عاش مكرم محمد أحمد “1935 -2021” طوال 50 عامًا في بلاط صاحب الجلالة، وكان حاضرًا بقوة في المشهد العام. عرف من أين تؤكل الكتف وفهم كيف يسير الإعلام جنبًا إلى جنب مع أهل السياسة. من الممكن أن تختلف إلى ما آلت إليه الأمور وكيف أنهى مسيرته. لكن لا مجال للخلاف على فطنته وتفانيه في المهنة، ومواقفه الثابتة والجريئة التي تقف شاهدة على مسيرة من العطاء.

توفى مكرم رئيس المجلس الأعلى للإعلام السابق، بعد صراع قصير مع المرض، عن عمر يناهز 85 عامًا.

عاصر 5 رؤساء وملك

ولد مكرم في المنوفية عام 1935، ودرس الفلسفة في آداب القاهرة، ثم التحق بصحيفة “الأهرام” ليعمل محررًا للحوادث والتحقيقات عام 1958. بعدها تحول إلى مراسل حرب حيث غطى حرب اليمن، والصومال وإثيوبيا. بالإضافة إلى تمرد الأكراد في شمال العراق.

كان مكرم محمد أحمد حاضرًا في ثورة 23 يوليو 1952 وذرف الدموع عندما سقط الملك فاروق، قبل أن يأتي جمال عبدالناصر، على رأس السلطة. توّهج في ظل الرئيس السادات، ومن ثم مبارك، مرورًا بالرئيس الإخواني محمد مرسي والرئيس عدلي منصور قبل أن يعاصر الرئيس عبدالفتاح السيسي.

خلال مسيرته المهنية عرف بمدى قربه من الأنظمة التي مرت على دوائر الحكم. فتارة حظي بعلاقة فاترة وتارة كان الصحفي المقرب إلى السلطة، كانت أولى خطواته مع الرئيس السادات.

بدأ حضوره يطغى على الجميع عندما دعم الرئيس الراحل محمد أنور السادات في اتفاقية كامب ديفيد. وكان أكثر من ينشر عنها ويتابع أخبارها يومًا تلو الآخر، فكان حينها يشغل منصب مدير تحرير الأهرام. وكان على المستوى الشخصي مؤيدًا لتلك الخطوة لذا عمد إلى استخدام أدواته. إلا أن أندفاعه لم يكن على هوى السادات، حيث نهاه عن نشر أخبار المفاوضات لحين الانتهاء منها. إذ يزيد النشر تأزم الموقف السياسي وقتها.

مرحلة السادات

وعندما أنهيت بنود اتفاقية كامب ديفيد، كان “مكرم” أول من نشر الاتفاقية كاملة في الأهرام ليحقق أعلى مبيعات في تلك الفترة حيث طبع 6 طبعات في يوم واحد.

عُرف مكرم بقربه من السادات، ويقول عن تلك العلاقة: “إن علاقتي بالرئيس الأسبق محمد أنور السادات كان فيها قدر من الاحتياج المتبادل. كان هناك احترام متبادل بيني وبين السادات حتى أن الرئيس كان يتحدث لي عن أبسط الأمور”.

لم تكن بداية التواصل بين مكرم والسادات على خير ما يرام، بل كان الأمر في البدء ينذر بعلاقة فاترة. إذ كان السادات يرى أن مكرم تلميذ محمد حسنين هيكل. بل كان يرى أنه لم يكن يحرك ساكنًا إلا بأمر من هيكل.

يقول مكرم عن تلك المرحلة: “السادات كان يتصور أني تلميذ هيكل، وأنني لا أفعل شيئًا إلا بتوجيه من هيكل. ربما ماليش وجود إلا في ظل هيكل”.

استطاع أن يقرأ “مكرم” المشهد سريعًا، وانتزع نفسه من تحت مظلة هيكل ليدخل تحت مظلة السادات. كما بدأ عصر جديد بدور فعال وواضح.

العلاقة مع مبارك “بين بين”

عندما وصل الرئيس مبارك إلى الحكم كان مكرم يشغل منصب رئيس تحرير المصور. ما جعله حاضرًا في كافة لقاءات الرئيس، تقوم فلسفة مكرم في كيفية التعامل مع الرئيس على مبدأ “خد وهات”.

“العلاقة بين الصحفي والرئيس هي علاقة خد وهات، وعلى قدر توجيهك لهذه العلاقة تسطيع أن تحتفظ لنفسك بمسافة صحية مع الرئيس”. هكذا لخص مكرم الفلسفة التي يجب أن تحكم علاقة الصحفي بالرئيس والمسئول بشكل عام.

كان يدرك جيدًا أن مبارك لا يحب الصحفيين إذ كان يراهم “غاويين شهرة وإثارة بلبلة”، لذا كانت تحركات مكرم تجاه مبارك محسوبة بدقة متناهية. كذلك كان يعرف متى يتحرك لكسب رضاه ومتى عليه أن يولي وجهه للمهنة والقراء.

