عندما لوح الرئيس عبدالفتاح السيسي بأن تبعات تعنت الجانب الإثيوبي في أزمة سد النهضة ستنتج حالة من عدم الاستقرار وسيدفع الجميع ثمنًا باهظًا لها. بدا أن خلف التحذير الأخير رسالة لكافة الأطراف المعنية باستقرار المنطقة. خاصة تلك البلدان العربية صاحبة الاستثمارات الأفريقية بأن يعيدوا حساباتهم من جديد بحسب تفسيرات عدد من الخبراء.
كما أنه بدا واضحًا أن أزمة سد النهضة وصلت إلى طريق مسدود، وأن هناك مناوشات قادمة لا محالة. في ظل حالة ترقب من البلدان العربية ذات الثقل (المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية) والتي عرف عنهما دعمها الدائم لمصر إلا أن موقفهما في أزمة سد النهضة كان مختلفًا.
سد النهضة.. المصالح الاقتصادية تتحكم
في أعقاب الفشل المستمر في أزمة سد النهضة، بدأت مصر تتحرك تجاه الدول العربية من أجل الحصول على دعم دولي يسمح لها بمواجهة إثيوبيا دبلوماسيًا. وبالفعل عمد سامح شكري وزير الخارجية المصري إلى الانطلاق في جولة إلى الدول العربية شملت الأردن، والعراق، والسعودية والإمارات. من أجل توحيد الموقف العربي تجاه التعنت الإثيوبي. خاصة في ظل تخوفات مصرية من انقلاب الجانب السوداني في أية لحظة.
المفاجأة أن الزيارة جاءت مخيبة للآمال. إذ لم تسفر عن أي دور واضح للدول العربية وعدم التحرك تجاه إحراج إثيوبيا دوليًا أو تمثيل ضغط دولي عليها. لذا لم يتم الإفصاح عن ما وصلت إليه المباحثات العربية في أزمة سد النهضة.
أدركت مصر جيدًا أن المصالح الاقتصادية للدول العربية تقف حائلًا أمام البوح بموقفها والبحث عن مصلحة مصر. إذ سيكون موقفها مبني على تقييم مدى تأثر مصالحها الاقتصادية.
من ناحية أخرى، تملك السعودية والإمارات أصولًا في إثيوبيا والسودان يمثلان بالنسبة إليهما مصدر أمن للغذاء والثروة الحيوانية. لذلك يبدو أن أي محاولة لأي من البلدين للوساطة ستشوبها شبهة الانحياز لإثيوبيا من أجل تدعيم الأمن الغذائي.
في أعقاب تلك الزيارة طرحت كلا من السعودية والإمارات رغبتها في الوساطة بين مصر وإثيوبيا. إلا أن الطلبات قوبلت بنوع من التجاهل وعدم الاهتمام. إذ أدرك القائمون على ملف سد النهضة أن أي تدخل من السعودية والإمارات سيكون مخالفًا لتوقعات مصر لذا يجب تنحية وتحييدهم من الأزمة بشكل كامل.
خريطة الاستثمارات الخليجية في إثيوبيا
في عام 2008 أطلق الملك عبدالله بن عبدالعزيز، مبادرة تحت عنوان “الاستثمار الزراعي الخارجي” والتي بدأت أولى محطاتها في إثيوبيا. إذ استطاعت أن تحصل على آلاف الأفدنة للزراعة خلال السنوات القليلة الماضية. ومن ثم لحقت بها الإمارات لتتحول إثيوبيا ومن بعدها السودان إلى سلة غذاء متاحة بشكل دائم لأهل الخليج.
آنذاك، بلغت الاستثمارات السعودية في إثيوبيا 629 مليون دولار في مجالات الزراعة والتعدين. ومع مرور الزمن زادت إلى أن وصلت إلى نحو 50 مليار ريال أي 13.3 مليار دولار. إذ تتنوع المشاريع الاستثمارية في مجالات مختلفة أهمها الزراعة، حيث يشارك السعوديون في أكثر من 294 مشروعًا استثماريًا في البلاد.
عمدت دول مجلس التعاون الخليجي إلى استثمار أموال طائلة في القطاع الزراعي في إثيوبيا والسودان، واعتبارهما مصدرًا للأمن الغذائي. خاصة أن مشكلة الأمن الغذائي وقلة المحاصيل الزراعية التي اندلعت منذ عام 2007 -2008 كان لها أثر كبير. كما أنها دقت ناقوس الخطر من احتمالية نقص المواد الغذائية في حال عدم توفر مصدر ثابتًا منها.
