاء السادات وأصبح قادة حركات التحرر مطاردين، ومع دخول السادات نفق الخيانة المظلم كان لا يعرف إلا سفاحين أفريقيا أمثال عيدي أمين وموبوتو سيسيكو وغيرهم من السفاحين الأفارقة.

أما مبارك فكانت أفريقيا خارج اهتمامته إلى أن حدثت محاولة اغتياله في أديس أبابا عام 1995 وأعقبها انسحاب كامل من أفريقيا. بل وتعالى على أي دور أفريقي إيجابي.

الغريب أن تجربة نيريري لحقت بالتجربة الناصرية، والعقيد الشاب الثائر صاحب الكتاب الأخضر أصبح ديكتاتورًا مستبدًا، وانتهى به الحال في الماسورة ثم مغدورًا. وتلك الأيام نداولها بين الناس.

تضم دول حوض النيل كل من إريتريا – أوغندا – إثيوبيا – السودان – جمهورية الكونغو الديمقراطية –  جنوب السودان – بوروندي – تنزانيا – رواندا – كينيا – مصر. وهي منطقة مليئة بالصراعات -أكثر من 26 صراعًا- وتعيش على صفيح ساخن منها:

  • النزاع الحدودي الأثيوبي الصومالي علي منطقة الأوجادين، والذي أدى إلى الحروب في الأعوام 1964، 1977، 1982 بين الدولتين.
  • النزاع بين الصومال وكينيا علي إقليم “أنفدي”.
  • النزاع بين السودان وكينيا علي مثلث “أليمي”.
  • النزاع بين تنزانيا وكينيا.
  • النزاع الحدودي بين السودان وكل من إثيوبيا وإريتريا.
  • النزاع الحدودي بين كينيا وأوغندا.
  • النزاع الحدودي بين السودان وأوغندا.
  • النزاع بين الكونغو الديمقراطية وكل من أوغندا ورواندا.
  • النزاع بين رواندا وبوروندي.

في عهد مبارك وقعت مصر على الانضمام إلى اتفاقية السوق المشتركة للشرق والجنوب الأفريقي (الكوميسا) في 29/6/1998 وتم البدء في تطبيق الإعفاءات الجمركية على الواردات من باقي الدول الأعضاء اعتبارًا من 17/2/1999 على أساس مبدأ المعاملة بالمثل للسلع التي يصاحبها شهادة المنشأ معتمدة من الجهات المعنية بكل دولة.

وقد وقعت 9 دول من الأعضاء في الكوميسا بتاريخ 31/10/2000 على اتفاقية إنشاء منطقة التجارة الحرة بينها هي: ( مصر / وكينيا / السودان / موريشيوس / زامبيا / زيمبابوي / جيبوتي / ملاوي / مدغشقر) ، وانضمت إليها رواندا و بوروندي فى 1/1/2004 حيث تقوم تلك الدول بمنح إعفاء تام من الرسوم الجمركية المقررة على الواردات المتبادلة بينها شريطة أن تكون تلك المنتجات مصحوبة بشهادة منشأ الكوميسا.

لكن الكوميسا ومنطقة التجارة الحرة لم تعيد مصر إلى قلب أفريقيا، وفي مايو 2010 تم توقيع “اتفاقية عنتيبي“، بين 4 دول منفردة من حوض نهر النيل، في مدينة عنتيبي الأوغندية. وهي اتفاقية إطارية مثيرة للجدل تم التوقيع عليها في غياب دولتي المصب مصر والسودان، حيث وقّع ممثلو إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا بالأحرف الأولى على الاتفاق بعد مفاوضات منذ حوالي 10 سنوات بين الدول التسع التي يمر عبرها النهر من أجل تقاسم أفضل لمياهه، بينما أصدرت كينيا بيان تأييد للاتفاقية دون التوقيع ولم يحضر مندوبو الكونغو الديمقراطية وبوروندي. وهكذا أصبحت مصر تتحرك في قضية سد النهضة بدون ظهير أفريقي على عكس مراحل سابقة.

رغم أن الثورة المصرية حاولت استعادة العلاقات المصرية الأفريقية وأرسلت وفدًا شعبيًا لأثيوبيا بعد إعلانها عن تحويل سد الألفية إلى سد النهضة، كما سافر رئيس الوزراء إلى أثيوبيا في مايو 2011، إلا أننا لم نضع قضايا التنمية الأفريقية المستدامة المشتركة على جدول أعمال المجلس العسكري ومرسي ثم السيسي فوصلنا لما نحن فيه الآن.

