رمضان كريم، عزيزتي القارئة، عزيزي القارئ، وكل عام وأنتما وكل من تحبان في خير ونور وسلام ومحبة. بهذه التحية أكمل حديثي معكما عن صمت الإسلاموفوبيا.

لعلي محقة في الاعتقاد بأن الكثيرين والكثيرات سيتفقن معي في القول إنه من المشروع انتقاد سلوك الحركات الأصولية الإسلامية السياسية، تسيسها للدين، أيديولوجيتها، واستراتيجيتها في استخدام تهمة الإسلاموفوبيا لتكميم أفواه كل من ينتقدها، ولمنع أي نقد لقراءتها للدين، الذي تعتبره القراءة الوحيدة للإسلام.

لذا سأنتقل إلى بعد آخر في هذا النقاش: هل من المشروع انتقاد الدين الإسلامي أو رموزه؟

في الدول ذات الأغلبية المسلمة، قوانين الإساءة للدين تظل سيفًا مسلطًا على رقاب كل من يجرؤ على التفكير خارج السرب.

من أراد ألا يؤمن بالإسلام أو أي دين، أو تحول إلى دين آخر، يُعاقب بالردة.

من اجتهدت وسَعت إلى إصلاح الدين، تُعاقب بالاستهزاء بالدين أو بالخروج عما هو “معلوم من الدين بالضرورة”.

قوانين تمنع التفكير قبل أن يبدأ.

تخاف منه – من التفكير.

أضرب لكما مثلاً بقضية الباحث الجزائري في العلوم الإسلامية والتصوف، سعيد جاب الخير.

الباحث جاب الخير يقف اليوم في الجزائر متهمًا بالاستهزاء بالشعائر الدينية و”المعلوم من الدين بالضرورة”.

والغريب أنه يقف أمام المحكمة بسبب شكوى تقدم بها أستاذ جامعي.

أقول “الغريب” لأن من يُدّرس في الجامعة يفترض فيه أن يكون باحثًا، يستخدم مناهج فكرية نقدية، وأساليب بحث عقلانية، تعُمل العقل لا الغيب في الدراسة.

في كل الأحوال، برر الأستاذ الجامعي شكواه أمام القاضية قبل أسبوعين بالقول إنه “تضرر نفسيًا من منشوراته المستفزة، والمستهزئة بالدين”، مشيرًا إلى أن الإسلام والرسول الكريم مقدسان في الجزائر، والمجتمع والقانون يمنع المساس بهما تحت أي عنوان “العربي الجديد 1 أبريل (2021)”.

قانون العقوبات في الجزائر لديه بالفعل نص خاص بازدراء الأديان. المادة 144 من قانون العقوبات تنص على أن كل من أساء إلى الرسول عليه السلام أو بقية الأنبياء أو استهزأ “بمعلوم من الدين بالضرورة أو بأية شعيرة من شعائر الإسلام، سواء عن طريق الكتابة أو الرسم أو التصريح أو أية وسيلة أخرى”، يعاقب بالسجن لمدة “من ثلاث إلى خمس سنوات، وبغرامة مالية من 50 ألفًا إلى 100 ألف دينار (100 دينار يعادل 1.3 دولار)، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط”.

لكن ماذا قال الباحث جاب الخير كي يُتهم بأنه خرج عن المعلوم من الدين بالضرورة؟

قال إن الحج عادة وثنية وإن الإسلام أقرها بعد ذلك. وأن عادة الأضحية تنتمي أيضًا تاريخيًا إلى هذه الفترة.

هذا ما قاله.

وهو لم يخطئ في عبارته، فما قاله هو معلوم من التاريخ بالضرورة.

هي حقيقة تاريخية.

الكثير من الشعائر الدينية الإسلامية التي نمارسها، كالحج، الصيام وطريقة الصلاة وعددها، كانت موجودة من قبل في شبة الجزيرة العربية، والرسول الكريم أدمجها في الشعائر الإسلامية.

على سبيل المثال الصلوات الخمس، كانت موجودة من قبل في الدين الصابئي التوحيدي، الذي ذُكر بالخير في القرآن الكريم في الآية 62 من سورة البقرة.

ليس في قول ذلك ما يستدعي الثورة والغضب. فالأديان عادة ما تستوعب العادات المتواجدة قبلها بصورة تمنعها من الصدام مباشرة مع معتقدات الناس.

حدث هذا مع الدين المسيحي من قبل، كما حدث مع الدين الإسلامي فيما بعد. (للمزيد عن هذا الجانب يمكن تنزيل وقراءة قراءة كتاب أبكار السقاف، الدين في شبه الجزيرة العربية، بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، 2004).

لذا أكرر، القول بإن الحج كان عادة وثنية أقرها الإسلام لا يناقض الحقائق التاريخية. بل هي موجودة ومكتوبة في كتب الفقهاء والتاريخ، والقرآن نفسه.

شعائر الحج التي نقوم بها متواجدة قبل الإسلام، وفي قصة الحجر الأسود، وهو نيزك يقدسه البعض، التي درسناها في السيرة النبوية للرسول الكريم ما يظهر صحة هذا القول.

