أظهرت خطوات التقارب بين مصر والسودان خلال الفترة الماضية بخصوص ملف سد النهضة الإثيوبي، أنّ ثمة جوانب أغفلها البلدان لسنوات، رغم كونها أحد أهم مرتكزات الأمن القومي للبلدين.
هذا التقارب لفت أنظار الحكومة المصرية لأهمية تحقيق التكامل الاقتصادي مع السودان. ذلك البلد الذي يتمتع بالعديد من الفرص الاستثمارية والاقتصادية الهائلة. فكانت زيارة وزير المالية الدكتور محمد معيط، ووزير النقل الفريق كامل الوزير، كبداية لاستطلاع الفرص والنوايا مع السودان.
“تكليفات رئاسية بوضع الاقتصاد المصري في خدمة الاقتصاد السوداني”. بتلك العبارة اختتم معيط زيارته للسودان التي استمرت يومين التقى فيها المسئولين عن السياستين المالية والنقدية.
ويرى مراقبون أن الانفتاح الكبير في التعاون الاقتصادي بين البلدين يأتي نتيجة المخاوف المشتركة من تأثيرات سد النهضة الإثيوبي. خاصة أن المشروعات التي يجرى الإعداد لتنفيذها طرحت كثيرًا خلال السنوات الماضية إبان حكم مبارك.
وزير المالية أكد التكليفات رئاسية بترسيخ دعائم الشراكة التنموية بين شعبي وادي النيل، بما يصب في مصلحة البلدين. ويدفع مسيرة التكامل الاقتصادي على نحو يتسق مع خصوصية العلاقات التاريخية والروابط.
تحمل تلك تصريحات إشارة إلى التكامل الاقتصادي الذي يتم التطرق إليه بلهجة أكثر وضوحًا وقوة من المحاولات السابقة التي تعود إلى مطلع السبعينيات. عندما وقّعت أول اتفاقية للتكامل بين البلدين إبّان حُكم جعفر النميري. دون الاكتفاء بالجمل البروتوكولية المعتادة المتعلقة بزيادة حجم التبادل التجاري وتذليل العقبات.
بداية التكامل بين مصر والسودان
والتكامل الاقتصادي يبدو ترجمة ضعيفة لـ”الاندماج الاقتصادي”. بالإضافة إلى توحيد السياسات الاقتصادية بين عدة دول من خلال إلغاء جزئي أو كامل للقيود الجمركية وغير الجمركية. قبل اندماج تلك الدول بشكل كامل أو جزئي. ذلك التكامل بدوره يؤدي إلى انخفاض الأسعار لكل من الموزعين والمستهلكين الناتج عن زيادة الإنتاجية الاقتصادية المشتركة للدول.
وتلا اتفاقية السبعينيات، أخرى عام 1982 تتعلق بمشروعات مائية وزراعية واقتصادية عامة. لكن تم تعليقها في أعقاب سقوط نظام النميري عام 1985. بينما أعلنت حكومة الصادق المهدي ميثاق الإخاء عام 1987، كإطار سياسي جديد. لكن العلاقات المصرية السودانية تراجعت كثيرًا مع حكم الإسلاميين في السودان. خاصة بعد محاولة الاغتيال الفاشلة للرئيس الأسبق محمد حسني مبارك عام 1995.
ويبدو أن التكامل الذي تسعى مصر والسودان لتطبيقه يتضمن جميع المجالات. خاصة في ظل جدول أعمال الوزير المصري الذي التقى خلال زيارته ووزراء المجموعة الاقتصادية ورئيس الحكومة السودانية. بالإضافة إلى محافظ البنك المركزي السوداني، ومسئولي الضرائب، والجمارك. كذلك مدير عام الجهاز المركزي للإحصاء، وأعضاء اتحاد أصحاب العمل السوداني، ووالي الخرطوم.
مصر والسودان جيران.. والتبادل التجاري ضعيف
ولا يزال حجم التبادل التجاري بين مصر والسودان ضعيفًا لكنه في ارتفاع بعدما سجل 674.5 مليون دولار بـ2019 مقارنة بـ610.9 مليون دولار بـ2018. بنسبة ارتفاع بلغت 10.4%، الأمر الذي يمثل تطورًا إيجابيًّا وملموسًا على صعيد المبادلات التجارية بين البلدين. ورغم ذلك يُعد حجم التبادل التجاري بين البلدين منخفضًا مقارنة بعام 2017 بمقدار 113.9 مليون دولار.