كانت مصر قد جمدت عضويتها في مبادرة حوض النيل في أكتوبر 2010، وذلك كرد فعل بعد توقيع دول منابع النيل على “اتفاقية عنتيبي” في عهد مبارك وقبل ثورة يناير.

إن إهمال وتجاهل أفريقيا والتنمية المشتركة حول مصر أدى إلى نشاذ في الوسط الأفريقي رغم رئاسة مصر للاتحاد الأفريقي عام 2019 ولم يتم حل مشكلة سد النهضة، ولن تحل المشكلة قبل أن يغير النظام المصري سياسته وتوجهاته ويبحث عن العلاقات الاقتصادية والسياسية مع أفريقيا بشكل عام ودول حوض النيل بشكل خاص ويدعم المصالح المشتركة.

أثيوبيا ومواردها المائية

تزرف أثيوبيا دموع التماسيح على حقها في المياه والتنمية، وتروج لأن موقف مصر والسودان متعنت ويبرز عدم رغبة في التنمية الأثيوبية. وعندما نتحدث عن حصص مصر والسودان في مياه النيل نعرف أن حصص دول المصب لا تتجاوز 80 مليار متر مكعب سنويًا، وتمثل موارد النيل الأزرق 85% من موارد النيل بينما تأتي الـ 15% الباقية من النيل الأبيض.

مهم أن نعرف أن أثيوبيا لا تعاني أي نقص في المياه فهي تمتلك حوالي 24 حوض نهري ويصل حجم الأمطار عليها إلى 950 مليار متر مكعب في العام، منها 450 مليار م3 سنويًا داخل حوض النيل فى أثيوبيا. ويصل  حجم المياه المتمثل في التصرف الطبيعي للأنهار التى تنبع من أثيوبيا، وتجرى منها إلى خارج حدودها “قبل الشروع فى بناء السدود الأثيوبية”،  إلى 100 مليار م3 سنويًا. والكمية المتبقية والتى تصل إلى 850 مليار م3 سنويًا من المياه، تستخدم بالفعل داخل الأراضى الأثيوبية في الزراعات المطرية والمراعي الطبيعية والغابات. وبالتالي فإن أثيوبيا لا تعاني أي مشاكل نقص في المياه اللازمة للزراعة والرعي بل أن 850 مليار م3 من الأمطار تتبدد داخل حدودها.

تتساقط الأمطار علي الهضبة الأثيوبية خلال شهور الصيف من يوليه إلى سبتمبر، حيث توجد عدة أنهار تنبع من حوض الهضبة الأثيوبية، التي يبلغ ارتفاع منسوبها نحو ألفي م3 فوق سطح البحر، وتختلف الهضبة الأثيوبية عن هضبة البحيرات في طبيعتها ومواردها المائية، ومن أهم هذه الأنهار:

  • النيل الأزرق

يُعد الرافد الأعلى في المنسوب، حيث ينبع من أعلى الهضبة، بارتفاعات تراوح بين ألفين إلى ثلاثة ألاف م3 فوق سطح البحر، وينبع النهر من خلال عدد من العيون الجبلية جنوب بحيرة تانا، ويتميز مجرى النهر بوجود العديد من المستنقعات والأخوار والأحراش الزراعية، ويمتد جريانه حتى يلتقي بالنيل الأبيض عند الخرطوم. ويصب في نهر النيل الأزرق رافدان هما فرعا الدندر والرهد، اللذان ينبعان من الجبال الإثيوبية، ويصبان في النيل الأزرق. ويلتقي النيل الأبيض، الذي يتكون من إيراد نهر السوباط وبحر الجبل، بالنيل الأزرق عند الخرطوم، ويسمى عندئذ بالنيل الرئيس.وقد أنشئت السودان خزانان على النيل الأزرق، هما خزان سنار وخزان الروصيرص، لتخزين 3.5 مليار م3 فقط من المياه سنويًا.

  • نهر السوباط

يتكون نهر السوباط من فرعين رئيسين، ينبعان من الجانب الجنوبي لجبال أثيوبيا، المتاخمة للحدود الشرقية للسودان، هما البيبور والبارو، ويعد البارو هو الرافد الأكبر وينبع من خلال ممرات جبلية ضيقة وعميقة، بينما البيبور يمر من خلال أخاديد من هضبة الأباسينيا والبارو.