قبل البعثة، تقول السيرة النبوية، قامت قريش بتجديد الكعبة. وحين هموا بوضع الحجر الأسود في مكانه اختلفوا بينهم على من يقوم بوضع الحجر، باعتبار أن كل منهم أراد أن ينال “شرف وضع الحجر الأسود في مكانه”، وعندما بدأ النزاع يدب بينهم، اتفقوا في الاحتكام لأوّل رجل يدخل عليهم في البيت الحرام، فإذا بالرسول عليه السلام قادم، “فهتفوا جميعهم بالصادق الأمين رضينا، وأخبروه بنزاعهم”، فأشار الرسول الكريم “عليهم بوضع الحجر الأسود على ثوب، ثمّ أمر كل قبيلة بمسك طرف من الثوب ثمّ القيام برفعه جميعاً”، وحمله الرسول عليه السلام “ووضعه في مكانه وأنهى النزاع فيما بينهم”.

ألم يكن الحج متواجدًا عندما قام الرسول بحل الخلاف بين أهل قريش وقبائلها “الوثنية”؟

القول بإن الحج، ومعها ذبح الأضحية، كان عادة وثنية أقرها الإسلام لا يخالف ما هو معروف من الدين أو التاريخ. فقريش والعرب كانوا يفدون على الكعبة ويمارسون شعائر الحج، كالصفا والمروة، ويذبحون الأضاحي، فأقر الرسول الكريم هذه الشعائر كجزء من شعائر دينه الجديد.

أعود وأكرر، ما قاله الباحث موجود في كتب التاريخ والفقهاء والقرآن الكريم نفسه.

وأن هذه الممارسة في إدماج تقاليد سابقة في شعائر دين جديد حدثت في أديان أخرى كالمسيحية. دين الإسلام الحنيف ليس استثناءً.

وسور القرآن الكريم نفسها تظهر لنا تاريخية النص والشعائر التي وردت فيها.

لكن ذلك لمن يتدبر.

لكن ذلك لمن تُفكر.

فعلام الغضب إذن من حقيقة تاريخية معروفة واتهام باحث بالتجديف والكفر؟

كيف رد الباحث سعيد جاب الخير على هذه التهمة؟ يقول إنه عرض رأيه في مجال ديني، هو مختص فيه، لكنه يكتب بأسلوب شعبي مفهوم، ولذا هوجم (فرانس 24، 16 مارس 2021).

لو كتب بأسلوب الطلاسم الذي يحبه بعض الباحثين والباحثات، لصمتوا.

لكنه يكتب بأسلوب تفهمه العامة. فأصبح خطرًا.

فرج فودة قُتل بسبب ذلك. لأنه كان قادرًا على الوصول بأسلوبه السلس البسيط إلى شريحة واسعة من الناس. فأصبح خطرًا.

وقال جاب الخير إنه يدعو “للاجتهاد لا للجهاد”.

ولأنه يفعل ذلك، يحاكم اليوم بتهمة “إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة”.

“إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة” ليس إلا أداة تستخدم للحفاظ على رؤية متخشبة للدين، تصر عليها بعض المؤسسات الدينية التقليدية، وحركات الإسلام السياسي.

وهو ما يحيلني من جديد إلى موضوع هذه السلسلة. سألتكما في بداية هذا المقال: هل من المشروع انتقاد الدين الإسلامي أو رموزه؟

يميل بعض من طلابي وطالباتي إلى الرد بالنفي.

من وجهة نظرهم/ن: يتوجب احترام حساسية المسلمين والمسلمات عندما يتعلق الأمر بدينهم/ن.

انتقاد الدين بصفة عامة أمر مقبول بالنسبة لهم/ن طبعًا، لكن الدين الإسلامي تحديدًا وبسبب ما حدث منذ نشر سلمان رشدي لروايته، ثم رسوم الكاريكاتير الدنماركية، ثم رسوم مجلة شارلي أبدو الساخرة، كل هذه الأحداث، جعلت الرد يأتي بالنفي.

ومع احترامي لوجهة النظر هذه، تمامًا مع احترامي للشعور المجروح للأستاذ الجامعي الذي رفع القضية على الباحث جاد الخير، أعتقد أنه من المهم الدفاع عن حرية انتقاد الأديان ورموزها.

كي لا تتحول إلى كهنوت.

كي لا يصبح “تفسير للدين” سببًا لقتل إنسان، أو سجنه.

كي لا يتحول الدين إلى سلاح يؤدي إلى محاكم التفتيش التي نعايشها اليوم في منطقتنا.

أسألكما، كيف يُفترض بنا أن نُصلح دينًا إذا كانت ردة الفعل الدائمة هي التشهير أو السجن أو الموت؟

كيف نوقف إساءة استخدام السلطة عندما يقال لنا إن الشخصيات الدينية والتعاليم والرموز مقدسة يجب ألا تمس؟

ثم كيف نقوم بإدخال إصلاحات اجتماعية عندما يقال لنا إن الأديان مقدسة ولا يجب انتقادها؟

والحديث يطول، أكمله معكما بعد أسبوعين.

للاطلاع على مقالات أخرى للكاتبة.. اضغط هنا