“العمودي” ودعم سد النهضة
يُعد رجل الأعمال السعودي الإثيوبي محمد حسين العمودي، أحد أبرز الوجوه السعودية في إثيوبيا. إذ بدأ في رحلته هناك على مدار عقود من الزمن إلا أن وتيرة الاستثمارات زادت بعد مباركة الملك عبدالله. إذ كانت أولى تحركات العمودي – الإثيوبي المولد – باستثمار 200 مليون دولار في مزارع الأرز بمنطقة جامبيلا الفقيرة. ليبدأ خطة طويلة الأمد من أجل زيادة ثروته وتأمين مصدر للتمويل في إثيوبيا بشكل دائم.
تنوعت استثمارات العمودي صاحب الثروة التي تبلغ 8.5 مليار دولار، في مجالات متنوعة وليست الزراعة فقط. إذ تدير شركته Midroc منجم الذهم التجاري الوحيد في إثيوبيا. فضلًا عن إنشاء أكبر مصانع لإنتاج الإسمنت في إثيوبيا عام 2011.
وحسب تقارير إثيوبية، إن العمودي تبرع بأكثر من 88 مليون دولار لصالح سد النهضة. ما أثار التساؤلات حول موقف السعودية الداعم للسد ومحاولات كسب ود الإثيوبيين لفتح مجال للاستثمار بشكل أكبر وأوسع. خاصة في مجال الزراعة لما يمثل من أهمية لدى السعودية.
بالفعل حصلت شركة سعودي ستار، المملوكة لـ”العمودي”، على حق انتفاع لنحو 100 مليون متر مربع لمدة تصل إلى 50 عامًا. ومن ثم إضافة 4 ملايين جدد على أن يكون إيجار السنوي لكل فدان نحو 9.42 دولار سنويًا.
لذا يمكن القول بشكل جازم أن السعودية ضالعة باستثمارات في إثيوبيا في أهم مجالين أولهما المجال الزراعي وثانيهما صناعة الأسمنت.
استثمارات الإمارات
من ناحية أخرى يتجاوز حجم استثمارات الإمارات في إثيوبيا حاجز المليار دولار، حيث بدأت أولى خطواتها في 2014. قبل أن تطور وتتحول إلى نقطة استثمارية ضخمة في عام 2016 حيث تم توقيع اتفاقية جمعت كل من إثيوبيا والإمارات. إذ تتيح الاتفاقيات المبرمة بين البلدين حرية الاستثمار في كافة المجالات دون خوف.
تتنوع الاستثمارات الإماراتية في إثيوبيا، حيث يوجد نحو 21 مشروعًا في مجال الزراعة، و37 في مجال الصناعة، و7 في حفر الآبار. وأخيرًا 5 في التعدين والسياحة.
وبحسب بيانات هيئة الاستثمار الإثيوبية، ترتكز الاستثمارات الإماراتية في قطاعات الزراعة والصناعات الزراعية 21 مشروعًا، والصناعة 37 مشروعًا. كذلك العقارات وتأجير الآلات وتقديم الاستشارات بواقع 20 مشروعًا، والإنشاءات وأنشطة حفر الآبار 7 مشاريع. وأخيرًا التعدين والصحة والفندقة بواقع 5 مشروعات.
ومن المقرر أن يتم زيادة الاستثمارات خلال الفترة المقبلة، إذ تم تدشين نحو 59 شركة إماراتية جديدة للبدء في عدة مجالات مختلفة.
مسك العصا من المنتصف
تقف السعودية والإمارات في منتصف الطريق، تخشى أن تسير في اتجاه إثيوبيا والسودان وتخسر مصر بثقلها الكبير. وتخشى أن تسير باتجاه دعم مصر وتخسر مصدر دائم للغذاء واستثمارات بالمليارات.
خسارة مصر بثقلها التاريخي والاستراتيجي تمثل تحديًا كبيرًا في وجه الإمارات والسعودية. خاصة في ظل حالة التقارب المصري التركي الحاصل خلال الأيام القليلة الماضية. فضلًا عن خسارة بن سلمان وبن زايد في حال حدث تقارب مصر إيراني لذا تظل تلك التخوفات عالقة في الذهن وعنصر دفع لدول الخليج لدعم مصر. بينما يظل الهاجس الآخر متمثلًا في الاستثمارات المالية الضخمة للبلدين في إثيوبيا والسودان.