قفز التاريخ الفرعوني إلى أجندة اهتمامات المصريين في الأسابيع التي سبقت شهر رمضان، قبل أن ينغمس الجميع في جرعة المسلسلات الرمضانية، فقد كان موكب المومياوات ثم مسلسل الملك “أحمس” عناوين للفخر والجدل والسجال والنقار، وبينما سيطرت نقاشات إيقاف مسلسل أحمس على تريند مواقع التواصل الاجتماعي بسبب الصورة التي ظهر عليها عمرو يوسف بطل المسلسل بذقن وأدوات حرب ليست من الفراعنة في شيء، فإن جدالات أخرى على الهامش كانت قد طرحها المسلسل الموقوف وقبله الموكب الملكي.

سفر الخروج.. الفراعنة واليهود تاريخ من الصراع

كانت هيئة الفنان عمرو يوسف التي تصدرت البوسترات الدعائية لمسلسله الموقوف أقرب لهيئة الهكسوس القادمين من بلاد الشام أو من منطقة الهلال الخصيب، قبائل رعوية زحفت إلى مصر وحكمتها لفترة حتى أطلق الملك سقنن رع والد أحمس حرب التحرير ضدهم والتي انتهت في عصر الملك الشاب، بل إن بعض الآراء الأكاديمية تطرح إن الهكسوس هم اليهود نتيجة للصراع الاثني الكبير بين المصريين من ناحية والعبرانيين اليهود من ناحية أخرى وهو الصراع الذى يعتبر تيمة أساسية في سفر الخروج مما يوحي وأن بطل المسلسل الموقوف كان أقرب للهكسوس منه إلى الفراعنة.

في كتابه الشهير قراءة في العهد القديم، مقدمة للإنجيل العبراني يطرح البروفيسور الأمريكي باري باندسترا عدة فرضيات حول سفر الخروج والوجود اليهودي في مصر، فيشير إلى إن اليهود تواجدوا في مصر ربما بفترة تسبق ظهور موسى بسنوات طويلة، فقد وصلوا إلى خزائن مصر في عهد يوسف الذي لعب دور الوزير لأحد الفراعنة وظل اليهود في مصر حتى جاء أحد الفراعنة وقرر استعبادهم فعملوا بالسخرة، وهي السردية التي سجلتها جدران أحد المعابد الفرعونية والتي يظهر فيها لونين مختلفين لبشرة عمال بناء ذوي البشرة الفاتحة ويعتقد إنهم اليهود وذوي البشرة السمراء وهم المصريون وقد كانت النقوش تشير إلى إن هؤلاء السمر أصحاب اليد الطولى على العمال ذوي البشرة الفاتحة، مما رجح فرضية ثانية وهي إن الفرعون المذكور في النص التوراتي هو رمسيس الثاني حيث تنتمي تلك الجداريات إلى عصره بينما تظل تلك الرواية ضعيفة ولا تحظى بإجماع أكاديمي كبير.

في سفر الخروج تتشكل معالم الصراع بين جماعتين بشريتين يسكنان منطقة جغرافية متقاربة وتظهر ألفاظ النص العبراني وهي تصنع متقابلات تؤكد على تلك الصورة فيظهر الفرعون المصري الظالم الذى يقتل الأطفال مقابل موسى الطفل العبراني البريء وهو ما يلفت نظر البروفيسور كريستوفر هايس الذى يشير في كتابه عن العهد القديم إلى تلك الروح الاثنية التي سيطرت على السردية الرئيسية لسفر الخروج. يظل هذا العداء ممتدا طوال السفر حتى ينتهي بلحظة خروج موسى من أرض مصر وعبور البحر الأحمر مع الشعب العبراني المختار في رحلة العودة إلى أرض الميعاد.

دور الله في التاريخ العبري

يؤكد باندسترا إن دور الله في التاريخ أحد أهم ملامح فهم العهد القديم فالتاريخ في أسفار العهد القديم ليس مجرد سرد للأحداث بل هو تاريخ مقدس يرتبط بالدور الذي يلعبه الله مع شعبه المختار “بني إسرائيل” فإذا أحسنوا عبادته أغدق عليهم نعمه وأسس لهم مملكة إسرائيل وإذا غضب عليهم وقعوا في السبي ومن ثم فإن الله يحرك هذا التاريخ فعندما وقع اليهود في السبي البابلي وهو محطة بارزة في هذا التاريخ، فإن هذا السبي جاء كعقاب إلهي للعبرانيين نتيجة شرورهم وابتعادهم عنه دون أن يرتبط ذلك بتداعي المملكة سياسيًا أو اقتصاديًا.