  • نهر عطبرة

ينبع من الهضبة الأثيوبية، على مقربة من بحيرة تانا، من ارتفاع ألفي م3 فوق سطح البحر، ويتغذى من رافدين هما نهر السلام، ونهر التكازي.

تقدر كمية المياه السطحية الأثيوبية بنحو  122 مليار م3، يتجه منها نحو 97 مليار م3 خارج الأراضي الأثيوبية، موزعة كالنحو التالي: مصر والسودان 80 مليار م3، وكينيا 8 مليار م3، والصومال 7 مليارات م3، وجيبوتي ملياري م3، ويتبقى 25 مليار م3 داخل الأراضي الإثيوبية.

إذن أثيوبيا لديها فائض مائي كبير علي عكس مصر التي تأتي في المرتبة الأخيرة من حيث متوسط كمية الأمطار السنوية، أو بإيراد نهر النيل. رغم وفرة المياه في إثيوبيا، إلا أنها لم تستفد بأكثر من 3% من كمية الأمطار السنوية، حيث يبلغ نصيب الفرد 38 م3 سنوياّ، طبقاً لتقرير الأمم المتحدة لمؤشر التنمية البشرية، لعام 2009. وبذلك تحتل إثيوبيا المرتبة 171 من نصيب الفرد المائي، من أصل 182 دولة.وهي لذلك تعكف على إيجاد حلول لأزمة المياه عن طريق إنشاء السدود والخزانات على ضفاف النهر الخالد، وأهدافها حجب المياه وتكديسها للري، وتوليد وبيع الطاقة الكهربائية لدول الجوار، وتحقيق مكاسب اقتصادية.

لذلك تقر اثيوبيا أن هدفها من إقامة السدود ليس توفير المياه للزراعة والرعي بل الهدف هو توليد الكهرباء .ولكنها في بداية المشروع كانت تتحدث عن سد بسعة 11 مليار م3 ثم رفعت سعة السد حتي وصلت إلي 74 مليار م3 وذلك بهدف توليد الكهرباء حيث تستهدف زيادة طاقة توليد الكهرباء بها من 4300 ميجاوات حاليًا إلى 17300 ميجاوات، من خلال مشاريع الطاقة المائية والحرارية الأرضية والشمسية والحيوية، ومنها سد النهضة الذي ستبلغ طاقة إنتاجه 6450 ميجاوات. إلا أنه في أغسطس الماضي أعلنت أثيوبيا وقف تصدير الكهرباء إلى السودان، وتقليل الكمية المصدرة إلى جيبوتي؛ إثر أزمة انقطاعات متتالية للكهرباء في البلاد. وعلى خلفية ذلك قال سليشي بقلي، وزير المياه والري الإثيوبي، خلال مؤتمر صحفي، إن السدود الأثيوبية تعاني نقصًا حادًا في المياه؛ بسبب شح الأمطار في مختلف أنحاء البلاد، ما أدَّى لنقص إنتاج الطاقة الكهربائية. وأضاف أن البلاد تعاني نقصًا في إنتاج الكهرباء يقدر بنحو 476 ميجاوات. وعليه ستقوم الحكومة الأثيوبية بوقف تصدير الكهرباء إلى السودان، وتقليل الكمية المرسلة إلى جيبوتي.

مخاطر وأمان سد النهضة

يشكل سد النهضة -بحجم وسعة التصميم الحالي 74 مليار م3- كارثة في حالة انهياره، خاصة وأنه مفتقد للدراسات الجادة ودراسات أمان السد. ولقد طلبت منظمة السدود الدولية تقديم 8 أنواع من دراسات أمان السد ولم تقدم أثيوبيا منهم دراسة واحدة. كما تم خلال المفاوضات اختيار مكتب استشاري فرنسي لإجراء دراسات أمان السد ورفضت أثيوبيا إجراء الدراسات، وهو ما يزيد من مخاوف انهيار السد، خاصة أن ذلك لن يضر أثيوبيا لأن أرض السد مرتفعة بأكثر من 650 م عن سطح البحر وعلى بعد أقل من 40 كم من الحدود السودانية، لكن المخاطر لا تقف عند هذا الحد بل توجد عدة مخاطر أخرى منها:

