لا شك في أن الإعلانات أحد أهم مصادر التمويل للمحطات التلفزيونية على مستوى العالم. كما أن شهر رمضان في مصر هو الفرصة الأكبر لحملات التسويق الإعلانية، التي تحاول استغلال الإقبال الجماهيري الكبير على مشاهدة الأعمال الدرامية خلال هذا الشهر. ومع هاتين الحقيقتين فإن الفواصل الإعلانية التي تتخلل العمل الدرامي خلال السنوات الماضية وصلت إلى حد أنها قد تفوق في وقتها مدة العمل المعروض نفسه. أو كما يقول المصريون ساخرين: “أصبحنا نشاهد فاصل درامي وسط مسلسل الإعلانات وليس العكس”. وهو أمر فتح تساؤلاً منطقيًا حول: ما هي الشروط والأحكام المفترض أن تخضع لها الإعلانات التلفزيونية؟ وهل من حق المتفرج المشاهدة بدون فواصل؟

الفواصل الإعلانية والاختيار وحق الجمهور

بحسب المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، يجب ألا تقل مدة الإعلان عن 10 ثوان. هذا مع إمكانية زيادة سعر الإعلان المشروط بنسبة 50% عن سعره الأصلى طبقًا للسياسة التسعيرية لكل قناة. ويكون الحجز بالأسبقية. ومن ثم ترسل طلبات الحجز أو التعديل أو الإلغاء إلى إدارة كل قناة قبل موعد التنفيذ بـ 48 ساعة. مع توزيع المواد الإعلانية بالتساوي على القنوات التابعة للفضائية الواحدة.

ومع ذلك فقد تلقى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام شكاوى عدة بشأن عدم تنظيم الإعلانات التي يتم بثها أثناء المسلسلات المعروضة خلال شهر رمضان 2021. ووصف أصحاب الشكاوى هذه الإعلانات المطولة بأنها بمثابة “اعتداء على حق الجمهور”. وقال بعضهم إن دخول القنوات في ماراثون الإعلانات لا يخدم الأعمال الدرامية ولا الهدف من إنتاجها.

وكان مجلس إدارة الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية برئاسة تامر مرسي أعلن السبت إذاعة الحلقة الخامسة من مسلسل “الاختيار 2″ بدون فواصل إعلانية. وبرر المهندس حسام صالح، المتحدث باسم الشركة، قرار التنازل عن حصيلة الفواصل الإعلانية المسبق حجزها كون الحلقة تحتوي أحداثًا مهمة مرت في تاريخ مصر.

كما وجه المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام إنذارًا للقنوات الفضائية. حيث شدد على ضرورة التزام القنوات بضبط فترات الإعلانات التي تذاع أثناء المسلسلات. وطلب التوقف عن الإسراف والتطويل الذي يفسد حق الجمهور في المشاهدة والاستمتاع بالأعمال الدرامية.

أيضًا، أشار المجلس، في بيانه، إلى أنه سيضطر للتدخل لحماية للمشاهدين. إذا لم تلتزم القنوات من تلقاء نفسها بتقليص المساحات الإعلانية. واستند في ذلك إلى ما نصت عليه المادة 70 من قانون المجلس رقم 180 لسنة 2018، والتي تعطى المجلس الحق في تحديد حد أقصى للمادة الإعلانية إلى المادة الإعلامية والصحفية في جميع وسائل الإعلام والصحف.

ما يحدث في سوق الإعلان المصري خلال الموسم الأكثر زخمًا

خبراء الإعلام والإعلان تحدثوا عما إذا كان من حق المشاهد رؤية العمل الدرامي كاملاً بدون فواصل إعلانية. أم أنه يشهد خدمة مقدمة له دون مقابل -بحسب رأي البعض- وبالتالي إذا لم يقبل بالإعلانات فعليه الاتجاه إلى المنصات المدفوعة لرؤية العمل دون فواصل إعلانية طويلة ومملة.

هنا، يعلق الناقد الفني رامي عبدالرازق على كم الإعلانات المعروضة بالشاشات. فيقول: “إن ما يحدث على الشاشات لا يحدث في أي مكان بالعالم.. هناك فترات ومساحات إعلانية محدودة ومعروفة توقيتاتها، بدون أن تتقاطع مع دورة المشاهدة للمتفرج”. ويضيف: “إلا أن ما يحدث هنا العكس تمامًا، يتم عمل تشويش للمتفرج أثناء المشاهدة فيمكن أن يتم عرض فاصل إعلاني بعد كل دقيقتين من المسلسل وهو ما يعكس فوضى وعشوائية في صناعة الإعلانات”.

ذلك يؤدي -وفق عبدالرازق- لحالة نفور لدى المتفرج الذي يُدفع إلى إلغاء جدول المشاهدة كله في رمضان. والحقيقة أن ما يحدث من وجهة نظر القنوات والمعلنين ويعتبرونه نجاحًا هو فشل كبير جدًا. خاصة أن عام كورونا جعل شريحة كبيرة جدًا تتجه إلى المنصات الرقمية. وبالتالي كورونا سرعت الانتقال إلى المنصات المدفوعة. “كل يوم هناك شرائح تخرج من نطاق مشاهدة التلفزيون وهو ما يعني خسارة كبيرة لفكرة التلفزيون العادي والقنوات المتاحة”.

يرى عبدالرازق أن قرار عرض الحلقة الخامسة من مسلسل “الاختيار 2” بدون فواصل إعلانية أكبر تأكيد ودليل قاطع على أن الجميع يعلم مدى غضب ونفور المشاهد من الإعلانات وعدم توافقها مع السياق الدرامي. وبالتالي تقرر أن تكون الحلقة بدون فواصل إعلانية.