ويمثل الجانب الزراعي أول المجالات التي يسعى البلدان للتكامل فيها في ظل اجتذاب السودان استثمارات أجنبية في الزراعة والإنتاج الحيواني بـ13 مليار دولار. لكنها لا تزال غير كافية لاستثمار موارد فإجمالي المساحة المستغلة من الأراضي الزراعية به لا تتجاوز الـ 20% من إجمالي حجم المساحة المتاحة.
كذلك دخلت الكثير من دول المنطقة باستثمارات قوية في ذلك المجال، خاصة دول الخليج. فقبل خمس سنوات صادق البرلمان السوداني على توفير مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة للسعودية ضمن مشروع أعالي نهر عطبرة الزراعي. بينما يقوم الطرف السعودي باستصلاحها تنفيذًا للاتفاقية التي تمتد إلى 99 سنة.
وحصلت البحرين على 100 ألف فدان من الأراضي الخصبة في السودان، وفقًا لاتفاق استثماري في مجال الأمن الغذائي والثروة الحيوانية والسمكية. لزراعة محاصيل رئيسية واستيراد المواشي واللحوم المبردة، أسوة بالمساحة التي منحها السودان لدولة الإمارات في الولاية الشمالية.
وتمتلك قطر 230 ألف فدانًا من الأراضي الزراعية بالسودان، حصلت عليها في فترة التعديلات الدستورية التي نصبت البشير. استنادًا على تعديلات قانون مشروع الجزيرة الذي يتيح بيع أراضي المشروع.
ولدى الكويت استثمارات في شركة “سكر كنانة” و13 مشروعًا في مجال الإنتاج الحيواني والزراعي. لتأتي الاستثمارات الكويتية في المرتبة الثالثة بعد السعودية والإمارات من حيث الحجم.
وتواجه الأراضي السودانية بعض التحديات التي يمكن التعامل معها بسهولة لتخضيرها. أهمها الانحلال البيئي الذي سببه الجفاف في فترات سابقة. وأتى معه بمشكلات أمنية مع نزوح قاطنيها لينافسوا سكانها الأصليين على الموارد. وهي سبب رئيسي لمشكلات دارفور التي كانت تسكنها قبائل البرقد والبرتي والداجو قبل أن يفد إليها قبائل الزغاوة.
الصادرات المصرية
تُعد المنتجات البلاستيكية من أهم بنود الصادرات المصرية للسودان خلال عام 2019؛ بقيمة بلغت قرابة 81.4 مليون دولار. مقارنة بنحو 76.7 مليون دولار خلال عام 2018 بنسبة زيادة بلغت 6.1%. بينما تمثل صادرات مصر إلى السودان نحو 4% من إجمالي صادرات مصر.
وجاء الحديد والفولاذ ثانيًا بقيمة 50.8 مليون دولار خلال 2019، ولكنها منخفضة بنسبة 30.1 % مقارنة بعام 2018. تليها الأسمدة بقيمة بلغت 41.8 مليون دولار خلال عام 2019. مرتفعة بنسبة بلغت نحو 568.8% مقارنة بعام 2018. ثم الزجاج بقيمة 29.4 مليون دولار فالأدوية والمواد النسيجية سادسًا بقيمة 24.3 مليون دولار. ومنتجات الورق والورق المقوى بقيمة 17.2 مليون دولار في الترتيب السابع.
واردات كبيرة
تتركز الواردات المصرية من السودان في البذور والفواكه الزيتية بقيمة 83.9 مليون دولار. والحيوانات الحية بقيمة 45.9 مليون دولار. والقطن بقيمة بلغت 45.5 مليون دولار واللحوم والأحشاء والأطراف الصالحة للأكل بقيمة 26.8 مليون في 2019. وتشكل معًا حوالي 97.7% من إجمالي قيمة واردات مصر من السودان من البنود كافة.
يقول الدكتور عوض الترساوي، نائب رئيس الجمعية المصرية للتمويل والاستثمار، إن العلاقات المصرية السودانية تتضمن العديد من عناصر القوة. كما أن تلك العناصر تعززها بدابة من وحدة الجغرافيا والتاريخ التي تسهل حركة رؤوس الأموال والعمالة.
وفي أغسطس 2014، افتتح معبر أشكيت – قسطل الحدودي بين القاهرة والخرطوم. بينما عكست الخطوة رغبة القاهرة والخرطوم في التقارب بين البلدين في وزيادة حجم التبادل التجاري. كما أنه يعمل على تسيير حركة البضائع والركاب وبشكل طبيعي دون توقف منذ افتتاحه.