لا يقتصر دور الله في التاريخ على الأحداث التوراتية القديمة بل هو دور ممتد، ففي مقال يحمل عنوان المعنى الديني لحرب الستة إذ أيام  كتب  عدد من اليهود الأرثوذكس في أحد الدوريات الأكاديمية العالمية عام 1968 أراد الباحثون إيجاد تفسير للتفوق العسكري الإسرائيلي فاعتبروا إن هذه الحرب هي عودة للحوار بين الله والإنسان الذى ظن بعضهم إنه انتهى ودخل التفوق العسكري الإسرائيلي تحت غطاء التفسير الديني، في المقابل فإن الكثير من باحثي العهد القديم يتمسكون بنظرية تفرق بين “تاريخية نصوص الإنجيل العبراني” وبين التاريخ كعلم بمعنى إن هذه السرديات التاريخية التي يتبناها العهد القديم لا تعني بالضرورة إن كل تلك الأحداث وقعت بالفعل خاصة إذا غابت الأدلة الأثرية أو المرويات التاريخية التي تدعم حدوثها مثل قصة طوفان نوح التي لا يؤيدها التاريخ ولا تنتصر لها الأركيولوجيا بينما تطل في الإنجيل العبراني كسردية أساسية تبرز علاقة الله بالإنسان.

فراعنة أم مصريون قدماء؟

يظل الاسم “فرعون” أحد أكثر الأسماء الملتبسة لدى قطاع من الباحثين المتدينين الذين يربطون الفراعنة المصريين بفرعون موسى الوارد ذكره في القرآن، فتصب اللعنات على الفراعنة تارة، ويتم تكفيرهم تارة أخرى، إلا أن اللافت للنظر إن الصفحة الرسمية لقناة اون تي في نشرت ما اطلقت عليه بحثا يرفض استخدام كلمة “فراعنة” وينتصر للمصطلح “مصريون قدماء” باعتباره التسمية الصحيحة وهو أمر يخلو تماما من أي دقة علمية.

لقد زعم صاحب هذا البحث إن فرعون هو اسم لأحد الفراعنة وليس لكل الملوك المصريين القدماء وهو أمر لا وجود له في التاريخ المصري ولا على جدران المعابد فلم يعرف المصريون القدماء ملكا يحمل الاسم “فرعون” بل كان لقبا لمن يحكم تلك الدولة الشهيرة في الشرق.

يشير الباحث مينا فؤاد توفيق مدرس العهد القديم بكلية اللاهوت الأسقفية إلى أن مصطلح فرعون مشتق من الكلمة اليونانية المصرية القديمة per’aa، والتي تعني “البيت الكبير” وقد أطلقت على القصر أو البيت الملكي. ولكن، ومنذ الأسرة الثامنة عشر، بدأت تُستخدم للإشارة إلى الملك نفسه كلقب ملكي. هذه المعلومات ليست محض افتراضات أو استنتاجات، لكنها موثقة جيدًا بالنصوص والنقوش المصرية القديمة.

يؤكد توفيق : “يمكن العثور بسهولة على استخدام لقب فرعون باعتباره لقبًا ملكيًا للملك في نصوص مثل لوحة الداخلة، ونصوص الكرنك الكهنوتية والتي توثق أول استخدام لفرعون كلقب رسمي للملك (النص 3 ب)”.

ويشير توفيق: “يمكن العثور على نصوص أخرى في العمل المكون من خمس مجلدات لجيمس هنري برستد: النصوص المصرية القديمة، حيث حاول المؤلف ترجمة ونشر جميع السجلات المكتوبة القديمة للتاريخ المصري التي بقيت حتى وقت عمله في بداية القرن العشرين”.

التاريخ الفرعوني.. بين الدين والدراما

تظل مصر الفرعونية رافدا أساسيا ساهم في صنع شخصية مصر المعاصرة كدولة قديمة ذات حضور طاغي في التاريخ، بينما يتداخل هذا التاريخ مع موجات مختلفة من التدين تحاول إبعاده عن علميته لصالح تفاسير عمياء يصبغها أصحابها كل بلونه الذى يريد.

ربما ساهم موكب المومياوات الناجح في إيقاف مسلسل ازدحم بالمغالطات التاريخية دون أن يعرض كاملا، ولكن الحدثين معا قد كشفا على السطح عن اهتمام شعبي ورغبة حقيقية في فهم تراث الفراعنة.

————

مراجع

1- Reading the Old Testament: Introduction to the Hebrew Bible 4th Edition, by Barry L. Bandstra

“2- The Religious Meaning of the Six Day War: A Symposium,” Tradition: A Journal of Orthodox Jewish Thought,1968

3- Christopher B. Hays, Hidden Riches: A Sourcebook for the Comparative Study of the Hebrew Bible and Ancient Near East