تقليص حجم الإعلانات لحماية المشاهد

من وجهة نظره، يرى عبدالرازق أن الحل يكمن في رؤية تجارب الدول الأخرى في كيفية التعامل مع الإعلانات في التلفزيونات المفتوحة. “دورته كم دقيقة، توقيتات محددة” لأنه لا يجوز أن أشاهد مسلسل وأتوحد مع الشخصيات المقدمة له ثم أقطع ذلك بإعلان. فالمسألة يتم التعامل معها من منطلق تجاري بحت. دون فهم لمنظومة المواد المرسلة والمستقبلة في مجال الإعلام.

عن أحقية المشاهد في الاعتراض على الإعلانات، أكد عبد الرازق أن جزءًا كبيرًا من المسلسلات هي إنتاج الشركة المتحدة المملوكة لإحدى مؤسسات الدولة. وبالتالي هذا الإنتاج الدرامي من أموال الدولة هو في الأساس من أموال دافعي الضرائب. وبالتالي إنتاج غير مباشر من الدولة. “هنا، من حقي المشاهدة بدون فواصل لأن المواد منتجة بفلوس ضرائب المواطنين وليس من حق أحد توجيهي للمنصات المدفوعة، لأنه بالتالي المواطن هنا سيدفع مرتين”؛ يقول عبدالرازق.

أساتذة الإعلان يرون أن هناك عدم التزام بالقرارات التي صدرت بتقليص حجم الإعلانات لحماية المشاهد. حيث أنه يوجد حد أقصي لنسب الإعلانات في الأعمال وما يتم عرضه لا يتناسب أبدًا مع النسب الطبيعية المقررة. كما يتعارض مع الذوق العام. ولا يتم تطبيق مواثيق الشرف كما يحدث في كل الدول. ما تسبب في عزوف المشاهد عن الأعمال الدرامية بسبب الإعلانات التي تتخلله.

هنا، يتحدث الدكتور حسن علي، أستاذ الإعلام ورئيس جمعية حماية المشاهدين والمستمعين والقراء، عن غياب مؤسسات الدولة ودورها الرقابي على ما يحدث. فأصبح من حق أي شخص أن يقوم بعمل أي شئ. رغم أن هناك مؤسسات موجودة طبقًا للدستور والقانون دورها محاسبة هؤلاء المخالفين. وبالتالي عدم قيامها بذلك، فهو إما تواطئًا أو جهالة بدورها  وصلاحيتها.

تغير توجه الدولة الاقتصادي

يرى أستاذ الإعلام أن المجلس الأعلى للإعلام له قانون تنظيم وصلاحيتها للمحاسبة على نسب الإعلانات الموجودة في المسلسلات. المدة المعروفة 5 دقائق لكل ساعة وفي دول الاتحاد الأوروبي 10 دقائق لكل ساعة. وإذا زاد يقع على المؤسسات غرامات وتتحول للتحقيق أيضًا. إلا أن المجلس وجهاز حماية المستهلك لا يقومون بأي من ذلك.

جمعية حماية المشاهدين تقوم بمراقبة ومتابعة وتقديم البلاغات والتقارير لهذه الجهات سنويًا. لأن المنتجون يرغبون في جمع تكلفة المسلسل قبل نهاية الحلقة 30. فضلاً عن إعلانات الشحاتة التي أساءت لصورة مصر في العالم كله والتي تزيد بشكل سنوي. فهناك تقصير فادح من المجلس الأعلى للإعلام. فضلاً عن محتوى الإعلانات فهذا أمر آخر. لافتًا إلى أن المجلس يمكنه أن يقف البث ويعطل المحطة أما أمر الإنذارات فهذا عبث. وبالتالي أول من يُسال هنا هو المجلس المختص، وفق ما يوضح الدكتور حسن علي.

يؤكد رئيس جمعية حماية المشاهدين أن هناك معايير إعلانية معروفة للإعلانات ومساق شرف موجود وملزم. فضلاً عن الأكواد التي وضعها المجلس نفسه، ولكن لم يُلزم بها المؤسسات.

الباحث في العلوم السياسية ممدوح مكرم يقول إن جذور الموضوع بدأت عندما تغير توجه الدولة الاقتصادي وأصبحت تتجه إلى سياسات التكيف الهيكلي. قديمًا كانت الإعلانات موجودة لكن ليست بهذا القدر من الفجاجة. وبالتالي كان هناك استمتاع بالإعلانات والعمل الفني أيضًا. إلا أن الطريقة المُتبعة اختلفت.

ويرجع الأسباب إلى أن اختيارات الدولة اتجهت لتشجيع القطاع الخاص، ووكالات الإعلانات ومصالحها المتشبكة مع منظومة رجال الأعمال، وأصبحت الفكرة تجارية مرتبطة بترويج السلع والبضائع بهدف خلق حالة سعار استهلاكي لدى المواطنين، وأصبح الخطاب الاقتصادي يخاطب فكرة الاستهلاك وليس الادخار والاستثمار وإنتاج شيء مفيد، فنرى إعلانات عن موبايل أحدث موديل رغم أن كل الموبيلات تمنحنا نفس الغرض وهكذا.

مع تجذر ثقافة الاستهلاك ينتج هنا تبديد للعملة الأجنبية التي تحتاجها الدولة في أمور أهم خاصة مع استيرادنا لأغلب السلع تقريبًا. ويرى مكرم أن المواطن هنا يتم التعامل معه في مجتمع رأسمالي وتحويله لسلعة حتى بدون إعلانات. لكنها تزيد من فكرة سلعنة المواطن. فضلاً عن أننا أصبحنا غير قادرين على مواكبة هجمة السلع هذه.