في حفل كبير بقصر ثقافة المنصورة، في أبريل 2012، تحت عنوان الانطلاقة الخامسة، كان اللقاء الأول بيني وبين زوجي الطبيب وليد شوقي، والذي كان حينها أحد قيادات حركة شباب السادس من أبريل، والتي كانت تحتفل بانطلاقتها في حفل ذهبت لتغطيته إعلاميًا. وكانت هي المرة الأولى التي أغطي فيها حدثًا صحفيًا، بعد عملي بأحد المواقع الإلكترونية حينها.
بعد الحفل، كنت بصحبة صديق لي كان صديقًا لأعضاء الحركة وهو من أخبرني بموعد الحفل لتغطيته، وقف ليهنئ الأعضاء، وكنت إلى جواره، وسألني وليد: “انت بتشتغلي فين؟” لأرد عليه بحماسة لا أعرف سببها “في جريدة المشهد”، ليبدي عدم اهتمام بالأمر وهو يشيح بوجهه للجانب الآخر “أه دي جديدة دي”، فلم أرد عليه، وأخبرت صديقي المشترك أنه “بيتنك على إيه”.
ذهبت للمنزل لأجد طلب صداقة منه، قبلته دون تردد، ودخل ليشكرني على قبول الطلب، وبدأ الحديث الذي استمر حينها حتى الثالثة صباحًا، لأستيقظ في اليوم التالي على مكالمة هاتفية منه يسألني عن أحوالي وماذا سأفعل اليوم، ومن هنا بدأت الحكاية التي جمعتنا حتى زواجنا في 2016، ولم تنته بعد، فقط يمكن أن يطلق على ما نمر به الآن فاصل خلف جدران السجن، فهي ليست النهاية.
تأتي تلك الأيام مع حلول شهر رمضان، ثقيلة على قلبي، أكرهها وأكره قدومها، فهو العام الثالث الذي نقضيه أنا وابنتي وحيدين دون وليد، ليقضي هو شهر رمضان في زنزانة صغيرة أو كبيرة لا أعرف، لا يهم تصميمها، فهي تجمعه هو ومن معه دون ونيس، في شهر يجتمع فيه الأحباء.
في العامين ونصف السابقين، عشت مرتين متتاليتين كواليس هذا الشهر في طرة، العام الأول قبل أن يحل الوباء، والعام الثاني في حضرة الوباء. وها هو العام الثالث يأتي وما زال الوباء موجودا، وما زال زوجي محبوسا أيضا.
قبل حلول الشهر الكريم، تمتلئ الشوارع والميادين بمظاهر قدومه، التي تشعر البعض بالفرحة، وتشعرني بقبضة في القلب والروح، وغصة لا تزول ترافقني لمدة 30 يوما، على مائدتي الإفطار والسحور، صور الزينة والفوانيس تزيد من تلك الغصة التي لا تنتهي.
في اليوم الأول من الشهر، تجتمع أسرتي حول مائدة الإفطار، فيأتي أشقائي لزيارة والدتي والتجمع والإفطار سويًا، حول سفرة بمقعد فارغ غاب صاحبها، فشقيقي يجلس بجوار زوجته وأولاده، وأجلس أنا وحيدة بجوار ابنتي، وسط محاولات من ووالدي ووالدتي لتخفيف الأمر علي، وأتظاهر بأنني بخير، ولكن الحقيقة أنني لست بخير، لست بخير منذ 14 أكتوبر 2018، منذ القبض على زوجي ووضعه كواحد من معارضي الرأي، ليصنف كسجين سياسي لا نعرف متى تنتهي مدة الحبسة المتجددة طيلة الوقت.
المشهد السابق هو المشهد الأهون، هناك مشاهد أكثر قسوة، ونحن متراصون أمام باب السجن لإدخال الزيارات، لا غطاء فوق رأسنا يحمينا من أشعة الشمس، نرغب في رشفة ماء، وتتواري سيدات ورجال للحصول عليها في الخفاء، خوفا من اتهامهم بالبعد عن الدين، ولكن أي دين يدعو الإنسان للموت، نعم موت، فالطابور تحت درجة حرارة تتخطى الأربعين درجة دون ماء أو طعام موت، وأنا أعلم أن الله يحب أن تؤتي رخصة، وهذا هو الوقت المناسب لرخصته التي ربما تهون العطش، ولا تهون غياب الونيس.
زيارات السجن في شهر رمضان هي الأقسى، فالزحام سيد الموقف لأن أمهات وآباء وأشقاء يرغبون في إدخال طعام لمن بالداخل في هذا الشهر، يأتون من محافظات مختلفة، ليبدأ التسجيل في السادسة صباحا، ونستمر في الأدوار والوقوف في الطابور حتى حلول العصر، نسلم الطعام.