حظي “مكرم” برضا مبارك وكان أحد أشهر الصحفيين وتولى منصب نقيب الصحفيين لـ4 دورات: 1991-1989، و1993-1991، و2001-1997، و2009-2007. ما اعتبره البعض دليلًا على رضى النظام السياسي عن مكرم. لكن في الغرف المغلقة كانت تدور أحداث ووقائع أخرى.

مكرم ومبارك وإيران

يقول مكرم في أحد الحوارات الصحفية التي أجراها مع الأهرام وتحدث عن خلافاته مع مبارك: “في الطائرة وأمام كل الصحفيين. اختلفنا، أولاً، حول إيران. كان رأيي أنه من الضروري أن تكون بيننا وبينها علاقات. لكن مبارك تصور أن مناقشاتي المستمرة مع المشير أبو غزالة هي التي وضعت في ذهنى ذلك. كان أبو غزالة يتفق معي في أن علاقتنا بإيران ستضبط وضع مصر في الخليج. وتكون في الوقت نفسه، حائط صد ضد صدام حسين الذي كان يأخذ منا الأسلحة ويشيع أن المصريين تحولوا إلى تجار سلاح. كان يقول أمام حزبه، إننا لا نعطيه السلاح لأننا قوميون، بل لأننا نريد المال. لذلك فاتحت الرئيس في هذا الموضوع. ذهبت إلى إيران ولما عدت قلت له: اعتقد يا سيادة الرئيس أنه كان يمكن لك أن تؤثر في سير الحوادث، لأن محمد خاتمي كان يحتاج إلى مساندتك في مواجهة المحافظين. فقال لي: يبقى إنت بقى مستفيد منهم؟ هذا ما حدث بالضبط فأحمر وجهي وأصفر، ولما رآني هكذا عاد قبل أن يدخل الكابينة وقال لي: أوعى تزعل، وافتكر إنك كنت بتقول عن الإيرانيين إنهم مش كويسين. فقلت له: حصل، لكن هذا لا يمنع من إقامة علاقات معهم. وأضفت: أنا عاتب عليك يا سيادة الرئيس. لأنك تقول هذا الكلام وأنت تعرف من هو مكرم محمد أحمد؟”.

ثم اختلفنا حول الانتخابات الأخيرة في 2010. قلت له: “أحمد عز هيخرب البلد. وكتبت أن هذه الانتخابات مزرية وخاصمتْ الواقع المصري وأدت إلى تفاقم علاقة الحكم بالشارع المصري”.

حسب مكرم ظل الخلاف قائم لمدة عام ومن ثم عادت الأمور إلى طبيعتها من جديد. راح حكم مبارك وجاءت الثورة ون بعدها بدأت مرحلة جديدة في حياة نقيب الصحفيين الأسبق.

تقارب وتباعد وتكريم

كان مكرم صاحب موقف واضح من جماعة الإخوان. كذلك لم يترك مجالًا إلا وتحدث عن مساوئ النظام الإخواني وكيف سيكون تأثيره السلبي على البلاد لعقود طويلة. وبعد انتهاء حكم الجماعة بثورة أطاحت بهم، بدأ نجم مكرم محمد أحمد يبزغ من جديد.

لا شك أن مكرم محمد أحمد يعرف طريقه في عتمة الليل، وخبراته مع الأنظمة السياسية المختلفة جعلته قادرًا على أن يطرح نفسه على المسئولين الجدد. فكان له نصيب الأسد عندما أسند إليه منصب رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، مع تأسيسه عام 2017. وهو السلطة المعنية بالإشراف عن وسائل الإعلام الخاصة والحزبية من صحف وقنوات.

على خلفية توليه المنصب الجديد، وجهت انتقادات شديدة إلى مكرم. إذ أدار ما عرف لاحقًا بالأكواد الأخلاقية. كذلك أنزل العقوبات على كل من يخالف رأي المجلس. لذا وصفه البعض بالسوط الذي سلط على الصحفيين، فكان يكبل الصحف والمواقع بعقوبات مالية ضخمة تنذر بإغلاق تلك المواقع لعدم قدرتها من الناحية المالية. وكان مكرم في رأيه أن الأمر كان ضروري أن يحدث. إذ أنه في أعقاب الثورة كانت هناك فوضى إعلامية يجب تداركها والانتهاء منها وإعادة الانضباط.

لم يدم كرسي المجلس الأعلى كثير، خرج مكرم من الباب الكبير، إلا أنه تعرض لما وصفه بـ”سخافة” من قبل البعض. قال مكرم: “عند الحديث عن الصحافة لابد من وجود حرية تتسع لقول الرأي. كل الصحفيين المصريين يعرفون جيدًا قيمة الدولة ويعرفون مايقولون دون إحداث مشكلات”. كما لفت إلى أنه تم منع مقال له من النشر.

اختلفت الآراء حول مكرم ودوره، لكن لا يختلف اثنان عن موهبته ومسيرته التي دامت لـ50 سنة كاملة. إلى أن جاء الموت ليغيب الكاتب الصحفي الكبير.