كما شهدت اللجنة العليا بين البلدين نشاطًا كبيرًا حتى أصبحت تضم 30 لجنة مشتركة، تم تقسيمها إلى قطاعات. وكان أهمها السياسي، الأمني، القنصلي، العسكري، الاقتصادي والمالي، النقل، التعليم والثقافة، الخدمات، والزراعة والموارد المائية. كما شهد رئيسا البلدين في أكتوبر 2016 مراسم التوقيع على 13 اتفاقية ومذكرة تفاهم.
5 مجالات مهمة.. استفادة مشتركة من الطرفين
وأضاف الترساوي أن مصر لديها استثمارات، مباشرة وتراكمية، في السودان تتجاوز الـ2.7 مليار دولار. كما أنها تشهد نقلة للأمام مع مشروع الربط الكهربائي بين الدولتين، على اعتبار أن توفير الطاقة الكهربية يعني التوسع في المشروعات والشراكات في النقل أو التصنيع أو التصدير.
كذلك أكد أن مصر لديها تبادل تجاري كبير مع السودان في 5 مجالات مهمة. منها الأدوات الكهربائية والمنتجات الدوائية والسكر والسمسم وبعض الحبوب. فضلًا عن الشراكة في استصلاح 100 ألف فدان في مقاطعة النيل الأزرق.
ووفقًا لوزارة الطاقة والنفط السودانية، فإن حجم الطاقة الكهربائية المنتجة في البلاد تغطي 42% من جملة 4 آلاف الطاقة التصميمية للكهرباء بالبلاد. في ظل عجز 58%، وتلتزم الحكومة بتوفير 250 مليون دولار شهريًا لتأمين الوقود اللازم لتشغيلها. و10 ملايين لشراء قطع الغيار والتزامات المقاولين والاستشاريين.
وبلغ حجم الفائض المحقق من الكهرباء خلال الربع الأول من العام الجاري، نحو 8.7 ميجا وات/ ساعة. إذ بلغ الاستهلاك 34.1 ميجا، مقابل 43.8 ميجا حجم الكهرباء المنتجة. وفق بيانات رسمية وثقها تقرير إحصائي حديث صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وأوضح نائب رئيس الجمعية المصرية للتمويل والاستثمار أن مصر تمتلك خبرات كبيرة في قطاع الكهرباء. إذ أصبح لديها فائض من التيار للربط الكهربائي. كما أكد إمكانية إقامة مصانع وتوفير البنية التحتية الأساسية لإنشاء مصانع ترتبط بالأمن الغذائي. خاصة أن هناك شراكة في إنتاج اللحوم الحيوانية على مساحة 40 ألف فدان في النيل الأزرق بين مصر والسودان.
وأظهرت بيانات رسمية، تسجيل إجمالي الواردات المصرية من اللحوم في 2019، نحو 108 ملايين و834 ألف دولار. بعدما أصبح لديها إنتاج ذاتي من اللحوم بنسبة حوالي 54% من احتياجاتها. لكن يمكن للمشروعات المشتركة بين مصر والسودان أن تحقق الاكتفاء الذاتي خاصة مزرعة اللحوم المشتركة بالنيل الأزرق.
قفزة كبيرة
يقول خالد الشافعي، الخبير الاقتصادي ورئيس مركز العاصمة للدراسات الاقتصادية، إن حجم التبادل التجاري بين البلدين لا يجب أن يقل عن ملياري دولار. خاصة في ظل وفرة المواد الخام في السودان، وفائض المواد المصنعة في السلع الذي يحتاجها ومتواجد في مصر.
ويمكن شراء طن السمسم بقيمة 1750 دولار من الأسواق السودانية ثم تعيد تنظيفه وتعبئته في عبوات صغيرة ويباع بسعر أعلى لأوروبا. والحال ذاته لفول الصويا الذي تعتمد عليه في إنتاج البروتين النباتي وتقدم تمويلًا بقيمة 630 ألف دولار للسودان لإنتاجه.
وأضاف الشافعي أن مصر لديها فائض كبير في الطاقة يمكن تصديره للسودان بجانب مواد البناء والسلع الإلكترونية. بينما لديها عجز في اللحوم والحبوب والأعلاف وهو ما توفر بشدة في الجنوب. كما أن التكامل بينهما ينتج في النهاية اقتصاد مشترك يملك مقدراته الإنتاجية.
وأكد أن المشروعات المشتركة حاليًا ستدفع بصورة أكبر نحو التكامل مثل مشروعات النقل عبر النيل والسكك الحديدية وشبكة الطرق. وكلها ستؤدي في النهاية لتسهيل حركة السلع والبضائع من وإلى البلدين.