في العام الماضي ومع حلول وباء كورونا، منعت الزيارات، وكانت زيارة واحدة أسبوعيًا يطلق عليها الطبلية، لإدخال الطعام فقط، وبعد فتح الزيارات مع اتخاذ التدابير الاحترازية المتمثلة في سلك يفصل بيننا وبين المسجونين، أعلنت وزارة الداخلية منح السجناء زيارتين لرؤية السجناء خلال شهر رمضان هذا العام، من وراء السلك.
في العامين الماضيين لم تعرف ابنتي صاحبة الأربع أعوام، ما هو رمضان جيدًا، ولم تنتبه للفانوس الذي أحضرته لها والدتي، لكنها بدأت تنتبه له هذا العام، واشترينا “طمطم”، بناء على طلبها، بعد رؤيتها بأحد المحلات، ومع الفواصل الإعلانية التي تأتي في التليفزيون، ومعها تردد أغاني رمضان، تبدأ في وصلة رقص أتمنى أن يراها والدها وهي تؤديها، فتركها وهي صغيرة لا تعرف تلك الحخركات تعملتها وهو بعيدا عنها، لا يراها، فقط أحكي له عن تلك الحركات التي تكتسبها يوما عن يوم.
تعودت مع حلول الشهر الكريم، ألا أستقبل المعايدات أو التهاني التي ترسل عبر الإنترنت أو الهاتف، أتجاهلها ولا أرد عليها، فهي ليست أيام كريمة بالنسبة لي، أيام فقط تشعرني بمزيد من المرارة والأسى، تأتي عند تناول الطعام، وفي كل وقت، أوؤجل تلك المعايدات حتى خروج زوجي لنستقبلها سويا.
أحاول الرجوع بالذاكرة للوراء، وتذكر ماذا كنا نفعل في هذا الشهر من قبل، قبل تلك الأزمة، لا أتذكر، لا أستطيع، هل محيت جميع الذكريات وبقيت طرة ومن حولها فقط، هل أصبحت الحياة أمنيات بلقاء لا نعرف متى سيأتي ومتى موعده، ولكن أعلم جيدًا أنها ليست النهاية، فالنهاية لن تكتب بعد.
مرت علاقتي بوليد بالعديد من المحطات العثرة، قبل الزواج وبعده، كانت تقودنا تلك المحطات للتفكير في الانفصال، ولكنها برغم قسوتها حينها، إلا أنها المحطات الألطف على الإطلاق، الأخف والأهون من تلك الأوقات التي لا مثيل لها، وخاصة بتلك الأيام، التي تجهز خلالها مائدتي الإفطار والسحور 60 مرة، ومعها أفكر ماذا يأكل زوجي في هذا التويت، وهل أخذ كفايته من الماء حتى لا يشعر بالعطش، وهل يبدأ إفطارة بطبق من الشوربة الساخن كما كان يفضل، ثم يتناول العصائر باقي اليوم، أم أنه حرم من الاختيار، بداية من اختيار وجوده داخل السجن وحتى اختيار الطعام الذي يتناوله.
أحاول اليحث عن الأطعمة التي يحبها وليد لإدخالها له في الزيارة، ولكنها لا تدخل على صورتها الأصلية، فالمكرونة التي يفضل تناولها، تدخل بعد ما يقرب من يوم من إعدادها ويتغير طعمها، والعصائر التي يفضلها لا يسمح دخولها طوال الوقت، وأيضًا الحلويات ممنوعة في أوقات كثيرة، وعند السماح بالبسبوسة تصبح كتلة واحدة دون معالم، بعد تفتيشها أكثر من مرة للتأكد من عدم حقنها بمواد مخدرة، كما يقول القائمين على التفتيش.
بعد محاولات إدخال الطعام التي تتم 4 مرات شهريًا خلال تلك الأيام، ومعه زيارتين استثنائيتين هذا العام، أذهب للمنزل بعد ضربة شمس تصيبني، لأفكر في ما سأتناوله على الإفطار، وينتهي بي الأمر لطلب طعام جاهز يصلني فأتركه في كيسه وأخلد للنوم، وأستيقظ لأتناول كوب من العصير، ويظل كيس الطعام محكم كما هو، ليصبح إفطار اليوم التالي.
بعد رمضان يحل عيد الفطر وتأتي معه مشاعر مشابهة، فالتجمعات تنقصها شخص يسأل عنه الجميع، ويتمنى عودته من سجنه ليقضي ما فاته، أو يحاول، ومع الـ30 يومًا، تخرج 30 دعوة مني ومن والدتي ووالدته وأصدقائه ومحبيه، لم يستجاب لها بعد، أظن أننا سنكررها هذا العام لعل الله يستجيب لأحدنا، ويخرج وليد لجلس على مقعده الفارغ.