يرى الدكتور عباس شراقي أستاذ الجيولوجيا بجامعة القاهرة أن صخور سد النهضة رغم أنها نارية ومتحولة إلا أنها شديدة التحلل والتشقق، وليس هذا هو العامل الجيولوجي الوحيد الفيصل في أمان السد بل هناك العديد من التحديات الجيولوجية الفريدة في الهضبة الأثيوبية أهمها:

  • المبالغة فى حجم سد النهضة، زيادة سعة الخزان من 11.1 مليار متر مكعب كما جاء فى الدراسات الأمريكية إلى 74 مليار متر مكعب بدون دراسات هندسية دقيقة.
  • سد النهضة يبعد حوالى 500 كم فقط عن أكبر فالق على سطح الأرض وهو الأخدود الأفريقي العظيم، والذي يقسم أثيوبيا نصفين، ما يزيد احتمالات انهيار السد.
  • صخور منطقة سد النهضة جرانيتية شديدة التحلل والتشقق.
  • تنبع مياه النيل الأزرق من قمم الجبال البركانية البازلتية التي تصل إلى 4620 مترًا إلى سد النهضة عند منسوب 500 إلى 650 متر فوق سطح البحر في انحدارات شديدة.
  • يغلب على معظم مناطق حوض النيل في السودان الصخور البركانية البازلتية سريعة التحلل لتكوين كميات كبيرة من الطمي.
  • أثيوبيا الأولى عالميًا في شدة انجراف التربة والأطماء.
  • تسقط المياه بغزارة في يوليو – أغسطس – سبتمبر، ويصل متوسط التصرف اليومي إلى أكثر من 600 مليون متر مكعب، ما يشكل فيضانات شديدة.
  • السد المكمل ركامي وطوله 5 كيلومترات وارتفاعه 50 مترًا، ومقوس بحيث الجهة المقعرة فى اتجاه البحيرة ما يسبب ضعفه.
  • تنتشر في أثيوبيا بالكامل ظاهرة الانزلاقات الأرضية وتساقط الصخور بفعل التشققات والأمطار الغزيرة وقوة اندفاع المياه والفيضانات الطميية.
  • أثيوبيا هي أكثر الدول الأفريقية نشاطًا للزلازل حيث شهدت 8 زلازل في الخمس سنوات الأخير من 4 إلى 5.2 ريختر.
  • تتميز أحواض الأنهار الأثيوبية بالأودية الضيقة والعميقة، متوسط عمق النيل الأزرق 500 م، وتصل إلى 2000 م في بعض المواقع.
  • لاتوجد أراضي مسطحة حول سد النهضة أو بحيرة للتخزين.

لكل هذه الأسباب يصبح سد النهضة عديم الأمان وخطر على الحياة في السودان في حال انهياره، بل وقدرت بعض الدراسات أن ارتفاع المياه قد يصل في الخرطوم إلى 100 متر. لذلك فإننا لسنا ضد التنمية في أثيوبيا بل حريصين عليها بما لا يضر استمرار الحياة في السودان ومصر. وإذا كان الهدف توليد الكهرباء فهي تحتاج لسد بسعة 11 مليار متر مكعب وليس 74 مليار متر مكعب، فالهدف هو تغطية احيتاجاتها من الكهرباء وليس حجب المياه عن مصر والسودان وتعطيشهما ثم بيعها وتصدير الكهرباء. كما يمكن من خلال مشاريع التكامل الأفريقي أن تصدر مصر فائض الكهرباء لديها إلى أثيوبيا، فهي أهم من تصدير الكهرباء الي أوروبا.

يجب أن تكون هناك مشاريع تكامل مشتركة للدول الأفريقية ودول حوض النيل، وأن تبادر مصر إلى طرح حلول لمشاكل الكهرباء في السودان وأثيوبيا. فهذه مهمة مصر وليست مهمة الصين وإسرائيل. لكن تصريحات أحد الوزراء الأثيوبين ببيع المياه للسودان ومصر يكشف عن النوايا الحقيقية لتعطيش مصر والسودان. إن الحق في المياه تكفله العديد من الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها مصر، أما حجز المياه وتسليعها فهي خطة سوداء يقودها البنك الدولي منذ سنوات. ولذلك حديث آخر.

للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا